سهم الناقد وكعب الثقافة
الجدل الذي ما يزال يدور داخل أروقة الثقافة العربية حول إشكالية العلاقة بين الحداثة والأصالة والشرق والغرب وما يتفرع عنها من قضايا أدبية وفكرية يعكس حالة الاستقطاب المستمرة في المواقف والرؤى والخيارات بين التيارات والنخب الثقافية العربية المختلفة لأسباب أيديولوجية وسياسية وثقافية. وإذا كانت حدة هذا الجدل قد خفتت الآن فلأن الحماس الأيديولوجي الذي كان يقف وراء تصاعد هذا الجدل تراجع حضوره في الحياة الثقافية والسياسية العربية مع انحسار مسبباته.
لكن إسهامات الناقد الدكتور خلدون الشمعة الفكرية والنقدية التي بدأت منذ سبعينات القرن الماضي ما زالت تحافظ على خطها الفكري في حوارها النقدي المنفتح والعلمي مع الثقافة والنقد الغربيين من جهة، ومع أصحاب الاتجاهات المحافظة في الثقافة العربية من جهة أخرى، رغبة في تصحيح العلاقة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية، وتحقيق التفاعل الحي والموضوعي بينهما في سياق الرؤية الإنسانية للتطور الحضاري الذي ساهم فيه العرب بدور هام وأصيل.
***
أهم ما يميز أطروحات الناقد الطليعي خلدون الشمعة أنها كانت منفتحة على الحداثة، وفي الآن ذاته مخلصة لانتمائها الحضاري، ما جعله يخوض معاركه النقدية والفكرية على أكثر من جبهة، وما صدر من مؤلفات له خلال نصف قرن من البحث والكتابة يؤكد استمرارية هذا الموقف الذي ينطلق منه في سجاله النقدي مع الثقافتين الغربية والعربية، بغية تصحيح العلاقة مع الأولى، وتعزيز روح الإبداع والتطور في الثانية.
إن هذه الروح المنفتحة على العالم والعصر والمؤمنة بقيم الحرية والعدالة هي التي دفعت الشمعة في مرحلة اشتداد القمع السلطوي في سوريا قبل أربعين عاما إلى مغادرة دمشق إلى المنفى الذي لا يزال يقيم فيه احتجاجا على هذا التغول الأمني الذي صادر حرية المجتمع وألغى كل إمكانية معقولة لممارسة حرية الرأي والتعبير. لكن هذه المعاناة على قسوتها لم تمنعه من مواصلة انشغاله النقدي والثقافي بقضايا النقد الحديث والمعرفة والترجمة والاستشراق. ولعل نظرة على عناوين أعماله التي صدرت حتى الآن تكشف عن طبيعة هذا الانشغال المركّز، وعن الموقف النقدي حيالها بما يسهم في تعميق الوعي بها، واقتراح سبل الحوار معها وحولها، لاسيما ما يخص قضية استعادة التوازن في العلاقة المختلة مع الآخر من خلال تفكيك بنية خطابه الاستعلائي وتصحيح مقولاته التي يسعى عبرها لتكريس مركزيته وفرض ثقافته ومنظومة قيمه على العالم.
يعبر انشغال الناقد الشمعة بقضايا النقد الحديث والثقافة الغربية والاستشراق والأصوليات والعولمة وسواها عن رؤية حداثية متقدمة وعن موقف نقدي منها في آن معا، بعد أن ذهب العديد من المثقفين والدارسين العرب إلى التماهي مع أطروحات الحداثة الغربية أو مناكفتها العداء. لذلك عمل وما زال يعمل على تطوير هذه العلاقة وتعميقها في إطار التفاعل الحي والنقدي لكي تتخلص من معادلة التبعية والانغلاق في آن معا، ليكون في وسع المجتمعات العربية استعادة العلاقة المتوازنة بين الذات والعالم والعصر.
من هنا يمكن اعتبار كتابه الأخير “كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي” والصادر عن “دار ظلال وخطوط” 2021 مساهمة جديدة تنضاف إلى مساهماته السابقة في تناول قضايا النقد المعاصر والاستشراق والتراث والترجمة والأدب.
إن قراءة عناوين موضوعات الكتاب يمكنها أن تدل القارئ على شواغلها الأساسية، التي توزّعت على النقد الثقافي والشعبوية والعلاقة بين مفهومي الثابت والمتحول في إشاراتها الأولى عند طه حسين، وفي تطبيقاتها اللاحقة عند علي أحمد سعيد (أدونيس) ، ومصطلح الأدب الإسلامي، إضافة إلى مفهوم المعيارية والمحو والتطريس والاستشراق الموارب والأدب واللاهوت والاستبداد الشرقي والأسطورة الفرويدية وقضايا الترجمة ومفهوم الفلسفة وقصيدة النثر.
إن أول ما يلفت نظر القارئ لهذا الكتاب هو هذا التنوع الواسع في العناوين والموضوعات ذات الطبيعة الإشكالية التي يقاربها، والتي تغطي حقلا واسعا من قضايا النقد والأدب والشعر والفلسفة وعلم النفس، ما يدل على موسوعية ملحوظة في اهتمام الناقد، ورغبة في الإحاطة والربط بين أجزاء الشبكة المعرفية للثقافة، فلا حوار عميقاً من تلك دون نظرة شمولية نحو الفسيفساء التي تتشكل منها لوحة الثقافة في العالم، ليكون في إمكان الثقافة العربية إدراك ذاتها، وتحديد موقعها من الآخر.
ينطوي اختيار عنوان الكتاب الرئيس “كعب آخيل” على مقاصد دلالية في حين يأتي العنوان الثاني مكملا له لكي يوضح معناه ويشرحه، فهذا العنوان الذي هو استعارة رمزية مستمدة من الأسطورة الإغريقية يتضمن كما يشير المؤلف محو قرين الانكشاف في مواجهة الحقيقة المعرفية لأجل البحث عن يقين، إحلال النقد المعرفي محل النقد الأدبي باعتبار النقد تأويلا والبرهان نقضا، بهدف الوصول إلى وضع النقد الأدبي قبل أن يتحول إلى نقد ثقافي على محك النقد المعرفي.
لكن الناقد وعلى الرغم من هذا العنوان الفرعي يقدم طيفا من القراءات في قضايا مختلفة تشغل مساحة هامة في الثقافة والنقد والأدب والمعرفة. ففي دراسته حول النقد الثقافي يوجز أهم المعايير السائدة حول هذا النقد تتجلى في غياب التعيين التاريخي لبداية هذا النقد عربيا لذلك يعتمد على نظرية إدوارد سعيد القائلة بوجود بدايات لهذا النقد وليس بداية واحدة.
كذلك يميز الناقد بين مفهومي البداية والأصل باعتبار أن الأصل يحيل على مفهوم قداسي عاطفي وأسطوري. كما يميز بين النقد الأدبي والتنقيد كتوطئة أو فسحة افتراضية، كما يقترح، لكي تشكل نقلة معرفية كاملة في النقد الشامل التنفيذ. ولأجل تحقيق الغايات في استيضاح أصل المفهوم ومعناه تقوم هذه الدراسة على الشك والسؤال كبؤرة في تناول العلاقة الإبستمولوجية بهذا الأصل ودلالته بين كل من النقد الأدبي والتنقيد وبين مفهوم الأزمة.
في موضوع العولمة الأولى وأدب الرحلة ينطلق من السؤال حول حقيقة شيوع المصطلح في النصف الثاني من القرن الماضي انطلاقا من دراسة واسعة في كتب الرحالة العرب وطريق الحرير الذي كان يربط أقصى الغرب بأقصى الشرق. إن أهمية دراسة هذه المخطوطات تنبع من الخزين الأنثربولوجي والأسطوري والفينولوجي الذي تحتوي عليه ما يشكل مرجعا مهما يستوجب العودة إلية خاصة وأن هذه المؤلفات تحتفي بالعلاقة بالآخر بشكل لافت.
ويفرد الناقد في موضوع الأدب واللاهوت مساحة واسعة لمناقشة مقولة الثابت والمتحول عند أدونيس بوصفها ذات منزع اختزالي أيديولوجي غير مطابق للتاريخ. وفي هذا السياق يحاول فحص بعض خصائص جدلية الاتباع والإبداع من حيث الأصل المعرفي المغفل كما ظهرت عند أوغست كونت والتي أغفل أدونيس ذكرها، على خلاف ما قام به طه حسين في كتابه “ألوان” الذي ورد فيه للمرة الأولى مصطلح “الثابت والمتحول”، وحيث يحتل فيه كونت موقعا مركزيا على صعيد تطبيق هذه الجدلية على الأدب العربي.
إن الحدود بين الثابت والمتحول كما يراها الناقد لا يمكن أن تقوم على الفصل التام بل الافتراضي لوجود تداخل بينهما يتسرّب بموجبه الثابت إلى المتحول والمتحول إلى الثابت، الأمر الذي يجعل أدونيس يدشن وصاية فقهاء تتمثل الحداثة فيه بقرمطية تعيد إنتاج الاشتراكية والصوفية وأنسنة الوجود. وهذه هي المرة الأولى، ربما، التي يشير فيها ناقد بإصبعه إلى مصدر أصل لمصطلح سيرتبط باسم أدونيس ويشتهر به هو “الثابت والمتحول”!
ويبحث الناقد مسألة ظهور التيارات الشعبوية بوصفها ظاهرة آخذة في الاتساع تعتمد على البلاغة والبيان على حساب العقل والحوار وتستخدم القولبة والتنميط السلبي لتحقيق أهدافها. إن هذه الظاهرة التي تعود بجذورها إلى القرون الوسطى تدل على الجهل بالآخر كما ظهر ذلك في كتابات الغربيين آنذاك من حيث نمذجة الصورة وقولبتها والتي ما تزال قائمة حتى زمننا الحاضر.
وتأخذ القضايا النقدية مساحة أوسع يناقش فيها الشمعة مسألة المعيارية انطلاقا من تعريف إدوارد سعيد لهذا المفهوم الذي يدمجه النقاد بالكتابة بطرائق تمنح الأدب والفن أهميته ودلالته. إن هذا الفهم يبدو مشوشاً في حالة نقد الشعر العربي التي تتسم بغياب المعيار وحضور الافتعال، أو حضور الأيديولوجيا وغياب النص، ما يحيل الشعرية العربية إلى مجموعة من الثنائيات المتقابلة تتمثل في الأنا والآخر، والداخل والخارج، والفصل والوصل. الناقد الشمعة يرى أن هذه القضية تمتد إلى مسألة الجدل المستمر حول التراث والحداثة، والسبب في ذلك هو غياب المعيارية ذات الحمولة المعرفية الصادرة عن النص مباشرة. ولحل هذه الإشكالية يجد في نظرية إدوارد سعيد في البنوة والتبني، الموروث والمكتسب، ما يعين على التأسيس لمعيارية نقدية شديدة الصلة بالنصوص الشعرية.
وفي قضايا الأدب والنقد يتناول تقنيتين غير مألوفتين في النقد العربي هما تقنيتا البطء والسرعة في السرد القصصي والشعري. ويقارن بين الناقد العربي المعاصر المصرّ على التمذهب، وبين ميداس في الأسطورة الإغريقية الذي دفعه جشعه إلى أن يتمنى تحويل كل شيء إلى ذهب، حتى لم يعد يستطيع أن يقضم تفاحة أو يتجرع كأس ماء. وفي هذا السياق يتوقف عند الفكرة التي شاعت في النقد الأدبي المعاصر عن العلاقة بين الثورة والأشكال الأدبية التقليدية بوصفها استجابة لحركة التاريخ ما يقتضي التلازم بين تطور المجتمع وتطور تقنيات الكتابة. وكرد على هذه الدعاوى يتوقف الناقد عند قضية الصدق الفني والأصالة من خلال مفهوم المعاصرة. ويتخذ من تجربتي جمال الغيطاني ويوسف القعيد مثالين يكشفان عن السعي لإيجاد تقنية تستمد أصولها من الحياة والتاريخ العربيين بدلا من الاعتماد على التقنية القصصية العالمية. إن السرعة في السرد كما تتراءى لخلدون الشمعة يجرى توظيفها في خدمة التشويق وليس لخدمة جوهر القصة على خلاف البطء الذي يعكس إيقاع الحياة في الزمن الماضي. ويخلص الناقد من دراسته هذه إلى أن النقد العربي المعاصر ما زال أسيرا للمفاهيم المستمدة من ثقافة النقد الغربي.