سأخبرك عزيزي ما الذي جذبني إليك
لحظات الصمت البيضاء يخدشها صوت حبات البن وهي تتحرك يمنة ويسرة في (القلاية) (1)، تبعاً لحركة الملعقة الهادئة التي تلتف حولها أصابعها الناحلة، يدها الثابتة التي تتحكم في هذا الطقس لا تدل على امرأة في الستين، أرتفعُ ببصري شيئاً لا يبدو من وجهها من هذه الزاوية وهي تنظر إلى الأسفل مطرقةً تكاد تلامس المقلاة سوى أنفها البارز، شعيرات سوداء معاندة نسيها الزمن تطل من شعرها الأجعد القليل
• لا أحبّه طويلاً.. تقول
وهي في عز شبابها تعمد إلى قصّهِ، تكمل به سلسلة من الفعال التي تكسبها خفة الحركة كما تقول، كلامها المتعجل، خطواتها المتسعة، ملابسها التي هي أقرب إلى ملابس الرجال
من بين همهماتها: طق… طق…. طق… التي ترددها دائماً كأنها تقلد صوتاً صادراً من قلبِ حبات البن، جاء صوتها معفراً برائحة هذه المرحلة من القهوة:
- ونحن في هذه السن؟
مجيبة على دعوتي للخروج في نزهة إلى الجزء الغائم من الحب، كما كنا نسميه قبل خمسين سنة.
وأردفت: ما الذي جعلك تلتفت إليّ، أسأل نفسي هذا السؤال بجدية بعد أن خرجنا إلى الجانب المشمس من الحياة، أو قل بعد أن تحرّرت من هذه الكذبة.
طقس الحب نصف غائم، هذه المقولة السحرية التي آمنا بها، لا أذكر متى سمعتها أول مرة ولا كيف آمنت بها أو قل كيف آمنّا بها أنا وهي، في حالة الحب يحدث تواطؤ غريب بين المحبين تتلاقى أفكارهما.
كنتُ أصدق كل أكاذيبك، الجزء الغائم من طقس الحب، هناك جزء غائم أعني ذلك الذي تغيب فيه الشمس التي ترى على ضوئها الأشياء كما يجب أن تكون، تراني أجمل النساء وأنا لستُ كذلك، هذا تأثير سكرة الحب التي تعتريك.
الظلُّ المسكر، خذني مثلاً ما أن أراك حتى تأخذني حالة السكر هذه، أبدو طيبة إلى حد البلاهة، تصور لم أفكر يوماً أن أقول لك لا، مهما قلت لي، أنت كذلك أراك تترنح عندما تراني مجرد دخولك مجالي.
أنظر إلى هذين اللذين يسيران معاً، هو في كامل صحوه، لكن أنظر إليها إنها في حالة انجذاب كامل يعيشان طقسين مختلفين تماماً.
تقترب مني أكثر ونحن في ذلك الظل الرفيع ننتظر الحافلة التي أصبحت تأتي في أوقات متباعدة.
أحب هذا الانتظار معك. أنظر إليهما كم تبدو سعيدة، لا يعنيها الحر ولا طول الانتظار بينما هو ضجر متأفف.
الحياة أصبحت أكثر عنتاً، الفقر الذي يلون الوجوه، المعاناة التي وأدت البريق في العيون، الرهق من مطاردة الأحلام الصغيرة بعد تنحّي الأحلام الكبيرة نهائياً، كنا قادرين رغم ذلك على العيش في حالة فرح دائم.
تتصاعد رائحة البن، تأخذني بعيداً، تجتمع حياتنا السابقة في لحظة ذكرى مضغوطة، تنشّرها رائحة البن، دون أن ترفع رأسها:
هي سكرة الحب، الجزء الخمري من الحياة، لن تجيب على سؤالي أعرف ذلك، لن تقول لي ما الذي جذبك إليّ، سأتجاوزه إلى سؤال آخر: ما الذي جذبني إليك، لماذا تنظر إليّ هكذا؟ ألم تسأل نفسك هذا السؤال من قبل؟ سأقول لك.
توقّفت الحافلةُ انقضّ أكثر من مئة عليها، ابتسمت وأنا أراها جالسة في مكانها، كيف تمكنت من ذلك، حجزت لي مكاناً بجانبها.
لا فرق بين البنت والولد إلا بهذا التصنع، والرقة الزائفة وأنا لا أحتاجها فقد دخلتَ طقسي ولن أفْلتك، تنظر من شباك الحافلة:
• أنظر إليها تقف متصنعةً الرقة، تريد أن تظهر له أنها الأكثر رقة من بين بنات حواء، لو تأكدَتْ من حبه لها لما احتاجت لكل هذا العناء.
يعجبني فيها تجاوزها كثيراً من التفاصيل، لا تقف إلا عند العناوين الرئيسة في الحياة ما يجعل فهما سهلاً جداً.
أذكر يوم رأيتها أول مرة وأنا أقدّم لها أوراقي طالباً وظيفة في الشركة الصغيرة التي تعمل بها:
• يمكنك المرور بعد أسبوع.
• رفضوا طلبك لن يوظفوك لستَ ممن يبحثون عنهم، الأمر يا عزيزي لا يتعلق بالمؤهلات وغيرها، يمكنك أن تأتي مرة ثانية، كما قلت لك لن يوظفوك، لكن يسعدني أن أراك ثانية.
لم تثر دعوتها هذي اهتمامي، أخذت أوراقي، لا أدري ماذا حدث لكنني وجدت نفسي بعد فترة في مكتبها، ابتسمَتْ ابتسامةً فسيحة، بعد نصف ساعة كنا نجلس متقابلين في ذلك المطعم الصغير من تلك التي انتشرت مؤخراً في العاصمة لا يميز الواحد منها شيئاً عن غيره، الديكورات، نوع الوجبات المقدمة، البنات القادمات من إحدى دول الجوار يقدمن خدماتهن بغنج ممجوج:
• كنت متأكدة من أنك ستأتي، لن أقول لك لماذا الآن لكن سأقول لك لاحقاً.
تنقّر على المائدة دون توتر من ذلك الذي يعتري الفتيات في اللقاء الأول عادة، تبدو كأنها خارجة من أحد أفلام الأبيض والأسود، ألوان ملابسها هادئة جداً، لا تضع طلاء ولا أصباغ، تحس أن صوتها يسبق حركة شفتيها.
قالت بثبات صدمني:
• أحببت أن أراك ثانية، ربما أحببتك من أول نظرة كما يقولون.
نساؤنا يوارين مشاعرهن خلف صمت شاهق، تحدثت معي بمنتهى الطلاقة، لم تهتم كثيراً بتحفظي، قالت ما لديها، ودَعتني بثقة إلى لقاء آخر بعد غد في نفس المكان والموعد قالت لي:
• لا تنسَ الموعد.
حتى دون أن تسألني ما إذا كنت سآتي أم لا.
• منذ ذلك اليوم وأنت تريد أن تعرف ما الذي جذبني إليك، سأقول لك…
وضعت البن في (الفندك)(2): سأجيبك على هذا السؤال الشرس، سألتني كثيراً وأجبتك آلاف المرات ومازلت تنتظر إجاباتي، أستمتع بمتابعتها وهي (تفنْدكُ) البن، خمسون عاماً، وأنا أحترم انكفاءها على نفسها في هذه اللحظات، على إيقاع لحن كردفاني (3) جميل تتهشم حبات البن رويداً رويداً، في هذه اللحظات أسلم من حصار ثرثراتها، التي بدأتها يوم الزفاف، ونحن نسير بين المدعوين، كانت تضحك وتثرثر، وتسرّ لي بهمساتها وملاحظاتها على المدعوين.
- كوني كما ( العروسات) خجولة، تعثري في فستانك، أظهري ارتباكاً ستحفظه لك كبيرات العائلة
- كلهن كاذبات؟
-كبيرات العائلة؟
-لا العروسات
حالة الضحك التي اعترتنا وكسرت زجاج الوقار الزائف، دفعنا ثمنها طويلاً.
( البت عينها قوية) (4)، سرت الهمسات، تلاقت الرؤوس، تناثرت الغمزات…
• عينها قوية إذن تم الحكم عليّ لن أحتاج للتصنع، سأتصرف كما أشاء، مثل هذه الأحكام لا تُستأنف.
على هذه القاعدة مضت حياتنا، امرأة متمردة على كل شيء.
• إلا عليك، الجزء الغائم، تضحك كما اعتادت بصوت عالٍ، تحرجني هذه الضحكات عندما نكون في مكان عام، نتشاجر، وسرعان ما نتراجع عندما نعود إلى البيت.
تريدُني المرأة التي رسمتها حكايا (الحبوبات) (5) في ذهنك، لا لن أكونها، لا أستطيع.
نعم هي لا تستطيع أن تكون تلك المرأة، والثمن في رأيها ليس باهظاً فهو لا يتعدى ازدراء كبيرات العائلة اللاتي ينعتنها أحياناً بـ(محمد ولد) (6)..
أنظر إليها وهي تحاور قهوتها في صمت، لم تتغير هي نفسها، صارت من بين الكبيرات لكن لا أحد يمنحها ذلك الشرف
- مكانها مع رجال العائلة.
أسمع همسهن أحياناً، في بداية حياتنا كانت هذه الهمسات تُلقى في طريقي عمداً كي أسمعها، من صرن كبيرات الآن أصبحن أقل حدة لكنها مازالت الغريبة التي لم تندمج في هذا النسيج، الذي يرفض احتواء حتى من تحاول ذلك جاهدة.
- سأصير الأنثى التي يردن من أجل التجربة فقط، سأصير أرنبةً وأحفر في وسط الحوش (حفرة) (7) أعمق من كل التي يحفرن.
كانت العائلة تستعد لمناسبة زواج، ترتفع فيها وتيرة المنافسة الصامتة بين النساء، اقتناء أفخم الثياب، الذهب، الحناء وغيرها..
• لا أريد، غيرت رأيي، لن أكون قطعة بين هذه المعروضات الحية.
هربنا إلى حديقة عامة، قضينا اليوم هناك، أمضينا المساء في السينما.
• كنتُ أحتملكِ بصبر.
رفعت عينيها عن قهوتها: بل كنت تحتملني بحب، الحب يا عزيزي هو ما يحملك على احتمال الآخرين.
الحب هو الذي يحملها على احتمال خطوات قهوتها هذه.
• (الجبَنَة) (8) وليس القهوة كما يقول المثقفون، عندما يتعلق الأمر بـ(الجبَنَة) أنا (حبّوبَة).
وهي تثبت (الفندك) بين ساقيها جيداً، على بنبرها (9) الخشبي تذكرني بها وهي في العشرينات، كل شيء في الدنيا تغير إلا جلستها هذي، وظل الصباح الوحيد الذي لم تستطع أخذه معها في سفريتنا الوحيدة إلى الخارج.
• سنتان؟ سآخذ معي أدوات القهوة كاملة.
• إلا ضل (10) الصباح.
• سأجد ضلاً هناك
قلّب موظف الجمارك في ذلك البلد محتويات صندوق أدوات القهوة بتعجب، توقف طويلاً عند (الشرقرق) (11)، شرَحَتْ له بإسهاب ما هو وكيفية استخدامه، وأردفت ببساطتها
• إن أعجبك خذه.
تمتم الرجل بعبارات الشكر ووضعه في دولاب خلفه وهو ينظر إليه بإعجاب…
ضحكت بصوتها الرقراق وقالت: هل تذكر حادثة الشرقرق، وضعت يدي على جبهتي بسرعة، كأنما أغطي رأسي الذي بدا لي لحظتها أنه شفاف لا يخفي ما يدور داخله، تقرأ هذه المرأة أفكاري.
• نعم هو الجزء الغائم، يجعلنا شفافين، نعرف بعضنا جيداً.
ناولتني فنجاني.
• سأخبرك عزيزي ما الذي جذبني إليك يومها.
إشارات
(1) المقلاة.
(2) الهاون.
(3) منطقة في وسط السودان.
(4) الجرأة وعدم الحياء.
(5) الحبوبات: الجدّات مفردها حبوبة.
(6) تطلق على البنات اللائي يتصرفن كالأولاد.
(7) المقصود بالحفرة هنا هي (حفرة الدخان) الذي تتزين به المرأة السودانية.
(8)الجبنة: القهوة وتطلق أيضاً على الإناء الذي تقدم فيه القهوة، والذي يصنع غالبا من الفخار.
(9) مقعد خشبي صغير.
(10) ظل.
(11) إناء صغير تتم فيه تصفية القهوة قبل صبها في (الجبنة).