سبع سماوات بعيدة

مارتن لانغفورد
الأحد 2020/11/01
لوحة حسين جمعان

الأسْمَاء

إنَّهُ العامُ 1880،

مَاضِيكَ المُدَانُ

ومَا هُوَ الآنَ سِوى رجْفَةِ قَشْعَريرة لا أَكْثَرَ –

نَفَسٍ مُرتَعِدٍ فِي سَلامٍ ظَلَّ بِمَقْدُرِكَ،

فِي فَينَاتٍ، أنْ تَزْفِرَهُ

قُرْبَ نِهَايَاتِ اللَّيل.

تَضَعُ يَدَكَ عَلَى أرْضٍ صَالحةٍ لِصُنْع الطُّوبِ،

وتُحَدِّقُ فِي مَراعِي الذَّهبِ.

تَنْحَدِرُ صَوبَ ويندسور*: ظلامٌ دَامِسٌ،

وحُزَمُ سِيقَانِ غِلالٍ غَيرِ مُحْتَمَلة، تُفَكِّرُ

فِي المُسْتَقْبل، كَأَبْرَاجِ كَنِيسَةٍ - 

تَواضُعٌ جَمٌّ، قُرَىً قَرْمِيدِيَّةٌ، أيامُ عَمَلٍ طَويلةٌ؛

أعيادُ ميلادٍ، مَواليدٌ وأطفالٌ رُضَّعٌ -  ومَاذَا بَعْدِئذٍ؟

حَسَنٌ أنَّكَ لا تَقْدِرُ أنْ تُشَاهِدَ

لأنَّ مَا لا تَسْتَطِيعُ أنْ تَرَاهُ

هو المُتَواضِعُ الحَيِيُّ عَينُهُ، مَزَارِعُ فلاندرز اللَّبنيَّة –

فالاندرز - اسمُّ التَّواضُعِ هَذَا مُمَزَّقٌ

بِوُحُولِ خُيُولِ القَتْلى.

شيشينيا، أرمينيا، أَمْرِيتْسَرْ؛

لينينغراد، بياڤرا، كُورسك؛

أَسْمَاءٌ  يَقْفِزُ إليها الرُّعبُ، يَتَسَلَّقُهَا،

وَحِوْلَهَا يَرْقُصُ.

نانجنغ وأوشفيتز، هيروشيما؛

أَسْمَاءٌ كَثيرةٌ تَتَكَاثَرُ - مِثْلَ نَهرٍ

شَلالاتُهُ تتقيَّأُ الجُثَث.

أسْمَاءٌ تَلْتَفُّ حَوْلَ اللِّسانِ وتَتَدَحْرَجُ فَحَسْب.

أسْمَاءٌ يَصْعُبُ تَصَوُّرُ أنَّكَ لم تَسْمَعْ أسْمَاءَهَا

وأنتَ تُدَّخِّنُ فِي رائِحَةِ شَمْسِ المُرُوجْ.

بَغْدَادُ، تيريزينشتاتْ.

يَصْعُبُ تَخَيُّلُ

الكثيرَ الكثيرَ مِمَّا يَجْمَعُنَا، ونَتَقَاسَمُهُ.

==============

*ويندسور هي مركز استعماري مُبكِّرٌ يضمُّ مجموعة قرى، تبعدُ حوالي مسافة ساعة عن مكان إقامتي وعيشي. وهي من أوائل الأماكن الأسترالية الَّتِي كَانَ للأوروبيين أنْ يعتقدوا أنها صالحة لأن تكون مستعمرةً آمنةً وناجحة؛ حيثُ المراعى النَّهرية الخصبة اليانعة، والمحاصيل الدَّائمة الَّتِي يُمكنُ الاعتمادُ عَلَى خيرها. وقد كَانَ للتَّفكير فِي مدى اعتزاز المزارعين الأوائل بما كانوا قد أنجزوهُ، أنْ يُدهشَني، ولا سيما لجهة أنهم لم يتصوَّروا، أبداً، أنَّ قرناً من الحُرُوب والصِّراعات، قد كَانَ فِي انتظارهم:  كيفَ كَانَ ينبغي عليهم أنْ يكونوا ليُشْبهونني -  رُفَقَاءَ أستراليين مُتَشَابِهين فِي مَشْهدٍ طبيعيٍّ أستراليٍّ مَأْلُوفٍ – ولكنْ، أيضاً، كيفَ وإلى أي حدٍّ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ، فِي ظلِ وجُودِ شعورٍ مُختلفٍ تَمَاماً بما لَدَى التَّاريخ، وبما قد أَوْدَعَ فِي خَزَائِنِه.

============

الطُّيُور

سَيَهذِي غُرابٌ عَجُوزٌ طَويلاً،

مُخْتَبِراً مُبْتَكَراتِ التَّذَمُّر العَبُوسْ.

أَوْ سَيَحُطُّ عَلَى سِياجٍ آخَرَ،

مُوَبِّخَاً بِقَسْوَةٍ –

أُفَكِّرُ فِي هَضَبَةٍ حَجَريَّةٍ

إلى الأسَفْلِ مِنْ بودَوَانغز،

تُمزِّقُ السَّمَاءَ إرباً

بِتَهكُّمِهَا الفَادِحِ السَّوءِ –

الذي يَقُولُ إنَّ حَرارةَ الشَّمْسِ

سَتُديمُ مُحَاولاتِ المَخْلُوقِين.

لِمِزَاجٍ غُرَابيِّ الطَّبعِ، يُمْكِنُ للغُرَابيَّةِ أنْ تَبْدُوَ

هي النَّهجُ الذي إليهِ كلُّ الفِكْرِ يَمِيلُ. 

الغُرابُ زَانْ، العَصَا المْحَرْوُقةُ زَانْ. 

زَانُ بُوذا سَبيلُ سَيرِ الأُمورِ.  

ولَعَلَّ الغُرَابَ هُوَ كيفيةُ صَوْغِنَا الواجِبَةُ للأُمُور:

يَنْبَغِي للقَصَائِدِ أنْ تُتَمْتِمَ أصْواتَ تَبرُّمٍ –

تُطَابِقُ حَقَائِقَ الانْكِسَارْ.

آنَئِذٍ، غُرْبَانُ الْعُقْعُقِ سَوفَ تُغَنِّي.

وهَا أَنَذَا أُفكِّرُ فِي المُغَنِّينَ –

طُيُورُ الدُّجِ والوَقْواق -  وكُلُّ طأئرٍ مُتَحَفِّزٍ لِلْقَنْصِ غِرِّيدٍ –

يَنْحَتُ مَلامحَ الغَسَقِ ويَحْفُرُ المهَاوي والتَّجَاويفْ.

وَفِي كُلِّ البَّبَغاوات المُنْهَمِكَةِ فِي طِرادٍ ومُلَاحَقَاتٍ.

وَفِي البَّبغاواتِ البيضاءِ

تهزُّ أوراقَ أعاليَ الأشْجَارِ  فِي كُلِّ أرْجَاء"كُوْلَا".

وَفِي البجَعِ الأسودِ والطُّيُور الخَواضَةِ فِي الماء وطُيُور البَحْر –

هُدوءٌ، صَوتٌ مُطَوَّقٌ يُوَشِّحُ مُحَاوراتٍ مُوَقَّعَةً؛

لَحَظاتُ ضَرُورَةٍ مُلِحَّةٍ، لحَظَاتٌ لأنْ يَكُونُوا أَنْفُسَهُم –

ثِنْيَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ لِلْغِنَاء بِصَوتٍ عَالٍّ، أَوْ بِصَوتٍ خَفِيضْ:

للتَّصْفِيرِ، والسُّكونِ، والقَهْقَهَةِ، والضَّحكِ المَكْتُوم –

حيثُ يَصِيرُ ضَوءُ القَمَرِ رَمْلَ كَوكَبِ أشْبَاحٍ، عَلَى مَدَى "إكْويلَا".

===========

هَذَا الرَّقْصُ

هَذَا الرَّقْصُ:

حيثُ لا امتيازَ لأحَدٍ عَلَى أَحَدْ؛

                حيثُ العُيُونُ

                لا تُقَيِّمُ ولا تُصْدِرُ الأَحْكَامْ –

  تِلْكَ الَّتِي لا يُعَيِّنُهَا

التَّقدُّمُ، والعُلوُّ، والتَّدويرُ فِي الرُّتب ...

هَذا الرَّقْصُ:

حَيْثُمَا كَانَ، وأَيْنَمَا وُجِدَ

عَرْضٌ كافٍ/

وعَائدٌ ذو كِفاية.

حتَّى الكَلِمَاتُ – إنْ كانَتْ تُعْنَى

                بالهَوامِش والحَواشِي:

إنْ كانتْ قِصَصُهَا تَكْتُبُ أكثرَ مِمَّا هو مَحْضُ نِهَايَاتْ.

حتَّى العَمَلُ،

حتَّى الطَّحْنُ والجَرْشُ

                               عَبرَ الخُطَطِ وتِكرارِ المُتَكَرِّراتْ.

ولكنْ من دُونِ لَخبَطةِ العَدَّادَات

عَلَى لَوحَاتِ لُعبَةٍ سَرديَّة – تُوسِّعُ الرُّومَانْسِيَات

لأجلِ أُمَّهاتٍ بَدِيلاتٍ، وُكَلاءَ أَوْصِيَاءَ، ودَبَابِيسْ،

ومِنْ دُونِ مُناوراتٍ أَنَوِيَّةٍ غَرُورَةٍ يَفْتَعِلُها السَّاقَان:

مَسِيراتٌ، واسْتِعْراضَاتٌ، ومُعَانَقَاتٌ، وأَحْضَانُ نَصْر؛

هَرْوَلةُ ثَعَالبِ الفَائزينَ بالجَائزة لِأَجْلِ كلاشيهاتٍ مُتَزَامِنَةٍ؛

أَفْضَلُ رَقْصَةِ "فَالس" خَفِيفَةٍ لأجلِ جُذَاذةِ شَعْرٍ وتقريرٍ سَنَويٍّ؛

تَسْييرُ دَورِيَاتِ مِشْيَة القِطِّ بِعُيُونٍ ذاتِ مَوقِفٍ وهُوَّةِ خِلافْ ...

مُسَافِرون فِي الأَلْوَانِ- سائِقُو الرُّوتاري فِي سِبَاقٍ عَلَى التَّوافِه.

حتَّى الرَّقْصُ لم يَعُدْ رَقْصَاً:

إنْ كَانَ جُوْعَاً، عَرْضَاً، أَوْ التِزَاماً ...

ولا الرِّياضَةُ:

                حَافَظَتْ عَلَى الشُّعُور بالآخَرِ، أيِّ آخَر؛

ذاكَ مَا تَنْطَوي عليهِ القُيودُ.

أما المُتجوِّلونَ ورَاكِبُو المَوجِ فَيُمْكِنُهُمُ الرَّقْصُ –

                مع شُرَكَائهم غَيرِ المَلْفُوظِين.

والمُتَسَلِّقُون.

(والفنَّانُون – وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ

حِينَ طُقُوسُ الفَنِّ تَكُونُ "نَمَاءً").

طَالما أنَّ الآخَرِينَ لا يُحَوَّلُونَ إلى عُمْلَةٍ:

                ليسَ  لأجلِ مَنْفَعةٍ.    مَرْقُوصَاً مَعَهَا.

إذْ مِنْ دُونِهَا لا فَرَحَ سَيُوجَدُ:

                انْتِصَارَاتٌ فَحَسْبُ –

                مُسْتَقْبَلٌ فَزِعٌ

مِنْ ضَحِكِ جَمَاجِمَ

                               تَسْفَحُ الدَّمْعَ بِعُنْفٍ غَزِيرٍ عَلَى الهَدِفِ –

                المَنْبُوذُونَ

                               انْتَزَعُوا أنْفُسَهُم

مِنْ مَهْرَجَان الألْعَابِ صِفْريَّةِ الخُلاصَة .

==============

*مُحاولةٌ لِصَوغِ علاقة تفاعلٍ نَمُوذجية بين النَّاس – رقصٌ لا مُحاكمة فيه ولا امتياز لأحدٍ عَلَى أحد، وَإِنَّمَا احترام فحسب. وهناك الكثير من الرَّقصاتِ الَّتِي هي تعبيراتٌ عن الرَّغبة فِي امتلاك سُلْطةِ أَوْ قوَّة أَوْ تحقيق منفعةٍ أَوْ تحصيل أفضليَّة: لخبطةُ عَدَّادات اللَّوحات المتعلِّقة بلعبة المسار الوظيفي؛ قصصُ الحبِّ الَّتِي هي مَحْضُ أوهام بشأنِ اقتناص علاقة مع رجالٍ أقوياء؛ التَّفاخُر الفجُّ فِي الاستعراضات العسكرية (أَوْ "السَّفر فِي الألوان" أي ارتداء كامل شارات العِصَابة، كوسيلة من وسائل الرِّياء والتَّفَاخُرِ الفجِّ لدى عِصَابات الدَّرَّاجَات النَّاريَّة).

===============

لوحة حسين جمعان
لوحة حسين جمعان

هيرشل چرينسبان

إنَّه مَحْضُ صَبيٍّ

فَزِعاً، يُحَدِّقُ فِي الصَّحَافَةِ–

كامْرِئ كُشِفَت لَهُ، دُفْعةً واحدةً وعَنْ كَثَبٍ،

حِكَايَتُهُ كُلُّهَا:

هل لكَ أنْ تَتَصَوَّرَ أينَ تَخْتَبئُ الفَقِيرةُ أمُّكَ،

وَحِيدةً فِي  غُرْفَةِ المَؤُونةِ وبَاردِ الأطْعِمَة - 

تلكَ العَتْمَةُ المُطِبِقةُ بمزيجٍ من سُكَّرٍ ومَحْلُولٍّ مِلْحِيٍّ  -

فِيمَا الهَرَاواتُ والعِظَامُ

يُدَوِّي قَرْعُهَا فِي الخَارجِ، وَعَلَى الأَبْوَابِ، خَارجَ الزَّمن ...

تَتَخَيَّلُهَا تنثرُ بَعْضَ الطَّحِين،

فَيَنْتَشِرُ حتَّى أعْلَى ذِرَاعِهَا ...

لِتَلْتَقِطَ الهُدُوءَ إذْ تَصِلُهُ؛ تُريدُ وَزْنَ بُنْدِقِيَّةٍ فَقَطْ،

لِتُلاعِبَ حُرَّاسَ السَّفارة فِي مُطَارَدَاتٍ

لِتُصَوِّبَ نَحْوَ الدُّبلوماسيِّ

إذْ لا يُفْضِي الصَّفاءُ الْجَلِيُّ إلا إلى الصَّمَم ...

لِتُؤكِّدَ تلكَ الكلمة وتُلحَّ عليها بالتِّكرار،

حُبُّكَ، حُبُّكَ ...

أنْ تَمْشِي مَغْلُولاً بالأَصْفَادِ

حيثُ رُؤوساءُ الموتِ بقبَّعاتِ

الرَّقصِ والغُرابُ: يَأْتُونَ لِيَرَوا مَا قَدْ فَعَلْتَ -

الشَّوارعُ تُقْرَعُ بالعصِيِّ خَارجَ الزَّمن؛

الحَرَائِقُ المجنونةُ تُهَشْهِشُ وتُهَسْهِسُ؛

الصَّارِخُونَ نِياماً ...

قُدِّرَ لكَ أنْ تَكُونَ فِي السَّابِعَةِ عَشْرَةَ

وأنْ تَرى.

الجَحِيمُ وحْدُهُ سَيُبَرْعِمُ الآنْ.

==============

*فِي العام 1938، أطلق چرينسبان، اليهوديُّ البولنديُّ الذي يعيشُ فِي باريس، الرَّصاصَ عَلَى الدبلوماسيِّ إرنست فون راث، وذلك انتقاماً لاضطهاد والدته الَّتِي كانت مُحَاصرةً فِي ألمانيا، وترحيل والده من ألمانيا وإبعاده عنها فِي عربة نقل. وقد ردَّ النازيون بارتكاب المذابح فِي "ليلة الكريستال". أما چرينسبان فقد ألقاه الفرنسيون فِي السِّجن، ثمُ اختفى خِلال الاحتلال.

================

أليكس كُوسْتَاڤَا*

هذا الاسْمُ،

الَّذِي فَرَّ مِنْ تِبْلِيسِي –

حيثُ الثَّلجُ يَتَسَاقَطُ كَشِفَاه مُخْبِري الـ "جي پي يو"

عَلَى كلِّ مَحْصُولٍ لِرَجالٍّ جُدُدٍ؛

عَاشُوا سَنَتَينِ

فِي قَبوٍّ باريسيٍّ؛

ثُمَّ جَاؤُوا، يَائِسِينَ،

إلى حَفَاوةِ حَجَرِ الدَّمِ،

عَلَى مَرْأَىً ومَسْمَعٍ مِنَ السَّمَاءِ وضَوَاحِيهَا هُنَا –

يتنفَّسُ الآنَ

عَبْرَ تبديل خطِّ تَراصُفِ المَسَامِير  فِي رِئَتَيه:

يَجْلِسُ، مثلَ جُمْجُمَةٍ ذاتِ خَيَاشِيمَ مُشْتَعِلة،

يَلُفُّ نَفْسَهُ بِأبخرةِ دُخَانٍ بُنيٍّ –

وكأنَّ كُلَّ مَا تبقَّى لَهُ

أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، رُويداً رُويداً،

بِنَارهِ الخَاصَّة –

بعدَ أنْ قَاوَمَ صَامِداً

إكُرَاهَ كُلِّ النِّيرانِ الأُخْرَى.

==============

*  أستراليا مجتمعُ مُهاجرين، وَفِي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فرَّ كثيرٌ من النَّاس من أوروبا بعدَ الحرب العالمية الثَّانية، فِي محاولة منهم لبدء حياة جديدة، هنا، فِي أستراليا. وحين سِمعَ أليكس، الذي كَانَ جاراً لي، أنني وددتُ أنْ أكون كاتباً، طلبَ إليَّ أنْ أكتبَ قصَّة الظُّلم الذي أوقعَ ستالين بلاءَهُ عَلَى جورجيا. أراد إليكس مِنِّي أنْ أُصْغِي إلى القصَّة بكاملها كما يرويها هو، وأنْ أُدوِّنها أنا، عَصْفةً فِي إثر عَصْفَة. وقد بدا لي، لذلك، أنَّهُ هو نَفْسُهُ يَحْملُ تاريخَ جورجيا فِي حياته وَفِي تاريخه الخاص، فارتأيتُ أنَّ الطَّرِيْقَة الفُضْلَى لكتابة قصَّة جورجيا هي كتابةُ قِصَّتِهِ. أمَّا منتسبو الـ "GPU"، فهم أسلافُ مُنتسبي الـ "KGB". لقد فرَّ أليكس من جورجيا إلى باريس، تماماً فِي الوقت الذي كَانَ غزوها من قبل الألمان سيَحْدُثُ. وحينَ وجَدَ، فِي خاتمة المطاف، طريقَهُ صوبَ أستراليا، لم تَكُنْ هذه الأستراليا جنَّةً: كانت صَعْبةً وساخنةً، وكان رأسهُ مُثقلاً بِأَحْمَالِ العَذَابات والآلام الَّتِي ابْتُلي بِهَا.

================

من: مَواسِم سِيدْنِي السَّبْعَة

(1)

مَوسِمُ الإيمَاءَاتِ الغَاوية

يبدو كَمَا لو أنَّهُ، فِي أستراليا،

لا يُمْكِنُ أنْ يُسْمَحَ لكَ بالاسْتِقْرَارِ أَبَدَاً.

فَلْيَأْتِ تَمُّوزُ إذنْ، ثمَّة رياحٌ خارجَ الأمْدَاء والنِّطاقَات

أكثرُ وصولاً إلى الذَّاكرة

مِنْ تَسْكِينِ الزُّكامِ، كَمَا لو أنَّ الهَوَاءَ

قد غَرِقَ فِي عُذُوبَةِ أَخَادِيدٍ

وتَضَوَّعَ فِي الأَرْجَاءِ مِثلَ عِطرٍ  يُسَمَّى "مَسَافَة":

طَريقٌ تُرابيٌّ ذُو قِممٍ خَفِيضَةٍ.

وهَا أنْتَ تَنْزَلِقُ صَوبَ الرَّمل النَّهري،

شَاحِبَاً مِنْ أشِعَّةِ شَمْسٍ جَافَّة،

تتوقَّفُ، وَتَخْرُجُ من السَّيارة ...

 أَوْ تَمْشي فِي شَوارعَ،

مُشْمِسَةٍ لم تَزلْ - مُلْصَقاتٌ ولَوحَاتٌ إعلانيةٌ لمحلَّاتٍ ومَتَاجرَ

عَلَى هَيَاكِلَ قِطَاراتِ "ميدوبانك". ثمَّة نَسِيمٌ عَلِيلٌ

قُبَالةَ النَّهرِ يَهُبُّ رَخِيَّاً كَنَفَسٍ يُلامِسُ البَشْرَة:

وهَا أنْتَ هُنَاكَ، عِنْدَ بعضِ الشَّواطِئِ الشَّمالِيَّةِ المُضَيَّعَةْ:

سَهلٌ طِينيٌّ مُشقَقٌ بِخَرْبَشَاتِ السَّلْطَعُونِ يَزْفِرُ  فِي صَبَاحٍ أمْثَل.

أشجارُ المَنْغَرُوف الاستوائيًة كما الچُوَاَنات* القديمة فِي ضَوءٍ مُبَرْقَشٍ بِظِلَالِ اللَّونْ.

هواءٌ حَرِيرِيٌّ، يمرُّ بسلاسةٍ جَذْلى.

كالإيْقَاعِ فِي القَصِيدَةِ، الدَّوَّامَاتُ تَشُدُّ مَرَاسِيكَ،

انْجِرافٌ عَسَلِيٌّ كثيفٌ وأسودُ من الإزاحَاتِ القَسْرِيَّةِ

تِلْكَ الَّتِي تَهْمِسُ:  ليسَ ثمَّةَ مِنْ تَنَاسُبٍ مِثَاليٍّ، الإنْجَازاتُ

سَتَتَلاشَى كالدُّعَابَاتِ، أَوْ مِثْلَ مُنعَطَفٍ فِي طَريقْ.

تِلْكَ حِكْمَةٌ لما هُوَ مُقْتَرحٌ حَقَّاً

لا نُقِرُّها، أَوْ نَحْنُ لا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فِي أسْوَأ فَرضٍ، حتَّى الآنْ.

هَا أَنْتَ تُسْرعُ الخَطْوَ وتَصِلُ إلى "دَرِي**".

تَصْفِيَةٌ أَوْ تَبْرِئَةٌ، حَافَّةُ صَخْرةٍ بَعِيدَةٍ تَكْفُلُ ذَلِكَ.

ولكنْ ليسَ إلى أَمَدٍ بَعِيدْ.

============

* سَحَالي من جنس الـ"چوانا" المتعدِدة الفصائل والأحجام والأنواع والألوان والأسماء وهي تنتشرُ فِي أستراليا حيث يزيد عدد أنواعها عَلَى الخمسمائة نوعٍ (ع ب).

** durry: لفظ عامِيٌّ أسترالي يُلَخِّصُ المَثلْ الدَّارج: "لُفَّ سيجارتك بنفسكroll your own cigarette " (م لانچفورد). ولعلَّ لهذا اللَّفظ العامي المختصر أنْ يكونُ رديفاً للمثل العربي الدَّارج: "لا يَحُكُ جلدك مثلَ ظُفْرُك"، أَوْ "قَلِّع شُوكَك بِإيْدَك" وما ماثَلَهُما من أمثالٍ وأقاويلَ دارجَة، وذلك كتلخيص مُركَّزٍ لتجربة مُفْلِسة تخصُّ مسألة الاعتماد عَلَى الآخرين (ع ب).

======================

راڤينسوورث

حِينَ ذَهَبَ بيتر ليُعلِّمَ هُنَاكَ،

كَانَ ثمَّةَ بيضٌ عَلَى عَتَبَةِ البَابِ، وأزهَارٌ لِلْمَكْتَبِ –

مِنْ مَزَارِعَ كانتْ قَدْ امْتَدَّتْ مِنَ النَّهر مِثْلَ عُرُوضٍ مُزْمَنَةٍ عَنِيدَةْ:

 عُزْلةُ الشَّمْسِ، عُلوُّ صَوتِ لُعْبَة الكريكت،

تَأمُّلاتٌ بَارِعَةٌ فِي شَكْلِ الأَرِضِ والتُّرابْ.

الرَّعَويَّاتُ كُلُّها جَثَمتْ عَلَى أَوهَامٍ:

فِي المُرُوجُ اليَقِينِيَّةِ يَثِقُ المَرْءُ ثِقَثَهُ بإلَهْ –

حتَّى تَنْجَرِفَ الأَسْعَارُ ،

أَوْ تَنْحَرِفَ نِقَاطُ الضَّغْطِ الجَوِّيِّ المُدْرَجَةُ عَلَى"الإيسُوبار*"

ويَنْزَلِقَ المُسْتَقْبَلُ فِي ...

وما يَخُصُّنا كَانَ ضَئِيلاً شَدِيدَ الهَشَاشَةِ، وكانَ جَدَّ قَلِيلٍ:

رُبَّما أَثِرْتُون**، ورُبَّما أَرَاضِي مُنْتَصَفِ تَازْمِينْيَا ***؛

بَعْضُ تِلْكَ الأَودِيَةِ النَّهْرِيَّةِ الجَافَّةِ

المَسْكُونةِ بأحْلامِ يَقَظَةٍ جَنُوبيَّةٍ غَرْبِيَّةْ ...

وهَذَا: سَدِيمُ جُسُورِ السِّكَكِ الحَدِيدِيَّةِ المَهْجُورةِ

وَضَبَابُهَا المُشْرِقُ بالضَّوءْ؛

زَرَائِبُ المَزَارعِ وحَظَائِرُهَا القَرْمِيدِيَّةُ،

الأَسْقُفُ مُلْتَحِمَةُ السَّنَامَاتِ –

وأَحْجَارُ الخَوْرِ المُقَرْقِعَةُ الجَوفَاءُ ...

الآنَ، غُرَفُ المَدَارِسِ سَقَائِفُ مَخَازنَ لِعُلَبِ الطِّلاءْ.

والقريَّةُ دُمِّرَت بِقَبْضَةٍ كَرْتُونِيَّةٍ ضَخْمةْ.

الحَصَى والأَسْلَاكُ والْكِتَابةُ عَلَى الجُدْرَانِ -  فِلَذٌ صَخْرِيَّةٌ مِنْ فَرَاغٍ -  لَطَخَاتٌ دَبِقَةٌ فِي كُلِّ حَيِّزٍ مِنَ الأَرْضِ صَفَعَتْهُ الأَلْغَامُ:

آفَاقُ بَريقِ نَصْلٍ وَكَشْطُ غُبَارْ –

 تَوَهُّجُ الأَمَاكنِ الأُخْرَى، واتِّقَادُ أَرْوَاحِهَا،

يُلاعِبَانِ سُفُوحَ الجِبَالِ،

 والسَّمَاواتْ.

أعرفُ أنَّ ثَمَّةَ أَسْبَابَاً.

لآسيا أَنْ تَشُدَّ حَوْلَها وتُقَوِّيَ نَفْسَهَا أَيْضَاً.

فَلا يُخْتَلَسُ المَالُ، ولا يَسْقُطُ مالٌ فِي الإِفْلَاسِ،

ويكونُ لِخُبَراءِ الأرقَامِ أنْ يُعِيدُوا تَوجِيهَ النُّهَيرَاتِ، والغُدْرَانِ، صَوبَ الْبَيتْ.

وأَنَا أَعْرِفُ أَيْضَاً أنَّ كُلَّ شَيءٍ يَتَغَيَّرُ.

كُلُّ مَا فِي الأمْرِ أنَّ اسْتِحْضَارَ الْجَمِيلِ صَعْبٌ ...

فِي زيوريخ، يُحِيطُ كبيرُ الموظَّفِينَ المَالِيينَ رأْسَهُ بِكَفَّيهِ

ويَسْتَعْرِضُ الصَّفْقَةَ القَادِمَةْ.

وَفِي شيكاغو، يُقَيِّمُ رَئِيسُ تَوزيعِ المَوارِدِ

أفْضَلِيَّاتِهِ ودُيُونَهُ.

وَفِي تُوڤَالو****، الأُمَّهَاتُ يُولِينَ جُلَّ عِنايَتِهنَّ لِلْمِلْحِ والْقُلْقَاسْ.

وَفِي راڤينسوورث،

فَرَاغَاتٌ قُرْمُزيَّةُ تَزْلقُ مَعَ الأَرْضِ

إلى الرَّمَاديِّ مِنْ مَشْهَدٍ طَبِيعيٍّ – شُرُودٌ شَاسِعٌ –

فِيمَا مَنَاقِبُ المَرْعَى ومَزَايا غُرْفَةِ الأَسْرِجَة ولوَازِم الْخَيلِ

لَمْ تنجح وفْقَ أَيِّ تَصَوُّرٍ جَمَاليٍّ، أَبَدَاً.

==============

مُلاحَظة: تعتبر أُستراليا أكبر مُصَدِّرٍ للفَحْم فِي العالم. وبعضُ مناجم الفَحْم المفتوحة، مثل مِنْجَم راڤينسوورث، تحتلُّ مَسَاحَاتٍ شَاسِعةٍ جداً، إلى حدِّ أنَّها تستولي عَلَى كامل مجال رؤية الْمَرْء. وَفِي حقيقة الأمر، فإنَّ أستراليا لا تتوافرُ عَلَى الكثير من الأراضِي الزِّراعِيَّة الممتازة وهو مَا يجعلُ للمناجم، كمنجم راڤينسوورث، تأثيراً هائلاً (م لانغْفُورد).

*الإيسوبارIsobar : خطٌّ عَلَى خريطة الطَّقس يصلُ نقاطاً ذات ضغطٍ جويٍّ مُتَسَاوٍّ، ويُبَيِّنُ مستوى الانخفاض عن سطح البحر. يغلب استخدم هذا المصطلح فِي الجغرافيا الطبيعية والأرصاد الجوية والفيزياء ( ع ب).

**أَثِرْتُونAutherton : مدينة أسترالية من ضمن سهول أثرتون ونُجودها الشاسعة الَّتِي تقعُ فِي أقصى شمال إقليم كوينزلاند Queensland (ع ب).

***تازْمِينيَاTasmania : إقليم (أَوْ جزيرة دولة) يقعُ فِي جنوب شرق أستراليا ويضمُّ إلى جانب جزيرة تازمينيا عدداً من الجُزُر المماثلة. وقد أُعيدت تسمية هذا الإقليم (الجُزُر)، فِي العام 1856، ليحمل اسم المُستكشف البريطانيAbel Tasman  الذي اكتشفه فِي العام 1642، وذلك بدلاً من الاسم "ڤان ديمنس لاند  Van Diemen's Land" الذي أطلقه هو  نفسه عليه عندما اكتشفه.  وَفِي العام 1901 كانت تازمينيا قد انضمَّت إلى أستراليا (ع ب).

****تُوڤالو Tivalu: دولةٌ ذاتُ نِظَامِ مَلَكِيٍّ دُسْتُوريٍّ، تتكَّون من تسع جُزرٍ مُرجانيَّةٍ تبلغ مساحتها الإجمالية سبعةً وعشرين كيلومتراً مُربَّعاً، فتكون بذلك رابع أصغر دولة فِي العالم من حيثُ المساحة.أما عدد مواطنيها فيربو عَلَى الاثني عشر ألفاً. تقعُ فِي جنوب غرب المحيط الهادئ، وقد حَصَلتْ عَلَى استقلالها عن بريطانيا فِي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1978 (ع ب).  

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.