سيد‭ ‬القمني‭ ‬غاضبا

الأحد 2017/01/01
لوحة: دارين أحمد

قد‭ ‬يكون‭ ‬المفكر‭ ‬والباحث‭ ‬الشهير‭ ‬سيد‭ ‬محمود‭ ‬القمني‭ ‬محقاً‭ ‬في‭ ‬العزوف‭ ‬عن‭ ‬النقاش،‭ ‬كما‭ ‬اشترط‭ ‬على‭ ‬محاوِرته‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬الجديد،‭ ‬لأن‭ ‬كثيرين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يناقشوه‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الإيمان‭ ‬والإلحاد،‭ ‬فيصبون‭ ‬زيتهم‭ ‬على‭ ‬نار‭ ‬الحرب‭ ‬المعلنة‭ ‬عليه،‭ ‬والدائرة،‭ ‬منذ‭ ‬زمن،‭ ‬بين‭ ‬الإسلاميين‭ ‬والعلمانيين،‭ ‬على‭ ‬افتراض‭ ‬أن‭ ‬العلمانيين‭ ‬ملة‭ ‬واحدة،‭ ‬ملحدة‭ ‬ومناهضة‭ ‬للإسلام،‭ ‬كما‭ ‬يعتقد‭ ‬الإسلاميون،‭ ‬وبعض‭ ‬ديمقراطيي‭ ‬صندوق‭ ‬الاقتراع،‭ ‬من‭ ‬السوريين‭ ‬خاصة‭.‬

وقد ‬اكتوى‭ ‬القمني‭ ‬بهذه‭ ‬النار‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬المحك‭. ‬ولعل‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يناقشونه‭ ‬من‭ ‬مواقع‭ ‬علمانية‭ ‬يحمِّلونه‭ ‬وزر‭ ‬اختزال‭ ‬العلمانية‭ ‬في‭ ‬مناهضة‭ ‬الدين‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭ ‬ومناهضة‭ ‬الإسلام‭ ‬بوجه‭ ‬خاص،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬تقدير‭ ‬لقيمة‭ ‬النقد‭ ‬وحرية‭ ‬التفكير،‭ ‬وحرية‭ ‬الرأي‭ ‬والضمير،‭ ‬فيمنحون‭ ‬الإسلاميين‭ ‬مسوّغاً‭ ‬إضافياً‭ ‬للافتراء‭ ‬عليه‭ ‬وتكفيره‭ ‬وهدر‭ ‬دمه‭.‬

ولكن‭ ‬الحوار‭ ‬والنقاش‭ ‬‮«‬فسحة‭ ‬أخلاقية‮»‬‭ ‬للتواصل‭ ‬والتذاوت،‭ ‬وعصف‭ ‬الذهن،‭ ‬وتجديد‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة،‭ ‬ومعرفة‭ ‬الذات،‭ ‬والتشارك‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لا‭ ‬للإقناع‭ ‬أو‭ ‬إفحام‭ ‬الخصم‭. ‬ولا‭ ‬شرط‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يناقش‭ ‬أو‭ ‬يحاور‭ ‬سوى‭ ‬التزام‭ ‬مبادئ‭ ‬الحوار‭ ‬وأخلاقياته،‭ ‬أو‭ ‬إيتيقا‭ ‬النقاش‭.‬

لا‭ ‬أدّعي‭ ‬أنني‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬سيد‭ ‬محمود‭ ‬القمني،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬منزلته‭ ‬ومقامه،‭ ‬بمن‭ ‬هو‭ ‬‮«‬المعلم‭ ‬الأكبر‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يصف‭ ‬نفسه،‭ ‬تيمناً‭ ‬بالمعلم‭ ‬الأول‭. ‬ولكن،‭ ‬من‭ ‬حقّي‭ ‬أن‭ ‬أناقش‭ ‬أفكاره‭ ‬ومواقفه،‭ ‬ولا‭ ‬فصل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬وتلك،‭ ‬بصفتي‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬قرائه‭ ‬والمتضامنين‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬محنته،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬اتفاقي‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬اتفاقي‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬أفكاره،‭ ‬لأنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬منع‭ ‬النقاش‭ ‬و‮»‬انقطاع‭ ‬التنافس‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬كارثة‭ ‬عقلية‮»‬‭.‬

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬والتاريخ‭ ‬المجهول‮»‬‭ ‬يذهب‭ ‬القمني‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬البحث‭ ‬العلمي‮»‬‭ ‬مذهباً‭ ‬غريباً،‭ ‬هو‭ ‬البرهنة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬من‭ ‬ليس‭ ‬موجوداً،‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم،‭ ‬لكي‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬‮«‬أساطير‭ ‬الأوّلين‮»‬‭ ‬القرآنية‭. ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬تحت‭ ‬نفي‭ ‬وجود‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخليل‭ ‬ونفي‭ ‬نبوته،‭ ‬فالأسطورة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬بصفتها‭ ‬هذه،‭ ‬ومؤثرة‭ ‬فيه،‭ ‬وراسخة‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬مليارات‭ ‬اليهود‭ ‬والمسيحيين‭ ‬والمسلمين،‭ ‬وفي‭ ‬لاوعيهم‭. ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نفي‭ ‬وجود‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخليل‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬وجود‭ ‬اليهودية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإسلام‭ ‬فيه‭. ‬ربما‭ ‬ظن‭ ‬القمني‭ ‬أن‭ ‬البرهنة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬تنسف‭ ‬تاريخية‭ ‬الديانات‭ ‬الإبراهيمية‭ ‬جميعاً،‭ ‬كأن‭ ‬وجود‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬هو‭ ‬علة‭ ‬وجودها،‭ ‬وكأن‭ ‬البرهنة‭ ‬على‭ ‬أسطورية‭ ‬الديانات‭ ‬الإبراهيمة‭ ‬ونفي‭ ‬تاريخيتها‭ ‬تكفيان‭ ‬لتفنيد‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية،‭ ‬أو‭ ‬لإخراج‭ ‬الديانات‭ ‬الإبراهيمية‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬التاريخي،‭ ‬نعني‭ ‬سياق‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية،‭ ‬فيغدو‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬الحالين‭ ‬تاريخ‭ ‬الأشياء،‭ ‬لا‭ ‬تاريخ‭ ‬البشر،‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬يصنعون‭ ‬تاريخهم‭ ‬بأنفسهم،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لا‭ ‬يصنعونه‭ ‬على‭ ‬هواهم‮»‬‭ ‬بتعبير‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭.‬

يقول‭ ‬القمني‭ ‬‮«‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬الأديان‭ ‬الثلاثة‭ ‬‭(‬اليهودية‭ ‬والمسيحية‭ ‬والإسلام‭)‬‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬وعلم‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬آخر؛‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬من‭ ‬وثائقه‭ ‬الأركيولوجية‭ ‬والآثارية‭ ‬شيئاً‭ ‬البتة‭ ‬عن‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم‭. ‬ورغم‭ ‬اتفاق‭ ‬القصة‭ ‬التوراتية‭ ‬مع‭ ‬قصص‭ ‬الإخباريين‭ ‬المسلمين‭ ‬حول‭ ‬موطن‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬الأصلي،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬هاجر‭ ‬من‭ ‬موطنه‭ ‬الأصلي‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬وأنه‭ ‬زار‭ ‬مصر‭ ‬زيارة‭ ‬مهمة‭ ‬وخطيرة،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الزيارة‭ ‬لمصر‭ ‬أساساً‭ ‬للثروة‭ ‬الطائلة‭ ‬التي‭ ‬تمتعت‭ ‬بها‭ ‬ذريته‭ ‬فيما‭ ‬بعد‮»‬ (ص16).

أليس‭ ‬فرض‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬المسلمين‭ ‬أو‭ ‬التهديد‭ ‬بذلك‭ ‬موقفاً‭ ‬إسلاموياً‭ ‬متطرفاً،‭ ‬حاوله‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وكانت‭ ‬عواقبه‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعلى‭ ‬مصر‭ ‬والمصريين؟‭ ‬الغضب‭ ‬لا‭ ‬يشفع‭ ‬لمفكر‭ ‬مثل‭ ‬القمني‭

جاء‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬التأسيس‮»‬‭. ‬فأطروحة‭ ‬التأسيس‭ ‬المركزية‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬الأديان‭ ‬الثلاثة‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬وعلم‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬آخر‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أطروحة‭ ‬لا‭ ‬تختزل‭ ‬علم‭ ‬التاريخ‭ ‬وتخفِّضه‭ ‬إلى‭ ‬أركيولوجيا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تحذف‭ ‬الأديان‭ ‬الثلاثة‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتضعها‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬‭(‬؟‭)‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬التاريخ‭ ‬يبقى‭ ‬على‭ ‬حاله‭. ‬الدين‭ ‬ظاهرة‭ ‬تاريخية‭ ‬لا‭ ‬تزول‭ ‬إلا‭ ‬بزوال‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬نشوئها،‭ ‬حسب‭ ‬ماركس‭ ‬وغيره،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لب‭ ‬الحديث‭. ‬و‮»‬الروح‭ ‬الذي‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬الروح‭ ‬الإنساني‮»‬،‭ ‬القابل‭ ‬للتحقق‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وفي‭ ‬التاريخ،‭ ‬حسب‭ ‬ماركس‭ ‬أيضاً‭.‬

نحن‭ ‬نتبنّى‭ ‬هذه‭ ‬الأطروحة‭ ‬الماركسية‭ ‬بقوة،‭ ‬لأنها‭ ‬تؤسس‭ ‬مشروع‭ ‬نقد‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبدأ‭ ‬عندنا‭ ‬بعد،‭ ‬للانتقال‭ ‬إلى‭ ‬نقد‭ ‬السياسة‭. ‬نقد‭ ‬الدين‭ ‬شرط‭ ‬ضروري‭ ‬ومقدمة‭ ‬لازمة‭ ‬لنقد‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬لتعرية‭ ‬جذور‭ ‬الاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬والبنى‭ ‬البطريركية‭ ‬والعقائد‭ ‬التي‭ ‬تبطّنها‭ ‬والسلطات‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تنتج‭ ‬منها،‭ ‬ونقد‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬التفاضلية‭ ‬والإقصائية‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬محل‭ ‬الدين،‭ ‬وتقوم‭ ‬بأسوأ‭ ‬أدواره،‭ ‬نعني‭ ‬نشر‭ ‬التعصب‭ ‬والتطرف‭ ‬والتمييز‭ ‬وقطع‭ ‬الروابط‭ ‬الإنسانية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬التي‭ ‬تشد‭ ‬الناس‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭. ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬البعد‭ ‬الميثي‭ ‬‭(‬الأسطوري‭)‬‭ ‬للدين،‭ ‬بتعبير‭ ‬محمد‭ ‬أركون،‭ ‬والأساطير‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬نتاجات‭ ‬العقل‭ ‬البشري،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬ينتج‭ ‬الأساطير،‭ ‬والأوهام‭ ‬أيضاً‭.‬

القول‭ ‬بأن‭ ‬الروح‭ ‬الإنساني‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬الدين،‭ ‬لا‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬الروح‭ ‬الإنساني‭ ‬قيمة‭ ‬إيجابية‭ ‬مطلقة؛‭ ‬فالإنسانية‭ ‬واللاإنسانية‭ ‬حقيقتان‭ ‬بشريتان،‭ ‬والنكوص‭ ‬إلى‭ ‬الهمجية،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬عندنا،‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وغيرها،‭ ‬حقيقة‭ ‬تاريخية‭. ‬ولا‭ ‬يضفي،‭ ‬من‭ ‬ثم،‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬قيمة‭ ‬إيجابية‭ ‬مطلقة،‭ ‬ولكنه‭ ‬يؤكد‭ ‬أثر‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬البشر‭ ‬وفي‭ ‬تاريخهم،‭ ‬إيجابياً‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬أم‭ ‬سلبياً‭.‬

إذا‭ ‬عطفنا‭ ‬كتاب‭ ‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الحزب‭ ‬الهاشمي‮»‬،‭ ‬وأطروحته‭ ‬المركزية‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬ترجم‭ ‬حلم‭ ‬جده‭ ‬عبدالمطلب‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬تقريشها‭ ‬وإقامة‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬ستغدو‭ ‬إمبراطورية‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬للإسلام‭ ‬في‭ ‬قيامها،‭ ‬لأن‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬وعلم‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭. ‬وإذ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬نفي‭ ‬أثر‭ ‬الإسلام‭ ‬ودوره‭ ‬التسويغي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬أطروحة‭ ‬القمني،‭ ‬تقدم‭ ‬سنداً‭ ‬‮«‬تاريخياً‮»‬‭ ‬للشطر‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬حسن‭ ‬البنا‭ ‬القائلة‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬دين‭ ‬ودنيا‭ ‬ودولة‭.. ‬مصحف‭ ‬وسيف‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬‮«‬حروب‭ ‬دولة‭ ‬الرسول‮»‬‭ ‬لا‭ ‬نقع‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬أفعال‭ ‬السيف،‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬الحجاب‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الحزب‭ ‬الهاشمي‭ ‬السياسية‭.‬

لعلّ‭ ‬عزل‭ ‬الإسلام‭ ‬والتراث‭ ‬الإسلامي‭ ‬عن‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية‭ ‬الكونية‭ ‬وتاريخها،‭ ‬وعدم‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬الدين،‭ ‬بصفته‭ ‬ميلاً‭ ‬بشرياً‭ ‬عاماً‭ ‬إلى‭ ‬التقديس‭ ‬والتأليه،‭ ‬وبين‭ ‬المذاهب‭ ‬الدينية‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتخالفة،‭ ‬التي‭ ‬يدعي‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬بأنه‭ ‬الــ‮»‬دين‮»‬،‭ ‬بأل‭ ‬التعريف‭ ‬الجنسية،‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬البلبلة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وغيرها،‭ ‬حتى‭ ‬ليبدو‭ ‬كل‭ ‬مذهب‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬الدينية‭ ‬عالماً‭ ‬ماهوياً‭ ‬قائماً‭ ‬بذاته‭.‬


لوحة: دارين أحمد

ثمة‭ ‬صلة‭ ‬بين‭ ‬أوهام‭ ‬المركزية‭ ‬الإثنية‭ ‬وبين‭ ‬ادّعاء‭ ‬كل‭ ‬جماعة‭ ‬بأن‭ ‬دينها‭ ‬هو‭ ‬الدين‭ ‬الحق،‭ ‬وغيره‭ ‬كفر‭ ‬وشرك‭. ‬فالبشر‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬أنتجوا‭ ‬الدين،‭ ‬وليس‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭ ‬البشر‭. ‬هنا‭ ‬تلزم‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الاغتراب،‭ ‬بوصفه‭ ‬علَّة‭ ‬التقديس‭ ‬والتأليه،‭ ‬أو‭ ‬علَّة‭ ‬التدين،‭ ‬عند‭ ‬لودفيغ‭ ‬فيورباخ،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬معلولها،‭ ‬وبوصفه‭ ‬علَّة‭ ‬ظهور‭ ‬الملكية‭ ‬الخاصة،‭ ‬عند‭ ‬كارل‭ ‬ماركس،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ماثلة‭ ‬في‭ ‬معلولها‭ ‬أيضاً‭.‬

ويؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬التضامن‭ ‬التاريخي‭ ‬المطَّرد‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والملكية‭ ‬الخاصة،‭ ‬وهو‭ ‬أساس‭ ‬التضامن‭ ‬التاريخي‭ ‬المطَّرد‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والسلطة‭. ‬إذ‭ ‬الدين‭ ‬سلطة‭ ‬معنوية‭ ‬ناعمة،‭ ‬تحظى‭ ‬بمقبولية‭ ‬طوعية،‭ ‬مع‭ ‬عدم‭ ‬استبعاد‭ ‬أشكال‭ ‬القسر‭ ‬السياسي‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬لفرض‭ ‬عقيدة‭ ‬الغالب‭ ‬بقوة‭ ‬السيف،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬عُرف‭ ‬عن‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬والحروب‭ ‬الدينية‭. ‬لذلك‭ ‬يعدّ‭ ‬نقد‭ ‬الدين‭ ‬مقدمة‭ ‬لازمة‭ ‬لنقد‭ ‬السياسة‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬السلطات‭ ‬الشخصية‭ ‬والنظم‭ ‬المستبدة‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬الدين،‭ ‬لفرض‭ ‬سيطرتها،‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭. ‬‭(‬راجعوا‭ ‬وصايا‭ ‬الملوك‭)‬‭.‬

أردنا‭ ‬مما‭ ‬تقدم‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬الطابع‭ ‬السجالي‭ ‬والبعد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬‭(‬العلماني،‭ ‬القومي،‭ ‬اليساري‭..‬‭)‬‭ ‬لأعمال‭ ‬سيد‭ ‬القمني،‭ ‬وموقفه‭ ‬من‭ ‬الأديان‭ ‬الثلاثة،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية‭. ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬ندرج‭ ‬أعماله‭ ‬في‭ ‬مدرج‭ ‬نقد‭ ‬الظاهرة‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬نقد‭ ‬الدين،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬رأينا‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬فيورباخ‭ ‬وماركس،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭.‬

يؤيدنا‭ ‬القمني‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وجدت‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ينشرون‭ ‬على‭ ‬صفحاتهم‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬نبوءات‭ ‬للمدعو‭ ‬زورًا‭ ‬وبهتانًا‭ ‬بالنبي‭ ‬إشعياء،‭ ‬ليقولوا‭ ‬إن‭ ‬نبوءاته‭ ‬تتحقق‭ ‬الآن‭. ‬عندما‭ ‬أجد‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بها‭ ‬بلدي‭ ‬أناسًا‭ ‬شامتين‭ ‬ينشرون‭ ‬هذا‭ ‬السفر‭ ‬الذي‭ ‬يتنبأ‭ ‬بخراب‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجوانب‭ ‬وجفاف‭ ‬النيل‭ ‬وقتل‭ ‬المصريين‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض،‭ ‬والقول‭ ‬إن‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬دمار‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬لها‭ ‬رئيس،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬ستعود‭ ‬مصر‭ ‬للربّ‭ ‬الحقيقي‭ ‬يهوه‭. ‬من‭ ‬ينشر‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الإسلام‭ ‬فقط‭ ‬فيه‭ ‬إرهاب‭ ‬وهو‭ ‬متمسك‭ ‬بسفر‭ ‬إشعياء‭ ‬والتوراة‭ ‬وهما‭ ‬أصل‭ ‬الإرهاب‭. ‬من‭ ‬يعتمد‭ ‬إشعياء‭ ‬والتوراة‭ ‬يكون‭ ‬أسوأ‭ ‬مما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬حروب‭ ‬فاتكة،‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬هذه‭ ‬مرجعيته‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يغضب‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬إخضاعه‭ ‬لحكم‭ ‬إسلامي‭ ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬الجزية‮»‬‭. ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬سجال‭ ‬غاضب‭. ‬وقد‭ ‬أشرنا‭ ‬غير‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬اقتران‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬بالسجال‭ ‬العقيم‭ ‬وازدراء‭ ‬الخصم‭ ‬وإهانته،‭ ‬واقتران‭ ‬الفكر‭ ‬بالنقاش‭ ‬والحوار‭.‬

ويضيف‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أنقد‭ ‬التراث‭ ‬الإسلامي‭ ‬كان‭ ‬يصفّق‭ ‬لي‭ ‬المسيحيون،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬تراثهم‭ ‬المسيحي‭ ‬شنّوا‭ ‬هجماتهم‭ ‬الضارية‭ ‬ضدي،‭ ‬مع‭ ‬هذا،‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أقترب‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬نقد‭ ‬الأناجيل،‭ ‬وقد‭ ‬حذرهم‭ ‬تلاميذي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭. ‬من‭ ‬يضع‭ ‬الدين‭ ‬قبل‭ ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬ذميّ‭ ‬وليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬ويحتاج‭ ‬لمن‭ ‬يتكلم‭ ‬معه‭ ‬اللغة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬اركع‭ ‬يا‭ ‬ذليل‭ ‬لسيدك‭ ‬المسلم‭ ‬وسأطبق‭ ‬عليك‭ ‬الشريعة‭ ‬ما‭ ‬دمت‭ ‬طالبًا‭ ‬لمصر‭ ‬خراب‭ ‬إشعياء‮»‬‭. ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬اللؤم‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭: ‬من‭ ‬الذي‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬حرض‭ ‬القمني‭ ‬على‭ ‬‮«‬نقد‭ ‬التراث‭ ‬الإسلامي‮»‬؟‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنها‭ ‬أحوال‭ ‬المسلمين،‭ ‬وظهور‭ ‬الجماعات‭ ‬السلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬والجهادية،‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬هدر‭ ‬الوطن‭ ‬المصري‭ ‬والمواطنة‭ ‬المصرية،‭ ‬وأساءت‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسلمين‭. ‬فلا‭ ‬يخالجنا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬غيرة‭ ‬القمني‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬والمصريين‭ ‬كافة،‭ ‬وعلى‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬كافة‭. ‬ولكن‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬اركع‭ ‬يا‭ ‬ذليل‭ ‬لسيدك‭ ‬المسلم‮»‬‭ ‬يتناقض‭ ‬مع‭ ‬تمنّيه‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬لم‭ ‬يفتح‭ ‬مصر،‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬إليها‭.‬

لكننا‭ ‬نربأ‭ ‬بالقمني‭ ‬أن‭ ‬يتبنى‭ ‬‮«‬اللغة‭ ‬الإسلامية‮»‬‭ ‬وأن‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬حميّة‭ ‬إسلامية‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬عصبيّة‭ ‬إسلامية،‭ ‬بل‭ ‬جاهليّة‭ ‬إسلامية،‭ ‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬القول،‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬جاهلية‭ ‬الإسلامويين‭ ‬المتطرفين‭ ‬وجهلهم‭ ‬‮«‬اركع‭ ‬يا‭ ‬ذليل‭ ‬لسيدك‭ ‬المسلم،‭ ‬وسأطبق‭ ‬عليك‭ ‬الشريعة،‭ ‬ما‭ ‬دمت‭ ‬طالباً‭ ‬لمصر‭ ‬خراب‭ ‬إشعياء‮»‬‭.‬ أليس‭ ‬فرض‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬المسلمين‭ ‬أو‭ ‬التهديد‭ ‬بذلك‭ ‬موقفاً‭ ‬إسلاموياً‭ ‬متطرفاً،‭ ‬حاوله‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وكانت‭ ‬عواقبه‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬أنفسهم‭ ‬وعلى‭ ‬مصر‭ ‬والمصريين؟‭ ‬الغضب‭ ‬لا‭ ‬يشفع‭ ‬لمفكر‭ ‬مثل‭ ‬القمني‭.‬

سأغامر‭ ‬بالقول،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬كلام‭ ‬مؤرخ‭ ‬أو‭ ‬مفكر،‭ ‬بل‭ ‬كلام‭ ‬مناضل‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬تحلّ‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬محلّ‭ ‬الدين‭. ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سيحدث‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬مصر،‭ ‬أي‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬‮«‬الاحتلال‮»‬‭. ‬والقمني‭ ‬يعلم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬أن ‭)‬لو‭ ‬أن‭..‬) لا‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭

ثم‭ ‬كيف‭ ‬لمواطن‭ ‬مصري،‭ ‬يدرك‭ ‬مبادئ‭ ‬المواطنة‭ ‬وقيمها،‭ ‬أن‭ ‬يمنّ‭ ‬على‭ ‬المصريين‭ ‬المسيحيين‭ ‬بالدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوقهم،‭ ‬‮«‬حين‭ ‬كانت‭ ‬الكنيسة‭ ‬مصابة‭ ‬بخرس‭ ‬لساني‭ ‬وشلل‭ ‬رباعي‮»‬‭!‬؟‭ ‬الغضب‭ ‬دليل‭ ‬سيّئ‭ ‬ومرشد‭ ‬أعمى‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والسياسة‭! ‬ثم‭ ‬لماذا‭ ‬يلوم‭ ‬القمني‭ ‬المسيحيين‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الشارع‭ ‬الآن‭ ‬‭(‬إسلامي‭ ‬ومسيحي‭)‬‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭ ‬الأخلاقي‮»‬،‭ ‬بسبب‭ ‬هدر‭ ‬المواطنة‭ ‬وهدر‭ ‬الوطن‭. ‬وأن‭ ‬‮«‬قيم‭ ‬الوطن‭ ‬غابت‭ ‬عند‭ ‬المواطنين‭ ‬وعند‭ ‬الحكام،‭ ‬‭(‬ويخص‭)‬‭ ‬بالذكر،‭ ‬الحكام‭ ‬الحاليين،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬غابت‭ ‬قيمة‭ ‬العلم‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬وضاعت‭ ‬قيمة‭ ‬الدين‭ ‬أيضاً،‭ ‬لأن‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬المعايير‭ ‬الثلاثة‭ ‬التي‭ ‬يقترحها‭ ‬القمني‭ ‬على‭ ‬سلّم‭ ‬القيم،‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يصعد‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬المرتبة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬‮«‬لتعدد‭ ‬مذاهبه‭ ‬وطوائفه‮»‬‭. ‬الدين،‭ ‬إذن،‭ ‬أحد‭ ‬معايير‭ ‬صعود‭ ‬المجتمع،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المعيار‭ ‬الأساسي‭ ‬المحجوز‭ ‬للوطن،‭ ‬ويليه‭ ‬العلم،‭ ‬ولكنّه‭ ‬أحد‭ ‬المعايير‭ ‬على‭ ‬سلّم‭ ‬القيم،‭ ‬فلا‭ ‬ندري‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬نسل‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الإسلامي،‭ ‬الذي‭ ‬يفككه‭ ‬القمني‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬نواته‭ ‬الأسطورية،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬ينفيه‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬التاريخ،‭ ‬بالبرهنة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخليل‭ ‬فيه‭.‬

ولا‭ ‬ندري‭ ‬كيف‭ ‬يتّسق‭ ‬سلّم‭ ‬القيم،‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬أدنى‭ ‬درجاته،‭ ‬مع‭ ‬قول‭ ‬القمني‭ ‬‮«‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬إلى‭ ‬مصر؛‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬تاريخ‭ ‬المنطقة‭ ‬كلها‭ ‬كان‭ ‬سيتغير‭ ‬تمامًا‭ ‬آنذاك،‭ ‬فمصر‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬تُحتل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬متحضرين،‭ ‬فالمتحضر‭ ‬الأقوى‭ ‬يُقدّر‭ ‬حضارة‭ ‬المتحضر‭ ‬الأضعف‭ ‬أمامه‭ ‬فيضيف‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬يمحو‭ ‬حضارته‭. ‬عندما‭ ‬دخل‭ ‬الاسكندر‭ ‬مصر‭ ‬أبقى‭ ‬على‭ ‬جيشه‭ ‬خارجها‭ ‬وكانت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انهيار‭ ‬تامة‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬بلد‭ ‬الحضارة،‭ ‬فنزل‭ ‬بقارب‭ ‬وطلب‭ ‬أن‭ ‬يحج‭ ‬لآمون،‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬علّمه‭ ‬أرسطو‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬إما‭ ‬زيوس‭ ‬أو‭ ‬الجزية‭ ‬أو‭ ‬القتل‭. ‬الروم‭ ‬أيضًا‭ ‬أضافوا‭ ‬لمصر‭ ‬وأكملوا‭ ‬المكتبة‭ ‬بعدما‭ ‬تم‭ ‬حرقها،‭ ‬‭(‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬نابليون؟‭)‬‭ ‬أما‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬وقف‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬وطلب‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشياء‭ ‬إما‭ ‬الإسلام‭ ‬أو‭ ‬الجزية‭ ‬أو‭ ‬القتل،‭ ‬وقتها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬القرآن‭ ‬قد‭ ‬جُمِع‭ ‬بعد،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬حفظة‭ ‬القرآن‭ ‬منعهم‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬من‭ ‬الخروج‭ ‬للغزو،‭ ‬والنصائح‭ ‬الجميلة‭ ‬للقوات‭ ‬الغازية‭ ‬بألا‭ ‬تقتل‭ ‬قعيدًا‭ ‬أو‭ ‬كبير‭ ‬السن‭ ‬أو‭ ‬عجوزًا‭ ‬قتلتها‭ ‬الاستثناءات‭ ‬‮«‬إلا‭ ‬من‭ ‬شارك‭ ‬ولو‭ ‬بالمال‭ ‬أو‭ ‬الأدوات‭ ‬أو‭ ‬الطعام‭ ‬أو‭ ‬التحريض‭ ‬ضد‭ ‬الغزاة‭ ‬العرب‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬كان‭ ‬يتم‭ ‬قتل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يحاول‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬أهله‭ ‬أو‭ ‬بيته‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬قعيدًا‮»‬‭.‬

سأغامر‭ ‬بالقول،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬كلام‭ ‬مؤرخ‭ ‬أو‭ ‬مفكر،‭ ‬بل‭ ‬كلام‭ ‬مناضل‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬تحلّ‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬محلّ‭ ‬الدين‭. ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سيحدث‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬مصر،‭ ‬أي‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬لم‭ ‬يدخل‭ ‬مصر‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬‮«‬الاحتلال‮»‬‭. ‬والقمني‭ ‬يعلم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬أن‭ ‬‭(‬لو‭ ‬أن‭..‬‭)‬‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬التاريخ‭ ‬توقيع‭ ‬ممكنات‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬ممكنات‭ ‬أخرى‭. ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬رد‭ ‬التاريخ‭ ‬على‭ ‬أعقابه‭ ‬بسحر‭ ‬‮«‬لو‭ ‬أن‭..‬‮»‬‭. ‬أجل‭ ‬هذا‭ ‬موقف‭ ‬أيديولوجي‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بعلم‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولعله‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬الشعوري‭ ‬على‭ ‬سياسات‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬ومواقفهم‭.‬

يقول‭ ‬القمني‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬حاليًا‭ ‬والمتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬أشدّ‭ ‬خطرًا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬ويجب‭ ‬التخلص‭ ‬منه‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬صحح‭ ‬القول‭ ‬المنسوب‭ ‬إليه‭ ‬بأن‭ ‬الخطر‭ ‬الحقيقي‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬هو‭ ‬الإسلام‭ ‬ويجب‭ ‬التحرك‭ ‬للتخلص‭ ‬منه،‭ ‬وأن‭ ‬الأديان‭ ‬كلها‭ ‬حلت‭ ‬مشكلتها‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ‬عدا‭ ‬الإسلام‭.. ‬أي‭ ‬إنه‭ ‬قال‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬حالياً‭ ‬والمتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.. ‬هو‭ ‬الخطر،‭ ‬لا‭ ‬الإسلام‭ ‬بلا‭ ‬تحديد‭ ‬أو‭ ‬تعيين‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬جيد‭. ‬ولكنه،‭ ‬للأسف‭ ‬لم‭ ‬يصف‭ ‬لمستمعيه‭ ‬ولنا‭ ‬الإسلام‭ ‬غير‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬حالياً،‭ ‬وغير‭ ‬المتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭. ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نفترض‭ ‬أنه‭ ‬إسلام‭ ‬نقيّ‭ ‬لا‭ ‬تشوبه‭ ‬شائبة‭ ‬تعصّب‭ ‬أو‭ ‬عنف‭ ‬أو‭ ‬إرهاب،‭ ‬ولعله‭ ‬غير‭ ‬أسطوري‭ ‬أيضاً‭. ‬يكون‭ ‬الدين‭ ‬كما‭ ‬يكون‭ ‬أهله،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬الناس‭ ‬كما‭ ‬يكون‭ ‬الدين‭. ‬الإسلامويون‭ ‬أيضاً‭ ‬ينتقدون‭ ‬الإسلام‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬حالياً‭ ‬والمتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ولذلك‭ ‬يتنطّعون‭ ‬لهداية‭ ‬المسلمين،‭ ‬قبل‭ ‬غيرهم،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬الصحيح‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬وغير‭ ‬المتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ويجاهدون‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬ذلك،‭ ‬ويجيزون‭ ‬لأنفسهم‭ ‬تكفير‭ ‬سائر‭ ‬المسلمين،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬المسلمين‭.‬

سنخالف‭ ‬سيد‭ ‬القمني‭ ‬وكثيرين‭ ‬غيره‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬الإسلام‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬اليوم‭ ‬والمتداول‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬متصالح‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ‬ومنجزها‭ ‬التاريخي،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬باستثناء‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬حسن‭ ‬البنا‭. ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬يمارسون‭ ‬عباداتهم‭ ‬وشعائرهم،‭ ‬كسائر‭ ‬البشر،‭ ‬باستثناء‭ ‬المتطرفين‭ ‬منهم‭ ‬والجهاديين،‭ ‬متصالحون‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ‬ومنجزها‭ ‬التاريخي‭. ‬فالمشكلة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وليست‭ ‬في‭ ‬المسلمين،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬جماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬الدعوية‭ ‬والجهادية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستنفد‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولا‭ ‬تستنفد‭ ‬المسلمين‭. ‬أي‭ ‬إن‭ ‬المشكلة،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجانب،‭ ‬أيديولوجية‭-‬سياسية‭ ‬بالتحديد،‭ ‬لا‭ ‬تختلف،‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الإسلامي،‭ ‬عن‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬‭(‬الإسلاموفوبيا‭)‬‭ ‬والتخويف‭ ‬به‭ ‬والتخويف‭ ‬منه،‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬المقابل‭. ‬ولكنها،‭ ‬من‭ ‬جوانبها‭ ‬الأخرى،‭ ‬مشكلة‭ ‬مجتمعات‭ ‬بطريركية‭ ‬وسلطات‭ ‬مستبدة‭ ‬وأنظمة‭ ‬تعليم‭ ‬ملتبسة‭ ‬ومؤسسات‭ ‬فاسدة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬كلها‭ ‬دون‭ ‬الحالة‭ ‬المدنية،‭ ‬التي‭ ‬بسطها‭ ‬فلاسفة‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتحققت‭ ‬في‭ ‬البلدان‭ ‬المتقدمة،‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭.‬

يطالعنا‭ ‬القمني‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬العامة‭ ‬القطعية‭ ‬من‭ ‬نوع‭:‬

1- ‬‮«‬الغرب‭ ‬لديه‭ ‬مشكلة‭ ‬مع‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬البدهي‭ ‬أن‭ ‬يُقابَل‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬بحكم‭ ‬آخر‭: ‬الإسلام‭ ‬لديه‭ ‬مشكلة‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭. ‬الغرب‭ ‬والإسلام‭ ‬في‭ ‬الحكمين‭ ‬لا‭ ‬يعيِّنان‭ ‬شيئاً،‭ ‬لشدة‭ ‬عموميتهما‭ ‬وغموضهما،‭ ‬حتى‭ ‬كأن‭ ‬الغرب‭ ‬والإسلام‭ ‬جوهران‭ ‬أو‭ ‬ماهيتان‭ ‬ثابتتان،‭ ‬معلقتان‭ ‬فوق‭ ‬التاريخ‭. ‬ثمة‭ ‬قوى‭ ‬محافظة‭ ‬وعنصرية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬وغير‭ ‬الأوروبية‭ ‬أيضاً‭ ‬تتغذى‭ ‬على‭ ‬الكراهية،‭ ‬تقابلها‭ ‬في‭ ‬العالمين‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬قوى‭ ‬محافظة‭ ‬وعنصرية،‭ ‬تتغذى‭ ‬مثلها‭ ‬على‭ ‬الكراهية،‭ ‬لا‭ ‬هذه‭ ‬تمثل‭ ‬‮«‬الإسلام‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬تلك‭ ‬تمثل‭ ‬‮«‬الغرب‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬تمثل‭ ‬مصالح‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كد‭ ‬الذهن‭ ‬لمعرفتها‭.‬

قلة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والباحثين‭ ‬يتوفرون‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الشجاعة‭. ‬ثمة‭ ‬كثيرون‭ ‬يعيدون‭ ‬طباعة‭ ‬كتبهم‭ ‬القديمة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬تعديل،‭ ‬مع‭ ‬أنهم‭ ‬غيّروا‭ ‬آراءهم‭ ‬ومواقفهم،‭ ‬فلا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد

2- «‬زيدوا‭ ‬حقن‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وعرِّفوا‭ ‬العالم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬خطر‭ ‬ساحق‮»‬‭. ‬القوى‭ ‬المحافظة،‭ ‬التي‭ ‬أشرت‭ ‬إليها،‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بمثابرة‭ ‬واجتهاد،‭ ‬وليست‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬نصيحة‭ ‬القمني،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬الأخذ‭ ‬بها‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬الإرهاب‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وتوسيع‭ ‬رقعته‭. ‬من‭ ‬أعجب‭ ‬العجب‭ ‬أن‭ ‬يدعو‭ ‬مفكر‭ ‬عربيا‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬عربي،‭ ‬مسلماً‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬مسلم،‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬حقن‭ ‬العالم‭ ‬بالإسلاموفوبيا،‭ ‬أو‭ ‬بالعنصرية‭ ‬أو‭ ‬بأيّ‭ ‬قباحة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭.‬

3‭-‬‭ ‬‮«‬أي‭ ‬مسلم‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬دينه‭ ‬صالح‭ ‬لأيّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭ ‬فهو‭ ‬إرهابي‭ ‬بالضرورة‮»‬‭. ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬المسيحي‭ ‬أو‭ ‬اليهودي‭ ‬أو‭ ‬الطاوي‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬دينه‭ ‬صالح‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭. ‬ما‭ ‬من‭ ‬مؤمن‭ ‬لا‭ ‬يعتقد‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد؛‭ ‬إذن‭ ‬جميع‭ ‬المؤمنين‭ ‬إرهابيون‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬تديّن‭ ‬المؤمن‭ ‬عن‭ ‬تصوره‭ ‬عن‭ ‬الدين،‭ ‬دينه‭ ‬النقيّ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شائبة،‭ ‬وإلا‭ ‬لهجره‭ ‬واسبتدل‭ ‬به‭ ‬غيره،‭ ‬أو‭ ‬لشلك‭ ‬في‭ ‬الأديان‭ ‬جميعاً‭. ‬ثمة‭ ‬مسافة‭ ‬شاسعة‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬دينه‭ ‬صالح‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬وبين‭ ‬من‭ ‬يعتقد‭ ‬أو‭ ‬يدّعي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬المسيحية‭ ‬هي‭ ‬الحل‭.‬

نسأل‭ ‬سيد‭ ‬القمني‭: ‬هل‭ ‬تمكّن‭ ‬العلم‭ ‬حقاً‭ ‬من‭ ‬إيقاف‭ ‬الكوارث،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصيب‭ ‬البشرية‭ ‬رغم‭ ‬وجود‭ ‬الأرباب؟‭ ‬هل‭ ‬حال‭ ‬العلم‭ ‬دون‭ ‬نشوب‭ ‬حربين‭ ‬عالميتين‭ ‬وحروب‭ ‬بينية‭ ‬وسلسلة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬النزاعات‭ ‬المحلية‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬علوماً‭ ‬مدت‭ ‬الحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬بما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬ويلاتها‭ ‬وكوارثها؟

لكي‭ ‬لا‭ ‬يظن‭ ‬أحد‭ ‬أننا‭ ‬ننتزع‭ ‬كلام‭ ‬القمني‭ ‬من‭ ‬سياقه،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬قوله‭ ‬حرفياً‭ ‬‮«‬الغرب‭ ‬لديه‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الإسلام،‭ ‬أقول‭ ‬لكم‭ ‬زيدوا‭ ‬حقن‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وعرّفوا‭ ‬العالم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬خطر‭ ‬ساحق،‭ ‬أيّ‭ ‬مسلم‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬دينه‭ ‬صالح‭ ‬لأيّ‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭ ‬فهو‭ ‬إرهابي‭ ‬بالضرورة،‭ ‬عندما‭ ‬يتبع‭ ‬أدنى‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬ينفذه‭ ‬كالزيّ‭ ‬واللحية،‭ ‬هذا‭ ‬رجل‭ ‬إرهابي‭. ‬كل‭ ‬الأديان‭ ‬حلّت‭ ‬مشكلتها‭ ‬مع‭ ‬الحداثة‭ ‬إلا‭ ‬الإسلام‭ ‬لأنه‭ ‬يرفض‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬الصلاحية‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬المشكلة‭ ‬أنك‭ ‬تواجه‭ ‬مجتمعًا‭ ‬بكامله،‭ ‬حكومات‭ ‬تريد‭ ‬المجتمع‭ ‬هكذا‭ ‬وتريد‭ ‬أن‭ ‬تقتلك‭ ‬أو‭ ‬تحبسك،‭ ‬عندما‭ ‬عجزت‭ ‬الأديان‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬البشرية‭ ‬وظهر‭ ‬منهج‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي‭ ‬تمكن‭ ‬العلم‭ ‬من‭ ‬إيقاف‭ ‬الكوارث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصيب‭ ‬البشرية‭ ‬رغم‭ ‬وجود‭ ‬الأرباب،‭ ‬ووجد‭ ‬أن‭ ‬المشاكل‭ ‬لن‭ ‬تحل‭ ‬سوى‭ ‬بالعلم‮»‬‭.‬

أخيراً‭ ‬نكبر‭ ‬في‭ ‬القمني‭ ‬مقدرته‭ ‬على‭ ‬نقد‭ ‬ذاته،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬المراجعات‭ ‬الفكرية‭ ‬سمة‭ ‬رئيسية‭ ‬لأيّ‭ ‬باحث‭ ‬حقيقي،‭ ‬فالثبات‭ ‬على‭ ‬المبدأ‭ ‬ضد‭ ‬مفهوم‭ ‬البحث‭. ‬قد‭ ‬أتبنى‭ ‬فكرًا‭ ‬ما‭ ‬وأجد‭ ‬براهين‭ ‬أخرى‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬فأنتقل‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬صحة‭. ‬مثلًا‭.. ‬كتاب‭ ‬‮«‬النبي‭ ‬إبراهيم‭ ‬والتاريخ‭ ‬المجهول‮»‬‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عثراتي‭ ‬الكبرى،‭ ‬كنت‭ ‬آنذاك‭ ‬باحثًا‭ ‬مبتدئًا‭ ‬يملؤني‭ ‬الغرور،‭ ‬تحدثت‭ ‬فيه‭ ‬عن‭ ‬هجرة‭ ‬مصرية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الدولة‭ ‬القديمة‭ ‬وسقوطها‭ ‬وتفتت‭ ‬مصر‭ ‬وانتشار‭ ‬الاستقلالات‭ ‬المحلية،‭ ‬وعثرت‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬على‭ ‬‭(‬أبو‭ ‬هول‭ ‬مصري‭ ‬وحيّة‭ ‬مصرية‭ ‬من‭ ‬الذهب‭)‬،‭ ‬واعتبرتهما‭ ‬من‭ ‬الدلائل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الهجرة‭ ‬والحضور،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬الفانتازيا‭. ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أبهر‭ ‬الكثيرين‭ ‬أعتبره‭ ‬كتابًا‭ ‬شديد‭ ‬التواضع،‭ ‬ولم‭ ‬أعد‭ ‬طباعته‭ ‬لهذا‭ ‬الخطأ‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفته‭ ‬أثناء‭ ‬عملي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬النبي‭ ‬موسى‭ ‬وآخر‭ ‬أيام‭ ‬تل‭ ‬العمارنة‮»‬‭. ‬‭(‬لقد‭ ‬تناولنا‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬لعلها‭ ‬الزاوية‭ ‬الإبستيمولوجية‭ ‬أو‭ ‬السببية‭ ‬الشكلية‭: ‬احذف‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخليل‭ ‬تتهيَّر‭ ‬عمارة‭ ‬الأديان‭ ‬الإبراهيمية‭)‬‭.‬

يضيف‭ ‬القمني‭ ‬‮«‬أيضًا،‭ ‬هناك‭ ‬فصل‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‘الأسطورة‭ ‬والتراث’‭ ‬أخطأت‭ ‬فيه؛‭ ‬ففي‭ ‬باب‭ ‬‘الأساطير‭ ‬التوراتية’‭ ‬قلت‭ ‬إنهم‭ ‬سرقوا‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬البابلي‭ ‬والفرعوني،‭ ‬الأدلة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬سليمة،‭ ‬لكنني‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كنت‭ ‬عروبيًا‭ ‬ناصريًا‭ ‬بشكل‭ ‬متزمّت‭ ‬فكنت‭ ‬أكره‭ ‬اليهود‭ ‬باعتبارهم‭ ‬خونة‭ ‬التاريخ‭ ‬وغيره،‭ ‬وكتبت‭ ‬بهذه‭ ‬العقلية‭ ‬أنهم‭ ‬سرقوا‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سرقة،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬تتلاقح‭ ‬الأفكار‭. ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأخطاء‭ ‬اكتشفتها‭ ‬بنفسي‭ ‬ولم‭ ‬ينبّهني‭ ‬أحد‭ ‬إليها،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أسمعه‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬هراء‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له‮»‬‭.‬

قلة‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬والباحثين‭ ‬يتوفرون‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الشجاعة‭. ‬ثمة‭ ‬كثيرون‭ ‬يعيدون‭ ‬طباعة‭ ‬كتبهم‭ ‬القديمة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬تعديل،‭ ‬مع‭ ‬أنهم‭ ‬غيّروا‭ ‬آراءهم‭ ‬ومواقفهم،‭ ‬فلا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭ ‬أو‭ ‬يعدّلون‭ ‬خلسة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬دواعي‭ ‬التعديل‭.‬

نشاطر‭ ‬القمني‭ ‬غضبه‭ ‬النيِّر،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬وصف‭ ‬ياسين‭ ‬الحافظ‭ ‬بعض‭ ‬الغضب،‭ ‬ولكننا‭ ‬لا‭ ‬نشاطره‭ ‬طريقة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الغضب‭. ‬ونعتقد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬شجاعة‭ ‬نقد‭ ‬الذات‭ ‬بهذه‭ ‬الثقة‭ ‬والوضوح‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬من‭ ‬يناقشني‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬قدري،‭ ‬أنا‭ ‬المعلم‭ ‬الأكبر‭ ‬ولا‭ ‬أقبل‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المناقشات‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.