سردية الصبر والتولُّع والسعي إلى الإقناع

“ماضون إلى الماضي” لعبد الإله بلقزيز
الاثنين 2021/02/01
لوحة تمام جرماني

يغدو التأمُّل في اللغة، ومصيرها، وقدرتها على التعبير، شأنا سرديًا، حين نجاوزُ قدَرَ الانتماء لها، والانغلاق في حدودها؛ والسعي للنظر إلى مفرداتها بما هي شأن حياتي، محكوم بالتحوُّل والتبدُّل، والامّحاء. شأن طرز اللّباس والموسيقى والعمارة والأطعمة، والعادات والمهن؛ فهي مفردات مشتقة من أرومة ثقافة وفكر وعمل وإحساس. لذا تتحول اللغة، في مرات عديدة، إلى موضوع سردي حين يفكّر فيها الروائي والقاص والسينمائي والمسرحي بوصفها جزءا من ماضي الشخصي والعام. من هنا تبدو سرود معاصرة عديدة، غير قادرة على التواؤم  مع الحدود الروائية والسيرية والقصصية، سواء في بنيتها الأسلوبية، أو عوالمها النصية، أو رهاناتها التخييلية، فتقترح مزيجا من الوُسُوم الجنسية، مركبة أو مجازية وأحيانا لا تفيد تقييدا أسلوبيا، من مثل: “نص” و”سرد”، أو “محكيات” و”سرديات”… لإعمال النظر في علاقة السارد مع لغته وما يقترن بها من سجايا فكر وعمل. في هذا السياق يمكن أن يُقرأ كتاب “الماضون إلى الماضي” لعبد الإله بلقزيز (منتدى المعراف، بيروت، 2020)، على جهة الجِدِّ، كما يجوز أخذه مأخذ الهزل، فيه يُصوّر الكاتب مِهنًا منقرضة، بلغة مندثرة، يُؤصّل المتداول من دارج الكلام، ويعيد تدوير الفاني منه والغريب، عبر حكايات من امتهنوا حِرف “البَرَّاح” و”الدَلَّال” و”النفّار” و”الكسَّال” و”فقيه الحْضَار”… ومن في منوالهم ممن زالوا، تحسب وأنت تطالع المتن الصعب أن صاحبه بصدد تحدي مريدي هذه اللغة الساحرة، وامتحان صبرهم في آن، كما يُخيّل لك تارة أخرى أنه يهزأ من أهل لسان قلبوا باستعمالهم معاني مفرداته.

يتألف الكتاب من تسعة فصول، أُفرد كل واحد منها لحرفة، واستهلال حمل عنوان “سرديات من زمن تَصَرَّم”، مطمحها استنقاذ بعض ما علق بالذاكرة من ظلال اشتغال غلبت عليه مهارات اليد واللسان، وما لبث أن ترك محله لوسائط الآلة والتقنية، كما يسترجع ملامح مجتمع مديني نابض بالحياة، تلحم صلات القرابة والجوار والعمل والكلام والأنس والفرجة الإنسانية بين أعطافه، ببيان نثري يحاكي أساليب كتب “الأخبار” و”التراجم” و”الرسائل” و”المقامات”، ويطمح إلى تقفي أصناف القول تلك، في افتتانها بضروب الجناس والموازنة والطباق والسجع، دون إخلال بالبناء السردي لمسارات الشخصيات، المختارة لتمثيل قصص الصعود والأفول المهني، ثم التلاشي والانقراض، وما يتصل بهما من امّحاء أسماء وأفعال ومعان وقيم، وتحوُّل في أعماق الناس، وألسنتهم، وصيغ عيشهم، وتبدل متدرّج لنسيج المدينة ونسغها.

في معنى الاختفاءصورة

في مستهل “الماضون إلى الماضي”، نقف على السمة التخييلية المهيمنة التي تسند المبنى النصي في مجمله، وهي “الاختفاء” المعبّر عنه في غير ما موضع بمفردات “الانقراض” والزوال” و”الاضمحلال” و”أفول النجم” و”ذويُ العود”… ويسطر الكاتب أسباب اختياره الموضوعي والأسلوبي عبر مجموعة من الفقرات يرد في بعضها ما يلي “ما من حنين إلى عود ما ليس يقوى بذاته على العود، وما من وجه حكمة في إحياء ما درس رسمه ووقع ختمه… وإنما تجريب تدوين الذاكرة الاجتماعية وحفظ بعض بقاياها من التلف” (ص12)، ويضيف في موضع لاحق “عنّ لي، المرة هذه، أن أعود إلى أساليب الأقدمين… وأنا في صنيعي هذا لا أبغي أن أدعو إلى أساليب أمراء البيان… وإنما مبغاي الاحتفاء بهذه القطع البديعة… تماما مثلما هي السردية تحتفي بحرف قديمة. الفارق أن الحرف انقرضت أو على الوشك من ذلك، بينما لا ينقرض اللسان إلا بانقراض إنسانه” (ص ص 15 – 16).

والحق أن إعمال النظر في تكوين جدلية الاختفاء في أبعاده الاجتماعية والفكرية واللسانية، في سردية عبد الإله بلقزيز الراهنة، لا يمكن إلا أن يعيد إلى الذهن هيمنة هذا السمة التخييلية  في عدد كبير من الأعمال الروائية المغربية، عبر أزيد من خمسة عقود، بحيث لا تكاد تخلو أيّ من التجارب الفارقة من الالتفات إلى هذا القدر التاريخي الذي يتخذ في أحايين عديدة صيغة اللغز؛ من “الضوء الهارب” لمحمد برادة، إلى “القوس والفراشة” لمحمد الأشعري، ومن “المرأة والصبي” للميلودي شغموم، إلى “خيط الروح” لمبارك ربيع، ومن “باب تازة” لعبدالقادر الشاوي، إلى “طائر أزرق نادر يحلق معي” ليوسف فاضل، إلى عشرات الأسماء والنصوص والتجارب من أجيال مختلفة في العقدين الأخيرين. من الاختفاء الجسدي لمعتقلي سنوات الرصاص، إلى اختفاء تحف فنية، إلى اختفاء أحياء وعمائر، إلى اختفاء طبقات اجتماعية، واختفاء منابر وصحف ودور نشر وأهواء ثقافية.

تختفي الحرفة هذه المرة، ذات الكنه الحسّي اليدوي واللساني، الممهورة بالجهد والتولُّع، وفي اختفائها تزول صيغ في العيش، وتمّحي أساليب في العمارة، مثلما تتقلب أفعال شخصيات ومصائرها، وأزيائها وحواضنها الاجتماعية، ولعل الزوال والانتهاء هو ما يجعل الحكايات تتفرع، إذ ثمة دوما حرف تنتهي إلى إفلاس، لتعوضها حرف بديلة تؤول بدورها إلى كساد، مع هيمنة بدائل عصرية. تشرع الحكايات بازدهار الحال مع الأصول، الآباء والأعمام والأخوال والأجداد، قبل أن تفضي إلى اضمحلال، في زمن الأبناء والأحفاد، في النهاية يتبدّى الأمر أشبه بانتماء إلى قدر، ونمط حياة، يطبعه التسليم بالتلاشي التدريجي لموارد الرزق تلك، فتتجلّى بما هي جزء من الشغف بالفضاء وما يؤثثه من مجازات وطرائف، وما يتخلله من مذاقات وروائح، وما يتشرّبه من نسغ مديني.

ويقدر ما يتجلى اختفاء “الساقي” و”الحلايقي” (الحكواتي) و”الدلّال” و”الكسّال”… بوصفه سببا لإعادة امتلاكهم عبر التخييل السردي، بتخليد شخصيات هي مزيج ممّا رسخ في ذاكرة الطفولة واليفاعة الأولى للكاتب، وما نضح به خياله، فإن اجتباء البيان التراثي لتمثيلها يبدو شبيها بخوض سجال مع محيط ينكر قدرته على البقاء، وإثبات تواتره في وجدان المنتمين للسان العربي، واستمراره في بث فتنته وعبقريته في التعبير، وكفاءته في استيعاب الأحوال والصفات والدلالات، برغم تطوّر أساليب  السرد، واستحداثه لقواعد بلاغية بديلة. من هنا يتجلّى الاختفاء باعتباره وهما، أو ادعاء ما دام ثمة منتمون أصيلون إلى هذا اللسان، متقنون لمقامات بيانه وبديعه، وما دام ثمة باستمرار صيغ سردية ونثرية قابلة لتطويعه لمآرب التعبير المعاصر.

الحرفة أو فن الإقناع

صورة
لوحة تمام جرماني

على هذا النحو تغدو “الحرفة” وجها مقابلا للسان، في معاركة الانقراض، وفي انغلاقهما معا على مغزى النادر والعزيز، ومن ثم لا معنى لبروز سيرة ممتهن للعمل باليد أو اللسان القديمين، دون قدرة على البذل، وتولّع مفض إلى إبداع، إنها مهن المواهب الاستثنائية، التي يفتقدها “سوق العمل” اليوم، مثلما تفتقدها التَّقَانَةُ والتعابير المستحدثة، السهلة والخالية من “فتنة القول”. لا جرم بعد ذلك ألا يكون ثمة معنى لـ”الحكواتي” أو “الدلّال” أو “البرّاح” دون موهبة، وقدرة على الغواية والإقناع، فالكلام في هذه المهن هو قطب الرحى، قد تبدأ أصولها بكفاءة التواصل والتبليغ، ولا تنتهي بتحصيل الأثر، وخلب الأذهان. يقول السارد على لسان الحكواتي الصاعد “يبدأ الحكّاء من حيث انتهى أمس، ويمضي في الحكاية ويغمس، فيستدرّ منها اللؤلؤ والمرجان،… وأنا بين هذا وذاك أمتح زادي وأصيخ السمع، وأطلق اجتهادي في التخييل وأرسل الدمع؛ فللحكايات في النفس مفعول وأثر ، وليس من رأى وشهد كمن سمع الخبر… هكذا قضيت طفولتي مسطولا بالكلام، ووجدت فيه الضالة والجمام”(ص 118).

هل هو مجرد كلام؟ سكن الدواخل؟ وانتهى به الأمر إلى الاستحواذ على الكيان كله، ليُمتَهن بما هو سبب عيش؟ يُفترض أن الكلام، بما يتضمّنه من قدرة على تشييد عوالم سحرية، يضحى صناعة تُخرج إلى السطح مبدأ الاعتقاد في سلطة اللسان، فيتحول ما “يُنتج” من مفردات وتعابير إلى تخاييل خالبة للأذهان، هي بمثابة “وعد” بمتعة، لا تقل مكانة عن منتجات باقي الحرف والصنائع الحسية، وإن قلّ مردوده قياسا لها، بيد أن الفارق يكمن في كون الكلام، والسرد، والتطويح بالأفئدة، ينطوي على متعة مشتركة، يكون الحظ الأوفى فيها للمتكلّم ذاته، الذي يطربه الإيقاع بالآخرين في دائرة سحره، لذا لا يمكن أن يكون “الحلايقي” ولا “الدلّال” ولا “الخَطَّابة” إلا تنويعا شعبيا على قدرات الإقناع التي اصطنعت لها البلاغة الكلاسيكية قواعد، وتمحّلت لها أسباب الذيوع ومسالك الرسوخ.

وبقدر ما تجتبي حرف الكلام سلط الإقناع، فإن الصنائع الحسية تمتلك صيغ تأثيرها الذهني، لذا كان اختيارها من قبل ممتهنيها رضوخا لهوى باطني، يجعل تكبُّد مصاعبها وتحمّل خيباتها قرين الانتماء إلى عالمها، من هنا كانت مفردة “الصبر” قاعدية في عوالم “الماضون إلى الماضي”، تحتل المقام عينه في سلم إنتاج الأثر ، جنبا إلى جنب مع مفردات “الإقناع” و”التولّع” و”الاعتقاد” و”الانتماء”. يقول السارد في أحد المقاطع الخاصة بحرفة السقّاء “كنت سقاء ولما أزل أرتدي بدلة السقاء، والماء الذي حملته على ظهري وبه طفت ما زال الماء، وفي الأثناء، تبدل العالم من حولي، وتخطف الموت أهلي، وجار الزمان عليّ، ولم يبق لديّ إلا ما كسبت من الأبناء: ثلاث هن فلذات كبدي، ورابعهن من نسل الحولاء. ويجري الماء، مثلما كان يجري، في الآفاق، وأنا قربتي مثقوبة، وسم الفاقة يجري في عروقي، وليس لي من حيلة ولا لسمّ دائي من ترياق” (ص 33).

 ولأن الصبر يحتاج إلى دعامات فقد عجّت محكيات الكدح الحرفي بالنماذج النسائية التي تقيم الأود، من أمهات وزوجات وعمات وخالات وذريات البنات، نساء جبلن من جَلَد، ومثَّلن قاعدة الانطلاق والعودة، بكلامهن ودعواتهن وأمثالهن وتأنيبهن، تتجدد طاقة الاستئناف، في المسارات ذاتها، أو تبديلها، بما يتيح العيش، بحيث يقتسمن أدوار الفعل والبطولة مع من ينجز العمل، وإن في خلفية بيتية، غير مرئية، لا تكاد تبين حتى تختفي، شأنهن شأن المدينة الحاملة لكل ذلك العنفوان العملي واللساني.

والظاهر أنّ كلّ تلك السرديات المتباينة والمتساندة ما كان لها أن تنتظم لولا تلك الخلفية المدينية التي تشخص كأنثى عاتية، بخصوبتها وصخبها، متدفقة باحتمالات “الرومانيسك”، الملتفع بروائح الدروب والعمائر والمساجد والدور القادمة من الماضي الغابر، وساحتها الأسطورية، بنماذجها البشرية المدهشة، وصوى كلامها الحريف؛ بحيث يُخيّل للقارئ في لحظة ما أن “الماضون إلى الماضي” صيغة من “المراكشيات” النثرية، بانصهار الملامح والأجساد والأسماء في ظلال المكان الساحر، وتأريخها لشق جوهري في تكوينه الاجتماعي والثقافي. لقد ألّف عبد الإله بلقزيز سرديته برغبة في الاحتفاء بجزء من ذاكرته الطفولية، وصيانة أسماء وأشخاص وسلوكيات من النسيان، بيد أنه صاغها أيضا برغبة تبجيل مدينة وقيم، وحفظها من الاندثار بأعز ما يتوسل به المراكشيون “اللسان المبين”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.