زيارة الجحيم

الجمعة 2016/04/01

كلُّ الحروف لن تكون يومًا على قياس الفجيعة. مأساة طفل صغير لا تنقلها كل الروايات مهما أبدع الراوي، فكيف باشتعال الأحلام واللهو الجهنمي على امتداد رقعة الاستبداد العربي، وجغرافية القمع الدّيني الفارغ إلا من قدرته على البطش وسحر العقول.

اعتدت ككاتب لبناني على لحظات الدّم الكثيفة. هي العفن اليومي الذي يأكل نضارة حياتنا، والأحلام. الدّم مرات كان بيولوجيًا، ولزجًا، ينسكب فوق إسفلت العنف والتفجيرات والاغتيالات. ومرات هو دم إنسانيتنا يفرُّ من عروقنا، ليتركنا جيفًا انتهازية تقتات من أقدام الرقاب الشامخة لتدفعها إلى السقوط.

وحين امتدَّت نيران العفن إلى أرض سوريا المتخفِّية عن الأقدار المحيطة بها، كان الدّم قد جفَّ في توقعاتي، وطعنت إيجابيّتي في السن. كنت دائمًا ككاتب، أفتّش عن عالمي الخاص لأصنع منه كوكبًا معقَّمًا متعاليًا عمّا لا يمكن إنعاشه بالتفاؤل. بحثت طويلًا في داخلي وكلّ المجرات، عن الأسرار والألغاز والمعنى، فاستسغت ثراء الكون بالمجهول، وفضَّلته على دروب الانهيار، حتى تلك التي يعرِّيها الرّوائيّون بفجاجة جنونهم. تركت لتدوينات الإعلام والتكنولوجيا شرف عدِّ القتلى، وقلت إنَّ عليَّ أن أكون في مكان آخر. أن أخلق سفري، وأرضي، وهواجسي، ودرب رحلتي القصيرة على هذه الأرض. فهل ينفع البكاء كل حين؟ لماذا لا أشغل عقلي بما لا أعرف، فأكفّ عن مشاهدة الجثث على الشاشة، وحفلات الرقص على الجثث؟ لو كانت أرضنا تنتج عقولًا أكثر، وأفكارًا أوسع، ومتديّنين أقلّ، لما فاض الدّم أنهارًا في أرض العسل واللبن!

ربما هذه خيانة، قد يقذفني بالقول أحدهم. إذا لم يكن الرّوائيّ ابن أرضه، ومعاناة الناس في داخلة ومن حوله، والكلمة الصارخة في بريّة هذا العالم، فمن يكون؟ وماذا يكون؟

حسنًا، هناك من يفعل ذلك. من يفقأ الجرح حتى يشهق الصراخ. من يروي الخيبات، والقمع، وجور الحكام، ودهاء التسلط، ولوعة الأرض التي تُربّينا وتقذفنا خلف البحار لنهرب من انحطاطها وفسقها. الراوي عليه أن يزور هذا الجحيم، وقد يختار البقاء فيه. غصّت في هذا المستنقع في روايتي “الملح الفاسد”، وأفرغت ما في صدور الكثيرين فوق الورق. وقلت بعدها إنني لن أترك الأرض جغرافيًا، بل سأتركها بفكري وأبحث عن الإنسان. من يكون؟ وماذا يمكن أن يكون؟ لو نفهم ذاتنا والكون أكثر، لما علقنا في كل هذه الفخاخ المتوحِّشة.

الدّم لن يكفَّ عن الإحاطة بي من كلّ جانب، وقد يكون دمي يومًا هو الغذاء الجديد للوحش، لكنّ عقلي يريد أن يكشط قشرة الجهل، ليلمح النور ولو من بعيد. وقلمي هو آلة التصوير.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.