زمن البيولوجيا السياسية

الجمعة 2021/01/01
غرافيك "الجديد"

البيوسياسي أو البيولوجيا السياسية، المصطلح الذي ابتكره ميشيل فوكو، يتجسد الآن على أرض الواقع بانتشار فايروس كورونا، حيث يذهب بعض المفكرين إلى القول إن السلطة وجدت في هذا الجائحة فرصة لبسط نفوذها عن طريق الحجر الصحّي والتباعد الاجتماعي بدعوى إنقاذ الناس من الهلاك. فماذا يعني بالضبط وما هي أبعاده اليوم وآثاره في المستقبل القريب؟

لم يواجه الجميع جائحة كوفيد – 19 وجرائرها بالطريقة نفسها، فإن بدا التفاوت الاجتماعي جليّا خلال الحظر الصّحي، بين من يتمتع بظروف إقامة مرفّهة، وبين من وجد نفسه في جُحر ضيّقٍ ضيقَ زنزانة، فإن المواقف من قرارات السلطة كانت هي أيضا تختلف باختلاف الموقع الاجتماعي والتكوين العلمي، حيث قنع السّواد الأعظم من الناس بما تمليه الحكومات لكونهم لا يملكون حيلة أمام “ليفياتان”، بينما انتقدت النخبة كل قرار يصدر عن الحكومة، ورأت فيه تحريك بيادق على رقعة ما فتئت تنحسر، تمهيدًا لمصادرة الحريات وبسط هيمنتها كاملة على سائر أوجه الحياة.

فكل ما ظهر خلال هذه الفترة التي بدأت منذ مطلع السنة الماضية صار لدى عدد من المفكرين في عداد البيوسياسي، كذا الكمامة واختبار تفاعل البوليميراز المتسلسل (سي بي آر) والحجر الصحّي وغلق المقاهي والخمّارات والمسارح والمتاحف ودور السينما وما شابه.

بل إن التساؤل حول الحل الأجدى بين صيانة الاقتصاد أو إنقاذ العجائز والعجّز، عُدّ اختيارا بيوسياسيا، وتحديد البؤر المشبوهة وتعقّبها رقميّا اعتبرا مراقبة بيوسياسية، والرسائل المتكرّرة الموجهة إلى المواطنين لحثّهم على ملازمة التباعد الاجتماعي هي في نظرهم تربية بيوسياسية.

ميكائيل فوسّيل - تأسيس المجتمع على الخوف من فيروس هو ما يهدّدنا
ميكائيل فوسّيل - تأسيس المجتمع على الخوف من فيروس هو ما يهدّدنا

ولم تسلم من ذلك التصنيف لا الإدارة ولا الشرطة ولا المستشفيات، فكل قرار يُتّخذ فيها يصنَّف في خانة البيوسياسي، حتى كادت جائحة كوفيد – 19 تتحول في تقديرهم إلى احتفال بالبيوسياسي كما قال المفكر ماتيو بوت بونفيل، الذي يذكّر بأن تلك الأسئلة، التي تقع اليوم في صميم هذه اللحظة البيوسياسية القصوى، سبق أن طرحها فوكو.

لقد اكتشف العالم، على نطاق واسع، أن السياسة لم تختف خلف الاقتصاد، مثلما اكتشف أنها في وجهها الحالي الذي أملاه الحفاظ على الحياة أخذت شكل البيوسياسي، خصوصا بانحصارها في إجراءات صحية واسعة أدت إلى حالة طوارئ وما تبعها من مصادرة للحريات، فصار السؤال الذي تطرحه الجائحة على الحكومات: الحرية أم الحياة؟ ولا مناص حينئذ من العودة إلى فوكو، الذي كان أول من صاغ المصطلح عام 1976 في آخر فصل من كتاب “إرادة المعرفة” عنوانه “حق الموت والسلطة على الحياة”، لاحظ فيه الانقلاب الذي حصل بعد نهاية العصر الكلاسيكي بشأن حقّ الحياة والموت الذي يختص به الحاكم، فقد كانت سلطته على حياة رعاياه هي قبل كل شيء حق الموت، إذ هو لا يملي عليهم كيف يعيشون حياتهم، ولكنه يملك حق سلبها منهم عن طريق انتزاع ثرواتهم وخدماتهم وعملهم وقواهم وحياتهم أيضا.

ومنذ القرن السابع عشر، وبصفة أخص خلال القرن الثامن عشر، صارت الحياة نفسها غاية السياسي، حيث تعلق الأمر بتنمية الموارد وزيادة القوى الحية وتسييرها، فكان ذلك إيذانا بمولد الرأسمالية. عندها تحولت السلطة إلى بيوسلطة شعارها “اجعله يعيش واتركه يموت” وفق نموذجين، أولهما، وهو الذي أطلق عليه فوكو “أناتومو سياسي” (أو سياسة الجسد) يخص جسد الفرد من حيث ترويضه ومراقبته وتجويد مردوده، ويتم ذلك في كل المنظومات التنظيمية كالمدارس الدينية والجندية والسجن ومستشفى الطب النفسي. والثاني يتركز على الرعية التي تتم إدارة مساراتها البيولوجية كالتكاثر والولادات والوفيات والصحة والعمر الحيوي. ثم ظهرت علوم جديدة كعلم الإحصاء وعلم السكان وعلم الأوبئة… وغاية جديدة حيث لم يعد يُنظر إلى السكان كمجموعة أفراد، بل كمنظومة مدّ وميول، وبالتالي كفنّ جديد في الحكم.

ميشيل فوكو – الجسد غاية البيوسياسي
ميشيل فوكو – الجسد غاية البيوسياسي

وبين السلطة على جسد الأفراد وتسيير الرعايا توجد الجنسانية. يقول فوكو في “إرادة المعرفة” ربما ليس القتل هو أعلى وظيفة للسلطة، بل اقتحام الحياة من كل جانب، لحمايتها ولكن لتدجينها أيضا. وبذلك يشمل البيوسياسي بمعناه الواسع الطرائق القسرية للنظام والمراقبة والتحكم والعقاب، والطرائق المرنة الأفقية في تسيير الرعايا وحكمها. وهذه الطريقة الجديدة في الحكم هي الليبرالية. أما بخصوص مواجهة السطلة للأوبئة، فقد بيّن فوكو في “جنيالوجيا السلطة” أن الغرب لم يكن له سوى نموذجين بارزين: أولهما إقصاء المصابين بالجذام خارج المدينة، لكون الجذام يعدي باللمس، ما يفرض منع اتصال المصاب بفرد أو جماعة منعًا باتًّا، أي أن المصابين “يُلقَوْن إلى الموت”. وهو إجراء صحّي يغذيه الحلم بمجتمع نقيّ، ويحضر في المؤسسات الاجتماعية كالسجن ومستشفى الأمراض العقلية ومستشفى الطب النفسي، حيث ينوب عن المجذوم الفقيرُ والمهمّشُ والمسجونُ والمختلُّ عقليا…

وثانيهما حجر المصابين بالوباء، لكون الوباء، بخلاف الجذام، لا يُرى بالعين المجردة في طور اختماره، ومن ثَمّ يعامَل الناس جميعا كما لو أنهم مصابون به، فيجدون أنفسهم في حَجر لا يغادرونه إلا بإذن، حيث “كل فرد حبيس قفصه، واقف في نافذته ليجيب دعوة الدّاعي، ويطلّ منها حين يُطلب منه ذلك”، أي أنّ السلطة تدير رعاياها كلهم في فضاء واحد تُخضعه لمراقبة دقيقة، حيث يعمل العزل الفردي أو الجماعي على تعزيز التحكم والمراقبة وتفريع السلطة لأن نمط الحكم في التعامل مع الوباء يهدف إلى إيجاد رعية سليمة في مجتمع منظَّم. ما يعني أننا مع جائحة كوفيد – 19 وجدنا أنفسنا أمام الجذام والوباء في الوقت نفسه، أي أن الجسد، فرديّا كان أم جماعيّا، تشريحيّا أم اجتماعيّا، هو في نظر فوكو غاية البيوسياسي. ولكن أيّ حياة يثيرها البيوسياسي؟

ثمّة تعارض في التقليد الفلسفي لا يزال قائما، ففي اليونانية القديمة لفظتان: زُوِ  (zoè) وتعني الحياة البيولوجية والعضوية والحيوانية؛ وفي مقابلها بِيُوس (bios) التي تعني الحياة المعيشة، في ظل التاريخ والثقافة وظروف العيش والنواحي الاجتماعية التي تصنعها، فعندما يقول أرسطو إن الإنسان “حيوان سياسيّ” فإنه يربط الإنسانية بالطبيعة زُوِي، لكي يميزه عنها، ولكن عندما يعرّف حياة المدينة أو الحياة السليمة، يستعمل عبارة بيوس. وحنّة أرندت تستعمل هذا التمييز في كتابها “وضع الإنسان المعاصر” لتقف على خطّ الفصل، وهو جليّ عند القدامى، بين الحياة العائلية المنذورة لتأمين الشروط المادّية الأكثر تفاهة، الحيوانية تقريبا لضمان العيش، وبين الحياة العامة. ولكن هذا الفصل يميل إلى الزوال في عصر الحداثة ليحلّ محلّه اكتساح المشاغلِ اليومية للفضاء العام، وهو ما يهدد السياسي بالخطر في نظر أرندت التي تلتقي مع ما لاحظه فوكو، ولكن مع الإلحاح على ضرورة أن يكون السياسي منفصلا عن البيولوجي. مثل هذا التمييز هام جدّا للتفكير في الإجراءات المتخذة ضدّ الجائحة: أيّ حياة نحمي؟ الصحة البيولوجية على حساب الروابط الاجتماعية؟ ولكن ألا يشكّل الحرمان من الروابط خطرا قاتلا لدى بعض الناس؟ ثمّ ما هي الحيوات المعرّضة أكثر من سواها، لكي يقبل المجتمع التضحية بها أو لا يوليها قيمة؟

صورة
لوحة سارة شمه

إن الاحتجاج على غلق المقاهي والخمّارات مثلا أو إجبارية وضع الأقنعة هما تعبير عن أن الحياة ليست فقط الوقاية من الموت البيولوجي؛ في حين أن تضامن المهاجرين في مخيم موريا باليونان، الذين تخلّت عنهم الحكومات وتجاهلتهم الإجراءات الصحية، أنقذ ما هو حيويّ، ما يعني أن زوي وبيوس في الواقع لا ينفصلان.

ولا يعني ذلك أن كل المفكرين يوافقون ما ذهب إليه فوكو، فالفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين مثلا يجعل من زوي، التي يترجمها بـ”الحياة العارية” موضوع نقده الوحيد، فيجعل البيوسياسي سياسة موت (تاناتو سياسي) حيث يحصر الإنسان في حياته العارية، أي المجردة، مثلما يجعل المعسكر شكلَ تلك الصيغة النهائي، ومثلها معسكرات اللاجئين ومعسكرات الخدمة الإجبارية كالغولاغ ومعسكرات الموت النازية. فالمعسكر، أو المخيم، هو في رأيه حالة استثنائية يهيمن عليها ناموس البيوسياسي، وحاضنة مخفية للسياسة، بمعنى أن الدولة الديمقراطية البيوسياسية هي نظام شمولي بالقوّة، وهو ما يفسّر مبالغة أغامبين في نقد الحجر الصحي، كان نشره في مارس من العام الماضي، حيث ألمح فيه إلى أن الجائحة وُجدت عمدًا حتى تتمكن الدول من فرض حالة الطوارئ.

في “أصول التوتاليتارية”، كانت حنة أرندت أوّل من اهتدت إلى البعد البيوسياسي – ولو أنّها لم تستعمل المصطلح – للنازية، وأكدت أن مفاهيم المجال الحيوي والنقاء العرقي تؤدي إلى صناعة بشر غير طبيعيين. كما لاحظت نشأة مفهوم العرق في القرن التاسع عشر، خاصة عند أرتر دو غوبينو (1816 – 1882)، صاحب “مقالة في عدم تساوي الأعراق”، حيث كتب يقول “في نهاية القرن كان الكتاب يتناولون بشكل طبيعي المسائل السياسية في صيغ بيولوجيا وزولوجيا”، ولكنها لن توافق قطعا ما ذهب إليه أغامبين من أن الديمقراطية تحمل في طياتها أثر الشمولية.

ولو فرضنا جدلا أن مصطلح البيوسياسي يجمع تحت سقف واحد كل الرهانات السياسية والفلسفية المتباينة في الظاهر، والتي تخص الكائن الحيّ، كالجوائح الحالية وربما المستقبلية، والصحة عموما، والمفاهيم العلمية للحياة والموت، والعلاج، ومجتمع المراقبة عن طريق التكنولوجيات الرقمية، والعلاقات بين الإنسان والكائنات، والتنوع البيولوجي، والمناخ، وامتداد الأعمار، والديمغرافيا العالمية، وتزايد التفاوت، وما بعد الأنسنة، والتكنولوجيات الحيوية، والذكاء الصناعي… فإن السقف يصبح من الاتساع ما يجعله عديم الأهمية.

فريديريك فورمس – الأنسنة الحيوية بدل البيوسياسي
فريديريك فورمس – الأنسنة الحيوية بدل البيوسياسي

هذا مثلا فريديرك فورمس يعترف أنه لا يشاطر فوكو تحليله التاريخي للحداثة، ويعتبر أن نهاية السبعينات كانت “لحظة الكائن الحيّ” وشكلت منعرجا في مجالات الفلسفة والمعرفة والسياسة، فالإيكولوجيا وعلوم الإدراك واكتشاف أهمية العلاج الحيوية مهّدت لظهور الكائن الحيّ ضمن المتطلبات المعاصرة. غير أن فورمس، وإن أيّد الجانب الوصفي لـ”بيوسياسية” فوكو وعارض جانبها النقدي، يقرّ أن لها صلة بتلك الحركة، ويرى هو أيضا أننا نعيش اليوم عصر البيوسياسي، وما حماية الحياة إلا ناقل سياسي، فنحن نصمد بفضل العلاج والعمل على حماية الكائن الحيّ، ولكننا نتصدى لتجاوزات السلطة عن طريق المداولات الديمقراطية.

إن تثمين العلاج، الذي يسمّيه الفلاسفة الرعاية (care) يستعيد سلطة القس البروتستانتي التي جعلها فوكو إحدى مصادر البيوسياسي الحديث. وهو نفس المسار الذي اتبعه فورمس وأرد أن يتأسس على الدفاع عن الحيوي، أي كل القوى التي تصمد أمام الموت، كالصحة ودعم الناس الأكثر هشاشة وكذلك التربية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ما يجعلنا نمرّ من البيوسياسي الذي تحدوه إنتاجية الأجساد، أي تلك التي وصفها فوكو، إلى بيوسياسي يحركه الوعي بإمكانية العطب. وفورمس لا يسمي ذلك بيوسياسي بل يفضل تسميته بالأنسنة الحيوية، ما يسمح باحتضان مشاغل أخرى غفل عنها فوكو كحماية كوكب الأرض والطبيعة والتنوع الحيوي.

برونو لاتور، من جهته، دعا إلى قيام ما أسماه إرادة عامة إيكولوجية قادرة على الضغط على الحكومات، مع توسيع مبدأ الحياة، وحتى الحياة السليمة، والصحة لاحتواء مفهوم “قابلية الإقامة على الأرض”، لأن العودة إلى البيوسياسي، حتى في وجهه الجديد، لا يمكن أن يفرض نفسه في ظل مشروعية الإجراءات الصحية ضد كوفيد – 19.

حنّة أرندت – ضرورة أن يكون السياسي منفصلا عن البيولوجي
حنّة أرندت – ضرورة أن يكون السياسي منفصلا عن البيولوجي

أما ميكائيل فوسيل، فيعتقد أننا نمرّ ربّما بمرحلة فوكوية، إذا اعتبرنا أن السياسة نفسها تحركها النزعة الصحية وتقتحم أكثر مناطق الحيوات حميمية، ولكن تأسيس المجتمع على الخوف من فايروس هو ما يهدّدنا. ويضيف “لست في حاجة إلى فوكو كي أتأمل تركيز السلطة حول مبدأ حفظ الحياة، هوبز يكفيني”.

ذلك أن المفكر الإنكليزي يبيّن لنا أن ما يميز الإنسان رغبته في البقاء. ولكن إذا تُركت تلك الرغبة لحالها فسوف تخلق قانون الأقوى وحرب الجميع ضدّ الجميع، أي عكس حفظ الحياة التي تهدف إليها. فالدولة عند هوبز تسمح بالخروج من ذلك التناقض القاتل، ولكنها “ليفياتان”، أي سلطة حاكمة تملك وحدها حق ممارسة العنف الشرعي بوضع الجميع في حالة خوف، ما يدفعهم إلى الالتزام بعقد يستبدلون من خلاله الأمان بالحرّية، لأن الفعل السياسي عند هوبز هو ما يقطع مع الوضع الطبيعي.

ويخلص فوسيل إلى أن مصطلح بيوسياسي لا يسمح بفهم هذا، لأن فوكو لا يعالج الحقوق والقانون والعقد الاجتماعي ولا الدولة. ولذلك يخشى أن ندخل، إن كان لا مفر من العيش مع الفايروس، في لحظة هوبزية، دليله على ذلك عودة النزعة السيادية القومية والهووية بقوة. ففي اللحظة التي نكتشف فيها هشاشتنا وعجز السلطة، تقوى أوهام السيادة التي يُنظر إليها كحصانة. وعندما نرى في الآخر تهديدا حيويّا، نمر بسرعة من الفايروس إلى الجسد الغريب، ومن جسد الغريب إلى كراهية الغريب.

لا شكّ أن أشكال السلطة والمخاطر التي تهدد الحياة هي بصدد التغير. وإذا بات مصطلح البيوسياسي فارغا لكثرة اتساعه، فإن وسائل الصمود أمامه ما زالت قيد الإعداد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.