سمكات حمراء تتسابق

الجمعة 2020/04/17
لوحة داني حصروني

غيري له لون يميزّه من بقيّة الألوان ويفضّله عليها ربما بسبب ذكرى جميلة أو بسبب أخرى تعيسة فيجعله لون ما يلبس ولون المنديل الذي به يودّع أحبابه ويمسح دموع الفراق… أمّا أنا فأجد كلّ الألوان صديقا ورفيقا في هذه الطريق… فكيف لي أن أحبّذ لونا وأكره آخر وكلّ الألوان تذكّرني بك؟ في كلّ الألوان أرى وجهك وفي وجهك أرى الألوان كلّها.

في استيقاظ الفجر، في تثاؤب الشمس، في ارتعاشة القمر على موج الليل البهيم، في صمت الحقول وفي حقول الصمت، في غابات الصنوبر، في سطوح السماء، في خطوات البحر، في صراخ السنابل أيام الحصاد، في اللّوحة بلا صورة، في صوت الرّيح تبحث عن ثقب تبيت فيه، في الثواني التي بين انفتاح نافذة غرفتك وانغلاقها، في صوت الحصيّات الصغيرة يرشق بها الصبية حشائش النهر الطريّة، في اللحظات الصامتة بين القبلة والقبلة، في رائحة الكتب القديمة، في منظر السكّة الحديديّة وهي تنتظر لمسات القطار، في الخريف، في الرّبيع، في الأهرام، في أوراق الشّجر، في تحليق الطّيور في الوحدة، في الوحشة، في ملح المحبّة، في روعات الهوى وفي… وفي….، ألتقي وجهك وأرى ألوانك.

 

الأحمر: بركان وجنتين

لون الذي به أحيا ولا أراه، لون الذي فيه أحيا ولا يراني، يا دمي الآتي من مدن الشّهداء والمجروحين كم ممالك وقرى طوّفتنيها ولم تسألني عن حلمي بانقطاع المسير وكم حملتني فوقك حبالا للبحث تربطني إلى شلالات نامت منابعها في الجرف القديم… يا أيّها اللّون السّؤال: لماذا شموعي انطفأت عندما تذكرتك؟ أهي الحمم والبراكين التي سرقتك واختفت وراءك تلعن المطر والغريب؟ أم أنت الذي أطفأت نار المعبد ورحت توزعها على الحوانيت الصغيرة؟

يا أيّها الأحمر! لماذا تعشق الاختفاء وخطاك تسمعها كلّ العيون، أعاشق أنت للنوم في جوف الحوت أم تخشى عليك من سحر اسمك؟ أسكبك على اللّوحة البيضاء، أجعلك نداء للحمم والنار واللّذة وأعلن أيا لوحة كوني مهرجانا وكوني صراخا وكوني حياة الموت في نهرك، نهري، نهرها. تركض في اللّوحة، تسجنك شراستك، تبتلع البياض، تبكي اللّوحة براءتها ثمّ تمضي كما أتيت وتعود اللّوحة كما ذهبت. أرنيك ولنقم السهرة حتى يحمرّ الفجر!

لكنّ الأحمر ليس بقادر أن يخفيك عنّي ولا أنت إلى ذلك مستطيعة سبيلا، وجهك خوّان الأحجية… كلّما اشتدّ البرد بحثت عن وجنتيك أستدفئ بهما، كلّما تأوّهت منّي العظام، علمت أن لا مفرّ إلاّ نارك… لا براكين الجبال تدفّئني ولا حمم التّنين تدثّرني، علمت وكنت أعلم وسأعلم أنّك احتفظت بالنّار لي وما منحتها البراكين والبحار كما صنيعك كل قرن!

أين سيهرب الأحمر؟ هذه الثلوج السوداء تحاصره والجبال العتيقة ارتدت أكفان التعبّد وستحمله إلى الهيكل عن قريب، يهرب اللون الأحمر أصفر الوجه وئيد الخطى وحين يهمّ باستلقاء وجهك ترتعش شفتاك ويهتزّ العالم ومن بين جنبيه تحلق لحظة سرمديّة بلا وجه ويمنح الزمن نفسه وقفة ينظر فيها إليه، يتراقص النمش على ثرى الحديقة، تينع ثمار الأشجار رضّعا يسبحون ويطيرون، تؤجني حمّى الجني وشجو الجوى… كيف أنهج؟ أخجل من وطء الرّجل، أتشبّه بالعصافير الصغيرة وأطير إلى شفتيك… يضحك اللّون الأحمر من بين الأطراف ويسخر بي “لقد سبقتك” فأقول: الجنّة أبوابها بلا عدّ وأرتشفهما حمراوين كلذع الحيّة الحنون، أجد الزمن بين يديّ فأجنّ لمسّه… كم هما لدنتان يداه! يصعد الأحمر إلى الوجنتين، آخذهما بين شفتيّ، أحسّني موقد نار، يتفتّت الثلج وترمي الجبال عباءتها ويأتي الربيع فينفجر البركان وتسألك الصور نصيبها من اللون الأحمر.

آه كم هي قاسية عدالة المنح، لم تحرمي أحدا جمال الأحمر ولم تضنّي به! الورود تستنشقه منك، الرسّامون يصطفّون على بابك، العشّاق يرغبون ارتداءه، كم هي قاسية عدالة المنح! تهدين وتهدين ولكنّ الأحمر توجعه الغربة وتسجنه ذكراك، فلا يفارق وجهك وتبقى لي القبلة حمراء، حمراء كأنّها حمراء…

 

الأبيض: للغريب وحدة ولي غربتان

كان كفن جدّي أوّل بياض أتأمّله… لماذا جعلوا البياض لون الموت؟ تجمّع لابسو البياض، من كل الجبال أتوا. كانت وجوههم بلا جنس، ندف الثلج فوق ملابسهم وحدها كانت تعلّم عليهم، عصيّهم حيّات بيضاء ترقص بين خطاهم، هذه بوّابات المعبد تفتح، تهتزّ لها الجبال أعمدة صغيرة للخيمة الإلهيّة وتتفتّت الثلوج أنهارا بيضاء يتمدّد عليها الوافدون، مرّت لحظات الانتظار ثمّ انطلقت الكرة تعدو. كرة بيضاء تحاصر العالم وتعدو، ذراعا العالم ممدّدتان والكرة تعدو والوافدون يبتهلون من إحدى الفجاج: بياض! بياض! بياض! وسيحكي الرضّع منهم بعد قرون طويلة أنّهم كانوا يتقيّؤون أثداء أمّهاتهم. ثمّ هدأت الكرة وسكنت، ومن وسط الدوّامة خرجت آلهة البياض فصمت الوافدون وماتت الأشياء كلّها.

وبعد ذلك بأيّام استيقظ الوافدون فأخذ كلّ منهم وجهه ومضى… لماذا جعلوك لون الكفن والقبر؟ سأشعل الشّمعة البيضاء وأسألها عنّي.

ثمّ أفقت ولم أر للعالم وجها… كان بياضك قد أعشى ناظريّ ولم أفطن. قلت ما حاجتي لرؤية العالم؟ استدارة عنقك الثلجيّة خيمتي ووكري… هنا بين تجاويف بشرتك أمسك بالعالم وهو يولد… فما ضرّ لو أتلفت ناظري؟ وكم إلها مات لحظة البداية! لقد أخطأ القدامى، بياضك هو البدء واللوحة تموت عندما يتركها بياضها ولكنّك ساعات بياضك لوحة بلا جواب، سؤال أحمله في أنهار التيه ويحملني، شعاب القلب وجباله أدمت قدميّ وما قدّم الجواب، سرت واللوحة على ظهري ومن فجر إلى فجر كنت أعرضها إلى الشّمس وأنظر هل ولدت فتصفعني أجراس حديديّة: لا… فأقول ستولد ولا أبيع اللّوحة.

بياضك يؤلمني، هو ذكريات الأغوار التي لم أنزلها فيك وأحلامك التي لم أرها في منامي والقصص التي حكيتها أيام سقمي ولم تسمعيها، ما أقسى لحظة الخلق! لقد سئمت التسآل والانتظار. كلّما حاذيت شاطئا، ناداني بياضك في لون الموج فأرتحل ولكن إلى غير شاطئك… حمائمك تحمل مني رسائل وتأتيني بأخرى لكنّها بيضاء… أودّ أن أصرخ، أفكر أن ألعن البياض، قلت أريد أن أحمل لي وجها وأن أرى لسؤالي مولدا فيحيطني بياضك وتصرخ بي الجبال: ليس من السهل أن تكون إلها! أحمل اللّوحة وأثق في شاطئ جديد وأرتحل… فمتى أصادف زورقك؟

لوحة داني حصروني

الأزرق: سماء النهى مضيئة وإن بلا نجوم

ما أقسى المساء الجميل! وما أجمل المساء القاسي! بحر وسماء وعيناك… الشّمس الزرقاء يذوّبني ضوؤها، صرت أتلاشي كالشمع، لا قدرة لي على احتمال هذا الضياء وكنت ألفت ألوان الغروب. آخذ عينيك بين يديّ ملجأ، رأيت السماء تعدو خلفي، ظننتها أتت تسرّح شعرها، لم يعد لي جسد، صرت خفيفا كالروح، قدم إلينا البحر وحملنا في كفّه ريشتين بلا ذاكرة… والسّماء مازالت تتجمّل في حدقتيك، ثمّ خرجت من بين الضلوع عصافير صغيرة وراحت تفتح باب الجنّة بعد غلقه أزمنة. قلت لن آكل التفاح. ثم فقدت ذاكرتي ثانية وأصبحت سريع الخطو. وأمام أحد الأبواب رأيت الأزرق شيخا تلمع عصاه وكانت الأسئلة الأحجيات! يا لون آلهة الحكمة والحسرة والاشتياق إلى ما لا ينال، أمسك طائرك عنّا فالزّهرة الزّرقاء ما انفتحت في غياهب القلب لتنتحر على الطريق المهيع بين القبلة والذاكرة… هل ثمن ماء لماك أن أتردّى في أهوية النسيان؟ غنّيت، غنّيت، قفزت وغنّيت، فغنّى البعيدون ولمعت السّحب فوق الجبال زرقا ونظرت إلى السّماء الحبيبة وطرب العالم ورقص.

رأيت الحفلة بين كفّي، خرج البحر من البحر، سارت بعض الشجيرات بين السحب وتكوّر رمل الشاطئ كريات من بلّور ورقّ جسدك، رأيتني في مرآته وكنت تبتسمين من وراء المرآة، ابتسمت معك المرآة وابتسمت ثمّ ذابت المرآة والتحقت بالبحر… قلت: لا تتركيني للبحر أو للرّمل الكاذب ودخلنا ذاكرة الماء.

مسيسك سجم ساح سلاسل في سجسج سوّرت بسجاف سلوس، حسبته آسا فسكبت منه فمسكني ألس وسلس سمك الأنقيلس عند العجوس، فسجّس الأبس واقتبسني الغبس من الغلس. فكان العوسان والنسيس إلى لعسك الغميس وتوهست في ساج يسيخ في ساج. تكاوست من سناك سماء غيساء، فسألت لم النوسان وهسيس الجوادس سابل كالميسان؟

ثم استيقظنا، وكان البحر لا يزال يبكي فوق جسدك، وحيف شعرك مرسى لزوارق الأيّام.

كانت العبرات تنساب من بين الجداول وتصرخ: يا كائنة من ماء! عودي إلى الحضن الأوّل! أعرف أنّه كان يكرهني هذا العدوّ الأزرق وكان في الزمن القديم تنبّأ بمولدي وبأنّي سأكون سارقه الآتي، فسار بين القرى والمدن ينهى الأمهات عن إنجابي، وكل مساء كان البحر ينزل إلى بئره يرقبك ويرقب العسس هل أغمضوا العين على الزنبقة؟

بقيت أترشّف دمعات القطرات حرّى مالحة من أدغال شعرك تذوب في مرآته الشّمس كالنبيذ في ممالك الجبين، ألتقطها بين شفتيّ قبل أن تسقط على الرّموش وتنزوي في البؤبؤ… ثار الموج فاشتممت منه أنفاسك، وأشفقت على البحر منّي ورأيته عضاها باسقات وأشواكا متوحشّة إن أنت قسوت وضننت بك عليه…

وقلت: دموعك أشهى، دفء ظلم أسنانك يحميني من القسوة المترصّدة، شفتاك مخبئي وما البحر إلاّ زاوية من ريقك. نأى الوأي القديم في متون القفار وتهتّأت منّي الأضلع اغترابا وضقت بزورقي المدلج في الجون البهيم، حتى رأتني عيناك ففقدت الذاكرة وعرفتني وتعانق بين أصابعي البحر والسّماء. وكالآلهة كنت أقلّب العالم وأقبّلك، ولحظتها علمت بما سأعلم أن لا حياة إلاّ ماء سكبته حدقتاك.

ثمّ تاه الأزرق الشيخ وانتهت الأسئلة الأحجيات، وتهت وراء ما يرى ممّا لا يرى.

 

الأخضر: تعالت التأوهات فتأجّجت من الضّلوع خمر، ولا شاربون

في ساعات اللّيل الملغزة أراه يأتيني، هادئا، وئيد الخطى، أراه يأتيني… حرير فخذيك جارح مسّه، أصابعي تحترق ولا ماء على الضفاف أبترده سواك، كلّما ناديته، هرب الأخضر من أعشاب البحار، وخرج من لوحات العالم وأتاني، أراه في ساعات الليل الملغزة يأتيني، يسير إلىّ هاربا من اختلاط لونه بالبنّيّ في الجبال واحتراقه بالأصفر في الحدائق الحزينة، وكان أن رأى انتحار أوراق الشجر بعد أن اختفت “أفروديت”، داخل البحر فأصبح يأتي حتى لا يقتاته النسيان ويبحث عن البابليّين يطلون وجوههم بالأخضر ويدعون للمطر وطرب الحقول.

فوق استدارة ركبتيك أينعت أوراق البردي وانشق نهر الخلود فسقطت في الأبديّة تراتيل صلوات الماء، أعشاب الفخذين الخلفيّة لا أشتفي من ضمّها، ندى الزمن المحترق سال بين حبّات التراب فارتوت شفتاي عطشا، أسناني تقضم أصول الأعشاب فتسري في أوصالي الخمر، سكران أنا من رحيق نبات دمائك، أقول غدا سيأتي الصيف القاسي فأمرّغ وجهي على العشب لأدّخر منه نسمات لأيام الصّحراء، تأوهاتك الناريّة تتموّج لها أعشاب الأصيل وتطرب لها العصافير المختبئة في ظلمة احتكاك ركبتيك حيث الأعشاش والغدير… تنفجر أغصان حشائش أسطوريّة يتضوّع الفضاء برائحتها، أشمّ روائح جديدة فأفهم لماذا يفقأ الأخضر عيون الأفاعي، ارتعاشة تهزّني، كفّاي استحالتا ماء لا يمكث وكانت الأغصان تمتد وتعظم، هل سيقدمون للحصاد هذا المساء؟

فتحت أزرار ثوبك كما انفتحت ستر قلبي الشفيف من قبل، بهرني شعاع الجنّة، زلّت قدماي فسقطت في النهر القادم من بين النهدين، كانت المياه تندفق بقوّة وعند سرّة البطن حوض الفناء تستريح هنيهة ثمّ تنعرج إلى منعطف الظهر وتصبّ عند الردفين، صمت الأخضر يسحرني، أسبح بين مخلوقات الجنّة مسبّحا: دودة خزّ تطير فوق ورقة توت عجوز وتصنع الحرير، سمكات حمراء تتسابق إلى قضم الأعشاش السفليّة، أشجار صغيرة تلاعب الولادة والموت فتنبثق هنيهة ثم تذوب لتعاود البعث، استدرت معتليا منعطف الظهر… قلت إنّني أكره الزوايا والأركان وأهوس بالمنحنيات وانكسارات الليل وموسيقى السؤال. كنت أسير وئيد الخطو في انتظار أن أفاجأ بالغروب وذهاب الطيور، لكنّ ملاسة البساط كانت تنفجر ضياء ومصابيح، استهوتني رغبة في النوم على الكتفين، كان تنفّسك ولهاثك الملائكيان أنغاما تحضنني، رأيت جناحين ينبثقان من الظهر فخفت طيرانك وقفار الجنان من أعشابها فلذت بحلمتيك وما وسعهما من خيام، وصحت أيا أخضر! أنر لي قوقعتي! أجسّ امتلاء النهدين بما خفف من لثم فتتأوّه عصافير وتحتجّ أحلام، أكلما أردتك مخبأ وعتمة، انتصب العالم غريما؟

تمدّدت بين النهدين، التذذت بإسقاط زورق كلّما أزمع صعودا أعدته، وكان الأخضر يثأر لجفاف صحارى الدنيا فيتألق على بساطك ويرقص فيصيبني منه احتراق، تشفيني أنفاسك منه ويحويني عناق نهديك أملس شفيفا كدمع الأحلام الأولى حين كنت أسير في بحر من العتمة رحيم… التمشّي فوق أعشاب سهل نهديك عودة إلى الوجود قبل أن يلوّن… مسّ حلمتيك انفجار النار قبل أن تصبح نارا، مياه تهرب عن الشرب، ظلمة بلا معنى أو صوت، تفتّتت شفتاي وهي تقبّل الدنى، صرت بلا دم، بلا جلد، بلا أسنان،… صرت بلا أنا…

النهر الأيسر الساري من تحت النهدين كان أكثر بلولة فصرت أتدحرج وأتقلّب وسمعت صوت الجوهر وهو يبكي، الزمن والحياة والموت كلم لا معنى له، في جنان جسدك الخضر لا أموت إلاّ مرّة وأولد مرّات ومرّات… كلّ مسّة ارتعاشة خلق جديدة لا تتكرّر، وديانك مصبّها غدا لا يمسك، لم يعد لي وجه وملامح تحفظ، نزعت أسمائي ورميتها للشلال فأنا الجوهر بلا صور، سقط الجوهر، ذابت الصور، أنا الذهاب، أنا السفر، أنا الحركة، أنا… أنا… أنا بعيد عن النقط.

توقّفت عند مفرق الصدر والعجز، أوّاه من خصرك! حبال الحرير رقيقة ولكن إليها تنزوي العوالم قبل السّفر، فراشات من ذهب تناغي قططا مطمئنّة، تحمل بعض قطرات وتسقي الورود المتناثرة ثمّ تصعد إلى السّماء وتفتح عين الشّمس، شلالات المياه تتّئد خطاها وتستلقي هناك نائمة… سرت بخطى حذرة، عرض الحبل لا يتّسع لقدمي، أصبحت ثعبانا فالتففت بالخصر وحينها أيقنت بأنّ الأرض تدور وأنّ الشموس تحيط بالعالمين، وألهمت الشعر فزقزقت القصائد، وفي إحدى سكراتي حلمت بالسّير في تلك البحيرة ذات المياه الهادئة حيث يحطّ ليل الأزمنة ويسكن التاريخ وكان خصرك ينوس بين ما ذهب وما لم يولد، ريحا رخاء تزاوج الأقمار وتصنع الأسماء.

ولما اقتربت من البحيرة نرسيس يبحث عن صورته في أعشابك، قرئ عليّ بصوت أزليّ: وترى في قعر بئر الوجود نورا أخضر وذلك نهاية الوجود والحدوث وبداية القدم.

لوحة داني حصروني

البنفسجيّ: احتراق الصّباح وردة تتنفّس

من سنّي الأولى، كنت أعشق الإيغال في كشوفه، لا أغمض من الليل إلاّ قليلا وفي ساعة بروزه ألملم شظاياي وأستفيق تهزني حميّة اللقيا، فأنظر إليه يتذرّى على سطح الوجود يذيب سواد اللّيل ويدعو بياض النهار، وما بين ليل آيب ونهار آت يكون معراج البنفسجيّ، فيه من هدأة الليل ما فيه من وحشة النشور، سرّ سحره في السؤال المتمزّق بين مكث وأوبة وبين النزول والصعود يحوم صراخه. وأخاف الغيبة فأخفّ إلى الشهود والتلاقي أراقب مسارب اليوم الجديد. وسرعان ما يوافيني حزن غتيت وتطير إليّ أسئلة لا أقدر الانتقال عنها، وتمور فيّ أجراس حديد يؤوس أن تجاب… في أيّ جزيرة سيدفن الزمن الذي مضى؟ وهل للفوت منهى؟ وإلام ترتقي الأحذية رؤوس الأحلام الصغيرة ثمّ تمضي لتعود؟ وهذا اليوم الذي أتى ماذا تحمل إليك طوارقه؟ أستفنى به الأوبة والأين وتسود الديموميّة أم سيبلى الماضي ويتبدّد بهتا أو شهابا مرق؟

لم السؤال؟ لم الجواب؟ يتوهم البنفسجيّ، اختناق اللّحظة، إيقاف الخطوة، اللّيل في كفّه سجين والنّهار زائر لم يجز له العبور، عيناه ترقبان القمر وبيديه يحفر في المرآة كوّة للأبديّة ويغنّي لاستباق ما لا يستبق. كفانا ذهابا وإيابا! كوانا التداني والتنائي! الحدوث غروب والسرمد كمون! ولكن! ها هي سياط الغزاة تتقشّع لها السماء وإذا بذوارف العين من البنفسجي، خلجان وشظايا وإذا بالمرآة تعبق ضياء، فيتبدّد البنفسجيّ وتغلق النافذة، وألوذ بهواجسي القادمة.

الموت في قعر بئرك بنفسجيّ وخطو منيّي إليك احتراق الأسئلة الصباحيّة، شجاي أن لا اشتفاء من تقبيل أشواك الوردة، حنوّ أهداب بتلاتك السّمر يحتضنني فأنسى ما مرّ بي من صقيع وأهتف: هنا مغالقي وقوقعتي وبئري! يغريني الحومان حول البحيرة بالصيام، أخشى إبحارا ينتهي رسوّا، أكره أن أكون كالنّهارات تزاوج اللّيل ثمّ تستفيق على شاطئ صخريّ، أقول: تقبيل رمال بحيرتك أبقى، كلّ اتّحاد آيل إلى انفراق… لكن، هل اشتفاء من تقبيل؟

تسري فيّ حمم عناقك، أرتجّ لزخّات لهاثك، عويل نفار شعرك فوق كتفيّ وبعض في فمي، يبعث الرّيح من سواكنها، احتكاك وجهك بصدري يمزّق أشرعتي، أمن نار لهاثك؟ حرائقك شبّت فنادتها مياهي، أرى دمي ينسكب من دمك، دمك من دمي، دمنا من دمنا… أحرق زورقي وألج البحيرة التي فيها روائي وأغنّي: لعلّ الإبحار يكون إبحارا.

يسكننا صمت لحظات الاتّحاد الأولى، صمت يكتم صمتا، فالكلام جسدان، ننصت لحديث جسدنا يروي حكاية فنائنا وجهين في جسد، جسدين في وجه… ويدوّي في الأعالي صراخنا لاهثا موجعا من أين خرج؟ كيف ترك الجسد ثراه وصعد إلى الأثير؟ أم تراه موج الالتحام الجسدي هفهف حيث الجوهر قبل أن يتشظّى ويرمى جزأين؟

أكاد أشرق من حنوّ صراخك وأرتجف عندما أعي مناداتك الوحشيّة إلى التماهي والفناء، هل سنعود إلى الأصل الذي كنّا؟ ألن نرتخى جسدين مرميّين على العتبة؟

وفي لحظة اكتمال النشوة/بدايتها/نهايتها، إذ تسقط المعيّة وينام غول الطريق وتحبل الدقائق قرونا، يعمّ البنفسجيّ الفضاء فتتّصل اللجّة باللجّة وأراني أُبثّ أجزاء وبعضا، نثاري دنوّ العناصر إليها، ها أنا أشلاء تموج في بحار وجزر متروكة، أقمشة حرير تباع في أسواق الصين والهند، مياه النخيل عند الغروب، ذوبان الغسق صبابة في جدائل الصبايا، آه! ما أوسعني! ما أكبرني! أنا الامتلاء، أنا بلا حدود! أنا العالم! لا سماء ولا أرض فيّ! أنا مقياس المسافات! أنا موت المسافات فلم يعد من وجود سواي! ويصرخ ما كان أطرافا وجزئيات: اثبت يا بنفسجي! ها هي اللّحظة الخاطفة! لا تكن رمادا أو نهرا كذّابا! كفانا زمنا يطوى وزمنا يلفظ! ولكن!..

هيهات أن يكون ثبت ومكث! تدوّي صرخة الاتّحاد الأخيرة، فيتلاشى البنفسجيّ ويطلّ الضياء ويصعد الزمن من بئرنا يذبّ بسياطه ويبدّد التنائي ما كان بين جسدينا من غلف، ونعود نقطتين مغتربتين ثم تلبسنا الأحجية!

الموت في قعر بئرك بنفسجيّ وخطو منيّي إليك احتراق الأسئلة الصباحيّة!

قلت: أما من نهاية للحدود؟ أيا بنفسجيّ متى تقبر فيك حيرة الألوان واختلاط الأجناس؟

أعود ألمس أشواك الوردة وأسألها: لمَ الغوص في البحيرة كالبنفسجيّ ينهش النهار منه الليل؟ متى يكون لي بئرك قوقعة وصدفة لا تفتح؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.