سيليني
الشخصيّات:
• كليوباترا سيليني: ابنة كليوباترا من مارك أنطونيو، وزوجة الملك الأمازيغيّ «يوبا الثاني». شابّةٌ، جميلةٌ، متقلبة المزاج، وعصبيّة الحركات، تميل إلى الشكّ في كلِّ شيء، ومسكونةٌ بفكرة الانتقام من الرومان.
• إيراستا: مصففة شعر سيليني، ووصيفتها، وكاتمة سرّها، ومربّيتها. كانت سابقا وصيفةً لكليوباترا الأم، امرأةٌ ناضجةٌ وماكرةٌ، ومخلصةٌ جدّا لسيّدتها، تجاوزت الخمسين من العمر. شخصيّة افتراضيّة.
• يوبا الثاني: ملك موريتانيا الغربيّة، وزوج سيليني. شابٌ هادئٌ، يؤمن بضرورة اجتناب الحرب، وعدم استفزاز الرومان.
• كاساندرا: عرّافة إغريقيّة الأصل، شابّةٌ جميلةٌ، التقتها سيليني في زيارةٍ لها إلى أثينا، وأحضرتها إلى قصرها في أفريقيا، شبه أسيرةٍ لديها. شخصيّة افتراضيّة أيضا.
الزمان: السنة العاشرة قبل الميلاد. [ 1].
الوقت: صباحٌ، والقصر كلّه على أهبة الاستعداد إعدادا لوليمة تكريمٍ للإمبراطور «أغسطسò (أوكتافيو سابقا) الذي وصل موكبه إلى تخوم أفريقيا، وينوي زيارة قصر «يوبا الثاني» صبيحة اليوم الموالي.
المكان: موريتانيا الغربيّة (بلاد الجزائر حاليا)، قصر الملك «يوبا الثاني»، غرفة سيليني الملكيّة، يبدو بوضوحٍ مخدعُها الوثير وقد تبعثرت فوقه بإهمالٍ أثوابٌ كثيرةٌ، وأدوات زينة، وإكسسوارات، وقناني عطر مختلفة الأحجام.
تبدو الملكة سيليني في غاية التوتّر، والتحفّز، والعصبيّة.
- سيليني: (تصرخ) إيراستا… أين الثوب البنفسجيّ؟
- إيراستا: ها هو سيّدتي.
- سيليني: والأحمر؟
- إيراستا: سأبحث عنه مولاتي.
- سيليني: بسرعة!
- إيراستا: تفضلي سيّدتي.
- سيليني: أيّهما يلائمني؟
- إيراستا: كلاهما جميلٌ.
- سيليني: أعلم. ولكنْ أيّهما أرتدي؟ أم أختار لونا آخر؟
- إيراستا: ما رأيكِ بالزهريّ مولاتي؟
- سيليني: أف! هادئٌ جدّا… أريد لونا ثائرا.
- إيراستا: وهذا؟
- سيليني: كلا… أريده مفترسا.
- إيراستا: إذن… هذا الخمريّ؟
- سيليني: إمممم… لا بأس به، سأرى، صفّفي لي شعري الآن.
(تشرع إيراستا في تمشيط جدائل سيّدتها، وعلامات التعب باديةٌ على وجهها).
- سيليني: أيّ تسريحة أختار؟
- إيراستا: ما يرضيك سيّدتي.
- سيليني: هل سأبدو جميلة؟
- إيراستا: طبعا.
- سيليني: فاتنة؟
- إيراستا: حتما.
- سيليني: أجمل منهنّ جميعا؟
- إيراستا: قطعا.
- سيليني: ناوليني المرآة…
(تناولها المرأة، فتشرع في تأمّل وجهها من جميع الزوايا، وتبدو ساهمةً، تتنهد من حينٍ إلى آخر، بينما تواصل الأخرى عملها، وتستمرّ في تصفيف الجدائل).
- سيليني: (الليلة ليلتي… إمّا أن تعود يا هيليوس كما وعدتني تلك العرّافة، وإمّا أن أعوِّل على نفسي.. وأسكب العطر والرحيق.. بالعطر وحده أنال ما أريد، أقسم إنّني سأنال ما أريد، بالدم أو بالرحيق! بكَ أو بدونكَ يا هيليوس… ولكنْ حبّذا لو تعود! حبّذا لو تأتي أيّها الحبيب..). [2].
- إيراستا: مولاتي، أنتِ تبكين!
- سيليني: أتظنّينه يعود حقا؟
- إيراستا: قلبي يحدّثني أنه سيفعل.
- سيليني: أتظنّينها صادقةً أم دجّالةً تلك العرّافة؟
- إيراستا: لن تجرؤ على غشّكٍ سيّدتي.
- سيليني: صحيح، لن تجرؤ.
- إيراستا: ثمّ إنّها أسيرتكِ مولاتي.
- سيليني: وحقِّ إيزيس، لأقتلنّها بيديّ إن كانت كاذبة!
– إيراستا: سيعود سيّدتي، سيعود، قلبي يحدّثني أنّه سيعود.
- سيليني: فما بال قلبي أنا لا يحدّثني بشيء؟
- إيراستا: (تصمت بارتباك) …………..
- سيليني: تتملّقينني كعادتكِ أيّتها الحقيرة!
- إيراستا: أبدا سيّدتي…
- سيليني: تبّا لكِ تبّا…
- إيراستا:………..
- سيليني: اغربي عن وجهي.
(تخرج إيراستا بسرعة، بينما ترمي سيليني المرآة من يدها بغيظ، ويُسمع صوت تهشّمها، وهي تتحطم).
- سيليني:[جميعهم منافقون. وكاذبون. حتّى إيراستا. حتى زوجي. حتّى أخي بطليموس، حتّى ابني سيكون مثلهم.. وحدكَ هيليوس أملي.. هل ستعود؟ ما جدوى القمر دون شمس؟ ها أنا ذي أنتظر منذ دهور. الخامل زوجي؛ صنيعة الرومان لا يحرّك ساكنا، لا يعرف سوى كتبه ومخطوطاته السخيفة، تبّا لغبائه... تبّا!].
(يطلّ رأس إيراستا بحذرٍ من وراء الستار).
- إيراستا: مولاتي…
- سيليني: ما الأمر. اغربي عن وجهي.
- إيراستا: مولاتي، إنّه قادمٌ…
(تتوارى إيراستا سريعا، بينما تشرع سيليني في إصلاح زينتها
على عجل).
- يوبا: حبيبتي، كيف أنت؟
(تشيح بوجهها متصنّعةً الغضب، ولا تردّ).
- يوبا: أعلم أنّكِ غاضبةٌ منّي.
- سيليني: ما دمتَ تعلم، لمَ أتيت؟
- يوبا: لأزيل الغضب.
- سيليني: أزلْ أسبابَه أولا.
- يوبا: (متأفّفا) عدنا إلى موضوعكِ القديم!
- سيليني: موضوعنا عزيزي، موضوعنا، ولم يكن يوما قديما!
- يوبا: ما تريدينه هو الجنونُ بعينه.
- سيليني: وما تركن إليه هو الخمول.. بعينه!
- يوبا: (يصيح) سيليني!
- سيليني: (تنحني بابتسامة ساخرة) عفوكَ مولاي!
- يوبا: (بصوت منفعلٍ) لا تحاولي اختبارَ صبري.
- سيليني: (مواصلةً بابتسامتها الساخرة نفسها) وإنْ لم أطعْ، ماذا ستفعل؟
- يوبا: لا جدوى من الحديث معكِ.
- سيليني: قلْ لي ماذا ستفعل؟
- يوبا: كفى سيليني…
- سيليني: تقتلني؟
- يوبا: (لا يردّ) …….
- سيليني: تحرقني!
- يوبا: (كذلك لا يردّ) ……..
- سيليني: تقدّمني وليمةً طازجةً للتماسيح؟ [3].
- يوبا: كفى سيليني… بدل مهاتراتكِ هذه، ركّزي معي على زيارة الغد، أشياء كثيرةٌ ستُحسَم لصالح مملكتنا…
- سيليني: (تقاطعه) لصالح سيّدك…
- يوبا: (يكظم غيظه) لا يهمّ، سيّدي، وليّ نعمتي، لا يهمّ… المهمّ مصلحة مملكتنا.
- سيليني: (بضجر) مصلحتك أنت!
- يوبا: اسمعي، لا وقت لديّ للمناكفات، زيارة الغد لا بدّ أن تنجح، والاحتفالُ يجب أن يكون ناجحا، تماما كما خططنا.
- سيليني: (تشيح بوجهها وتصمت)
- يوبا: هل سمعتِ ما قلت؟
- سيليني: (بضجر) سمعتُ، وأرجو أن تستمع أنتَ إليّ، ولو لمرّة واحدةٍ في حياتك.
- يوبا: (يتململ) عدنا إلى المتاهة الأولى…
- سيليني: اسمعْ، حبيبي، إنّها فرصتنا الوحيدة للانتقام، نتخمه بالأكل والشراب، أعني ندسّ له المخدّرَ في الطعام، فمثله لا يتخم أبدا، ثمّ نقضي عليه، ونرمي بقاياه للتماسيح، ونفعل الشيءَ نفسه بأتباعه وأعوانه….
- يوبا: (يقاطعها) كفى سيليني!
- سيليني: (تتجاهله وتواصل) نرمي جثثهم للتماسيح وللكلاب أيضا، ثمّ نستدعي ثوارَ الجبال هنا، ونقود هجوما مضادّا، ونحاصر روما، ندكّ حصونها، ونفتح زنازينها، ونخرج الأسرى كلّهم والعبيـ…
- يوبا: (يصيح بعنفٍ) توقفي عن هذا!
- سيليني: (تستمرّ في تجاهله) نخرج العبيدَ كلّهم، ويمثلون أمامي، أحدّق فيهم واحدا واحدا، تكفيني نظرةٌ واحدةٌ لأعرفه، رغم كلّ هذه السنوات لن أجهله، سأعانقه بكلّ ما في قلبي من شغفٍ وحنين… أخي الحبيب، أخي العظيم… ضياء الشمس الذي سيغمرني…
(توافيها نوبة بكاءٍ مفاجئة، لكنّها تواصل)
- سيليني: قلبي يحدّثني أنّه هناك بينهم، ينتظرني، ما زال حيّا، ينتظرني… هل تفهم: ما زال حيّا! حيّا!
لوحة: صفوان داحلون
- يوبا: (يعانقها بإشفاق) كفى سيليني، تعلمين أنّ الأموات لا يعودون.
- سيليني: (تتملّص من ذراعيْه، وتصيح بضراوة) أخي لم يمت!
- يوبا: مَنْ أنبأكِ بهذا؟ تلك الدجّالة؟ لطالما حذّرتكِ من العرّافين!
- سيليني: حتى إنْ لم تخبّرني هي، فقد خبّرني قلبي، قلبي وحده يخبّرني…
- يوبا: لا تدعي العواطفَ تجرفكِ حبيبتي، تعلمين جيّدا أنّه قُتِــ…
- سيليني: (تقاطعه) صه!
- يوبا: قُتِل يوم الاحتفال العظيم…
- سيليني: صه! تعلم جيّدا أنّه لم يُقتل.
- يوبا: قُتل…
- سيليني: لم يُقتَلْ… مَنْ يجرؤ على لمس الشمس! إنّه الآن أسيرٌ لديهم، يصارع حتّى الموت إخوته في الأسر، وينتظر الخلاصَ الذي تبخل جلالتك عليه به!
- يوبا: (كاظما غيظه) أخوكِ مات منذ سنواتٍ بعيدةٍ، حاولي أن تهدئي قليلا، فلن يفيدنا الآن سوى الهدوء.
- سيليني: أيّ رجلٍ أنتَ قل لي، إنْ لم يعنكَ ثأري أنا، ففكرْ في الأقلّ في ثأر أبيك، ألا تفكّر فيه ولو قليلا؟
- يوبا: سيليني، كفى، لندع الموتي يرتاحون.
- سيليني: يرتاحون! لن يرتاحوا ما لم نثأر لهم.
- يوبا: هذا شأنُ الجهلة، والرعاع.
- سيليني: الجهلة! الرعاع! بل هو شأن الضعفاء والمتخاذلين!
- يوبا: (يصرخ) سيليني! يكاد صبري ينفد!
- سيليني: كيف تطيق أن تنام بهدوءٍ، وأمواتنا يصرخون؟
- يوبا: مَنْ مات يصمت للأبد!
- سيليني: أراهم كلَّ ليلة يصرخون، يهزّونني كلَّ ليلة بعنفٍ طالبين مني الانتقام… أبي في سكراته الأخيرة، أمّي بأفعاها التي لا تتوقف عن الفحيح، أخي قيصرون الذي يعذبني كلَّ ليلة بعذاباته الأخيرة، هل تذكر قيصرون؟ كان من الممكن أن تكونا صديقيْن، كان شابّا مدهشا، شامخا كحوريس تماما… [4].
- يوبا: بحقّ جوبيتر، توقفي.
- سيليني: (مشمئزّة) جوبيتر! حتّى القسم! حتى القسم! لا تقسمه إلا بآلهتهم، الزائفة الدجّالة…
- يوبا: صه!
- سيليني: لن أسكت! حتّى أبوكَ الذي لم أعرفه كان يبكي أمامي كلَّ ليلةٍ قهرا، كان يبكي أسفا على ابنه الذي باع قضيّته، وغدا ألعوبةً بيد الرومان.
- يوبا: يبدو أنّكِ فقدتِ صوابكِ تماما!
- سيليني: (تشيح بوجهها ولا تردّ)
- يوبا: (يحاول جاهدا تمالك نفسه، واغتصاب ابتسامة مرتبكة) سأخرج الآن، فلديّ الكثيرُ ممّا يجب فعله. إلى اللقاء حبيبتي… آمل أن تكوني أفضل بعد حين…
(يخرج)
- سيليني: (تتأفّف بغضبٍ، وتنهار باكية) [تبّا لكَ يا صنيعة الرومان، سترى ما سأفعله، سأريكَ وأري سيدكَ ما يمكنني فعله، ستروْن ما سيكون حين تتحد الشمس والقمر، ستروْن أيّ هولٍ يكون. (تصمت قليلا) ولكنْ ماذا لو لم يأتِ؟ ماذا لو كانت نبوءتها مجرد تخاريف؟].
(تهبّ مسرعةً، وتصفّق بيديْها)
- سيليني: إيراستا! أنتِ يا إيراستا!
(تأتي إيراستا مسرعةً)
- إيراستا: مولاتي.
- سيليني: أريد تلك العرّافة الآن أمامي.
- إيراستا: أمركِ مولاتي.
(تخرج)
- سيليني: (بصوتٍ خافتٍ، ومتضرّع) [إيزيس العظيمة... راعية النساء، حقّقي رجائي، إليكِ وحدكِ أضرع يا أمنا الكونيّة، بحقّ دموعكِ الغالية على أوزير، بحقّ جسده الغالي الشتيت، بحقّ صغيركِ الغالي حوريس، بحقكِ أنتِ، بحقّ ولهي، ونحيبي، حققي الآن رجائي، واجمعيني بهذا الغائب العزيز... ما جدوى القمر دون شمسٍ يا إيزيس، حقّقي الآن رجائي، حقّقــ...]
(تستأذن إيراستا في الدخول ووراءها جنديّان يقودان العرّافة اليونانيّة كاساندرا)
- إيراستا: مولاتي، هاهي الآن أمامك.
(تجثو كاساندرا، بخشوعٍ أمام سيليني)
- سيليني: (تتأمّلها) انهضي.
(تنهض بهدوء)
- سيليني: (تناولها يدَها) هاتِ ما عندكِ.
(تمسك اليدَ الممدودة وتتأمّلها، ثمّ تغمض عينيْها لبضع دقائق، وهي ساكنةٌ تماما)
– كاساندرا: بعد الغيبة، يجتمع الشمل.
- سيليني: (فرحةً) يجتمع الشمل! وبعد؟
- كاساندرا: يجتمع الشمل.
- سيليني: فهمتُ، يجتمع الشمل.
- كاساندرا: يجتمع الشمل.
- سيليني: أف! فهمناها… كيف يجتمع؟
- كاساندرا: تلك تدابيرُ زيوس العظيم.
- سيليني: هذا هو ما قلته المرة الماضية، ألمْ يمنّ عليك زيوسكِ هذا بالمزيد؟
- كاساندرا: وحده أبولون، يخبّرنا، ومن الصعب جدا إرضاؤه.
- سيليني: غيّري اسمك أيّتها الحمقاء… [5]
- كاساندرا: ما جدوى تغيير الجلد، والجوهرُ باقٍ كما هو.
- سيليني: (تسحب يدَها بتأفّف) إذن هذا كلُّ ما عندكِ، حدّثيني أكثر، كيف سيأتي؟
- كاساندرا: مولاتي سوف يأتي… قلبكِ سيعرفه حالما يأتي.
- سيليني: سيعرفه قلبي…
- كاساندرا: وسيعرفكِ قلبُه…
- سيليني: سيعرفني قلبه…
- كاساندرا: وسيتحد الذهبُ والفضة… سيمتزجان!
- سيليني: (والفرحة تغمرها) تعنين الشمس والقمر: هيليوس وسيليني!
- كاساندرا: هيليوس وسيليني.
- سيليني: سيليني وهيليوس!
(يغلبها الفرحُ، ولا تني تردّد هذه العبارة منتشية… ثمّ فجأةً تلتفت نحو العرّافة)
- سيليني: ولكنْ الويلُ لكِ إن كنتِ كاذبة!
- كاساندرا: رسولة أبولون لا تكذب.
- سيليني: وهيليوس هو نفسه أبولون… عسى أن يحيط سميَّه برعايته.
- كاساندرا: أبولون لا ينسى المخلصين، ولا يخذل مَنْ يتسمّوْن باسمه!
- سيليني: (تردّد دون وعي) لا ينسى المخلصين! ومع ذلك الويلُ لكِ إن كذبت!
- كاساندرا: ستريْن بنفسكِ يا مولاتي صدق ما أقول… وستعيدينني كما وعدتِ إلى أثينا؟
- سيليني: (بصبرٍ نافد) سنرى… سنرى. إيراستا، يا إيراستا، فليأخذاها.
(تأتي إيراستا مسرعةً، ووراءها الجنديّان، يقودان كاساندرا
نحو الخارج. بينما تسترخي سيليني على كرسيّها مجهدةً، ولا تلبث بعد دقائق أن تعود إليها إيراستا)
- إيراستا: أعتقد أنّ مولاتي مطمئنة الآن.
- سيليني: (تتنهّد) من أين لي أن أطمئنّ يا إيراستا، من أين لي؟
- إيراستا: ألم تطمئنكِ النبوءة؟
- سيليني: وهل مثلي مَنْ يعوّل على الخرافات؟
- إيراستا: ولكنّها كاساندرا يا مولاتي، إنّها أمهرُ مَنْ قال حرفا، إنّها سليلة كاساندرا الطرواديّة، و…
- سيليني: أعلم كلَّ هذا إيراستا، وأذكر جيّدا أنّني التقطتها في زيارتي اليتيمة إلى أثينا رغم معارضة زوجي، تقديرا فقط لسميّتها العظيمة.
- إيراستا: عسى أن تتحقّق الآمال مولاتي.
- سيليني: ستتحقّق إيراستا، سأحققها بنفسي إن تمنّع القدَرُ عن ذلك.
- إيراستا: كيف ستفعلين؟
- سيليني: بالرحيق…
- إيراستا: بالرحيق؟
- سيليني: بالعطر والرحيق، إن لم يُجدِيا، فبالدم.
- إيراستا: بالدم؟
- سيليني: (تلوّح بيدها بلامبالاة) لا تتظاهري بالبلاهة هكذا، أنتِ تعلمين كلَّ شيء، أنتِ مَنْ علّمني كلَّ شيء. والآن هاتِ ذلك الثوب الخمريّ.
- إيراستا: (تبحث عنه، ثمّ تناولها إيّاه) إليكِه مولاتي…
- سيليني: ساعديني في ارتدائه.
(تنشغلان معا في تجريب ذلك الثوب، وتبدو البهجة واضحةً على ملامح سيليني)
- سيليني: (تتأمّل قوامَها الجميل بعد أن ارتدت الثوبَ أمام مرآةٍ كبيرة) كيف أبدو الآن؟
- إيراستا: كأنّكِ فينوس مولاتي.
- سيليني: (تقهقه منتشية) حمقاء! مَنْ تكون فينوس أمامي؟ أنا إيزيس!
- إيراستا: ما أبهاكِ مولاتي!
- سيليني: (بصوتٍ لا يكاد يُسمَع) [ما أبهاني! صحيح ما أبهاني! ولكنْ المهمّ أن يجدي هذا فيما أخطط له. ما جدوى العطر دون ورد، وما جدوى الجمال دون مَنْ يقدّره، وينتشي به، زوجي الأبله لا يعرف شيئا سوى أوراقه ومخطوطاته، وولائه الأعمى لمولاه، وأنا وحدي أخوض المزالقَ كلّها والأخطار، أوّاه، هل تستطيع امرأةٌ وحدها أن تغيِّر قدَرا...]
- إيراستا: عفوا مولاتي؟
- سيليني: لا شيء، لا شيء… يلائمني هذا الثوب إذن؟
- إيراستا: كما لا يلائم امرأةً أخرى سواكِ.
- سيليني: (ترمقها بحذر) هذا ما كنتِ تردّدينه لأمّي. أليس كذلك؟
- إيراستا: (تحني رأسَها، وتصمت)
- سيليني: لا عليكِ، لستُ غاضبةً منكِ. ولكنْ حدّثيني أكثر عنها… أيَّ سحرٍ خطيرٍ ذاك الذي كان لديها؟
- إيراستا: كانت امرأةً استثنائيّةً مولاتي…
- سيليني: وابنتها ستكون استثناءَ الاستثناء!
- إيراستا: حتما مولاتي.
- سيليني: أنتِ مَنْ أوحى لها بخطة الالتفاف في البساط؟ [6].
- إيراستا: (تبتسم بهدوء) تلك كانت حيلة «شارميون» كانت داهيةً بحق! ولكنْ حتّى إنْ لم توح لها بشيء، فقد كان ذكاؤها حريّا بإيجاد ألف وسيلةٍ للإيقاع به، وبعشرة رجالٍ من مثله. [7].
- سيليني: كانت امرأةً عظيمة!
- إيراستا: كانت مدهشة!
- سيليني: كانت عاشقةً في زمن الفاجرين!
- إيراستا: وكانت طاهرةً وسط كومةٍ من الفاسدين.
- سيليني: تاريخ أمّي لم يكتبه سوى الغالبون!
- إيراستا: لم يكتبه إلا المتجبّرون.
- سيليني: والكاذبون.
- إيراستا: الكاذبون وحدهم مَنْ سجّل تاريخها، وتاريخ مدينتها.
- سيليني: لشدّ ما أشتاق إلى مدينتي!
- إيراستا: كانت مدينةً عظيمةً، لا دين فيها سوى الحب، والأناشيد…
- سيليني: (كالحالمة) رغم أنّني لم أجاوز التاسعة حين اقتادوني إلى روما إلا أنّني أذكر جيّدا عبق الحب والجمال في مدينتي… أوّاه! أذكر جيدا مواسم الكروم هناك، والياسمين، وأعياد إيزيس، و…
- إيراستا: ومواسمَ إخصاب النيل أيضا… كانت تلك أروع الأعياد طرّا!
- سيليني: نعم، نعم، أذكر جموعَ الفتيات وقد ارتدين ثيابهنّ البيضاء الهفهافة تلك، وشرعن يرقصن، ويرددن أغاني الحب والغزل الجميلة…
- إيراستا: كانت أمكِ تشرف شخصيّا على هذا الاحتفال، وتصرّ على مشاركة الفتيات رقصاتهن. وفي ختامه كانت توزع المال والعطايا بسخاءٍ على الجميع.
- سيليني: ولم تكن ثمّة أيّ ضحيّةٍ يلتهمها النيلُ كما يروّج أولئك الرومان الأوغاد!
- إيراستا: لم تكن ثمّة أيّ أضحياتٍ سوى أكاليل الورود تلقيها البناتُ في النيل تباعا.
- سيليني: وأجمل الفتيات…
- إيراستا: تُتوَّج أميرةً وكاهنة حب صغيرة في معبد الربّة إيزيس. هل تذكرين مولاتي أول عيدٍ حضرناه معا؟
- سيليني: أوه، أنّى لي أن أذكر؟
- إيراستا: وآخر عيد؟
- سيليني: لن أنساه ما حييت!
- إيراستا: لن أنسى تلك الأيام أيضا ما حييت!
- سيليني: أخبريني إيراستا: هل كنتِ مخلصة لها؟
- إيراستا: ما هذا السؤال مولاتي؟ حتما كنتُ مستعدّةً لأنْ أفديها بنفسي…
- سيليني: ما أسهل الكلام! إذن لماذا لم تنتحري مع بقيّة الوصيفات؟
- إيراستا: لأرعاكِ مولاتي…
- سيليني: كم أنتِ بارعة!
- إيراستا: نعم، لأرعاكِ مولاتي، فوحدكِ كنتِ الأمل لي… لمحتُ في عينيْكِ الغضّتيْن حينها عزمَ والدتكِ، وإرادتها…
- سيليني: فقرّرتِ أن تبقي إلى جواري!
- إيراستا: نعم مولاتي، قرّرتُ أن أكون إلى جواركِ، وأن أذكركِ دائما بما فعله أولئك المجرمون.
- سيليني: وما مصلحتكِ من تذكيري؟
- إيراستا: الانتقام، مولاتي.
- سيليني: الانتقام! لنفسكِ أم لي؟
- إيراستا: لكليْنا!
- سيليني: بل لنفسكِ.
- إيراستا: لكليْنا، مولاتي.
- سيليني: لنفسكِ.
- إيراستا: لكليْنا مولاتي، فكلتانا فُجِعت في أغلى مَنْ لديها!
- سيليني: أما زلتِ تحنّين إليهما؟
- إيراستا: ولن أنسى صراخهما، وهم يبعدانهما عنّي… لن أنسى نحيبهما، وهما يُقتادان بعيدا عنّي إلى حيث لا أعلم… صغيريّ المسكينيْن! (يغلبها الدمعُ، فتبكي بصوتٍ خافت)
- سيليني: (برقة غير معهودة) آسفة، ذكرتكِ بهما…
- إيراستا: لم أنسهما يوما مولاتي، لأتذكرهما.
- سيليني: فما بالكِ شحيحةً في الحديث عنهما؟
- إيراستا: ما يفجعنا أكثر، هو الذي نكتمه أكثر!
- سيليني: ألا تأملين أن تجديهما؟
- إيراستا: إنّهما معي دائما.
- سيليني: ليتني أملك هذا اليقين!
- إيراستا: تملكين ما هو أقوى.
- سيليني: وهو؟
- إيراستا: تملكين الشبابَ والسلطة، والجمال والدهاء.
- سيليني: إنْ لم يعد هيليوس، هل سأنجح؟ هل سأصل إلى ما أريد دون دماء؟
- إيراستا: سيأتي هيليوس مولاتي، سيعود.
- سيليني: سيأتي، سيعود، ولكنْ متى؟ يكاد صبري ينفد!
- إيراستا: لم يبق الكثير مولاتي، لن يبقى الكثير!
- سيليني: هل تعرفين أشياء أجهلها، إيّاكِ أنْ تخفي عنّي شيئا!
- إيراستا: لا شيء مولاتي، لا شيء، ولكنّه القلبُ يحدّثني أنّه سيعود، ليس من الإنصاف ألاّ يفعل!
- سيليني: ولكنّني اعتدتُ عدم الإنصاف! ما دام التوأم غائبا، لماذا لا يساعدني الأخ الثاني المتاح بطليموس؟ لماذا لا يشعر بشيءٍ من عذاباتي؛ عذاباتنا؟ لماذا لا يهتمّ بغير الخمر والنساء؟
- إيراستا: لا تتشاءمي مولاتي! سيعود هيليوس، صدّقيني…
- سيليني: إلى أن يتحقّق هذا الأمل، لن أظلّ كالبلهاء أحدّق في الفراغ، ولن أجد فرصة أفضل من هذه: أوكتافيو بذاته، بشحمه ولحمه، يحلّ ضيفا علينا…
- إيراستا: إنّها فرصةٌ لن تتكرّر أبدا مولاتي!
- سيليني: لا أخفيكِ سرّا إيراستا، أشعر بغير قليلٍ من الخوف!
- إيراستا: هذا طبيعيّ مولاتي، ولكنّني واثقةٌ تماما أنّ إيزيس ستثأر لنا.
- سيليني: أواه يا إيراستا، تاريخنا لم يكتبه سوى الكاذبون. أتمنّى أن أعيد كتابته بنفسي، وأن يعرف الجميعُ أيَّ مجد يتجلّى حين تريد امرأةٌ مثلي أمرا!
- إيراستا: سيعرف الجميع مولاتي، سيعرفون!
- سيليني: أجل، سيعرفون! يجب أن يعرفوا!
- إيراستا: لشدّ ما تشبهينها حين تلتمع عيناكِ هكذا!
- سيليني: لا أريد أن أشبه أحدا، ولن أكون ظلا لأحدٍ حتّى إن كان كليوباترا العظيمة!
- إيراستا: ستكونين أروع ملكة تعرفها هذه البقاعُ مولاتي.
- سيليني: وأقوى ملكة!
- إيراستا: أقوى ملكة، وأجمل امرأة!
- سيليني: أجمل امرأة! تعلمين إيراستا؟
- إيراستا: ماذا مولاتي؟
- سيليني: أشعر بكثيرٍ من الغيرة إزاءها! لا تقولي لي هذا طبيعيّ…
- إيراستا: هو فعلا كذلك، ولكن تعلمين يا مولاتي؟
- سيليني: نعم؟
- إيراستا: حظوظ النجاح لديكِ أقوى.
- سيليني: كيف؟
- إيراستا: هذا الأوكتافيو، حظوظكِ معه أقوى ممّا كانت عليه حظوظها!
- سيليني: أفصحي، وإنْ كنتُ أفهمكِ…
- إيراستا: هو كذلك مولاتي، هي كانت تكبره بستِّ سنواتٍ كاملة، وكانت زوجته «ليفيا» فتيَّةً، وعشيقاته كذلك. أمّا أنتِ فتصغرينه بثلاثة وعشرين عاما، تزيد أشهرا ولا تنقص، وقد شاخت زوجته، وهرمت عشيقاته!
- سيليني: (تكركر ضاحكةً بزهو) هرمت عشيقاته!
- إيراستا: (تضحك هي الأخرى) نعم، نعم، جميعهنّ هرمن!
- سيليني: (باستياء) قولي هو الذي هرم!
- إيراستا: هو أيضا هرم، ولكنْ، ما شأننا بذلك؟
- سيليني: لا شأن لنا! فأنا لا أريده لنفسي أبدا، ولكنْ فاتكِ أمرٌ مهمٌّ، لم يكن لأمّي زوجٌ غبيٌّ يحاصرها، ولا شعبٌ عنيدٌ كهؤلاء الجبليّين يزعجها، كانت حرّةً كالهواء، وكان شعبُها مطيعا، هادئا، وكهنتها متعاونين، أطوع لها من أصابعها… حين أحبّت «قيصر» أوهمت النّاسَ أنّه «آمون» متجسِّدا، فصدّقوها، وأخذوا يتعبّدون بأنفسهم لهذا الآمون الجديد، ويقدّمون القرابين في حضرته، وحين أحبّت أبي، وأراد أن يتكنّى بلقب «باخوس» لولعه الشديد بالخمر واللهو، لم يفكر أحدٌ في الاعتراض، قبلوه مثلما قبلوا سلفه. أمّا أنا فأعدائي ألقوني مع هؤلاء الجبليّين، العنيفين، أشعر معهم أنّ أنفاسي محسوبةٌ، ومحصاةٌ كحبّات الخرز! [8].
- إيراستا: هذا صحيح، ولكن لا تنسي أنّكِ الأقوى، شبابكِ مولاتي، شبابكِ وجمالكِ يقهران المستحيل!
- سيليني: نعم أنا الأقوى، إن لم يأتِ هيليوس، سأخدّر ذلك الزوج، وسأغوي الضيف، سأجعله كالخاتم في إصبعي، وأول ما سآمره به أن يقتل ذلك المتقاعس زوجي، أو أن يزجّه في أعماق السجن بعيدا، ويلقي إليه بحثالات أوراقه تلك، عساها تغنيه، وتنير له دربَ الحقيقة كما يدّعي دائما… بعدها، تعلمين ماذا سأفعل؟
- إيراستا: (تبتسم بصمتٍ متواطئ)
- سيليني: وبعدها سيحين دورُه هو…
- إيراستا: سيحين دوره سريعا.
- سيليني: هل تذكرين حكايات صديقتنا اليهوديّة «أستير»؟
- إيراستا: ومَنْ ينسى حكايات «أستير»؟
- سيليني: (بانتشاء) آه، يا إيراستا، لحدِّ الآن لا أدري أيّ طريقة أختار، ما رأيكِ؟ هل أجزّ شعرَه كالشاة؟ أم أدقّ في صدغه الكريه وتدا، أعني مسمارا؟ أم أحزّ رأسَه حزّا بسيفي؟ [ 9]. هل أنتهي من أمره هنا، أم في «بابله الفاجرة»: روما؟ [10].
- إيراستا: على رسلكِ مولاتي…
- سيليني: أم أبتكر لموته شكلا آخر لم يَدُرْ في خلد الغابرين أو الآتين؟
- إيراستا: (بضراعة) مولاتي…
- سيليني: (بغضبٍ) ما بكِ؟ ماذا؟
- إيراستا: لا ينبغي أن تجرفنا الحماسة بعيدا.
- سيليني: (تتنهّد بألم) أعلم فيما تفكرين…
- إيراستا: يجب أن نفكر في كلِّ شيءٍ مولاتي.
- سيليني: إن حدث ما تخشيْن؛ إن لم يعد هيليوس، ولم يرضخ أوكتافيو، فلن يبقى أمامي سوى…
- إيراستا: (تئنّ بجزعٍ) سيعود هيليوس!
- سيليني: قبل قليلٍ قلتِ يجب أن نفكر في كلِّ شيء!
- إيراستا: هو كذلك مولاتي، ولكنْ…
- سيليني: أف! لا تتعبي نفسَكِ، فكّرتُ وتدبّرتُ كلَّ شيء. إنْ لم تتحقق النبوءة، ولم يعد هيليوس، وإنْ تمنّع العجوز [11] وأهرِق الرحيقُ، وأثبت هذا الجمالُ عقمَه، وتبيّنتُ لاجدواه، فلن يكون أمامي سوى حلٍّ وحيد، تعرفينه؟
- إيراستا: (تحني رأسَها وتصمت)………
- سيليني: تعرفينه؟
- إيراستا: (تستمرّ في صمتها)…………
- سيليني: (كمَنْ فقد صوابَه) حينها لن يبقى سوى الدم… أتعلمين لماذا انهارت أمّي؟
- إيراستا: (بضراعة) أرجوكِ مولاتي…
- سيليني: حزنا على حبيبها أنطونيو؛ أبي؟ كلا، قلبُها الجريء كان حريّا بإيجاد ألف عاشقٍ وعاشق!
- إيراستا: دعكِ من هذا الموضوع مولاتي.
- سيليني: امرأةٌ تتجلّد ولا يقهرها مقتل عشيقها الأول لن تنهار أبدا لمقتل أو اندحار عشيقٍ ثانٍ، إنّه أبي، أحبّه حقا، وأحنّ إليه، ولكنْ شتّان ما بينه ويوليوس العظيم!
(تتنهد بأسى، وتصمت قليلا، ثمّ تواصل)
- سيليني: قهرا على مصر التي ضاعت؟ أو على كنوزها التي انتهكت؟ أو خشية العار الذي ينتظرها في روما أسيرة؟ كلا، مثلها حريٌّ بأنْ يروّض الجحيمَ وطنا، إنْ تمنّع الفردوس، مثلها لم يكن ليقهره شيءٌ… حتّى إن ذبحونا نحن أبناؤها أمام عينيْها، فلم تكن جذوة الحياة لتنطفئ فيها بتلك السهولة! هل تعلمين لماذا انطفأت فجأة؟ هل تعلمين؟
- إيراستا: (تبكي بصمت، ولا تردّ)
- سيليني: هو مَنْ قتلها [12]، عليه اللعنة، لم تحدّثيني بهذا لكنّني لستُ غبيّة، أنا أعرف أشياء كثيرة عنها، وعنكِ، وعنّي، وعن أيّ امرأة أخرى تشبهها، هو مَنْ قتلها، طعنها بقناع الفضيلة الكريه الذي ارتداه، يا لنذالته! ما ضرّه لو تملّى قليلا من جمالها الباذخ ذاك؟ ما ضرّه لو استجاب ولو قليلا؟ أهناك ما يقهر امرأةً أكثر من هذا؟ أهناك ما يدمّرها كهذا؟ تكلّمي؟ أهناك امرأةٌ ولو كانت مسخا تحتمل هذا؟ فكيف بكليوباترا العظيمة، الأنثى الكونيّة العظمى؛ مدلّلة إيزيس الأولى، كيف لها أن تحتمل الحياة، وقد أتى رجلٌ يشيح بناظريْه عنها، ويعاملها كما يُعامل كرسيّا أو حذاءً، تبّا له، تبا!
- إيراستا: (بأسى) كان هذا فوق طاقتها على الاحتمال!
- سيليني: ولهذا سأنتقم لها، ولكلِّ امرأةٍ أصيبت بهذا، أقسم بإيزيس إنّني سأجعله يركع تحت قدميّ، أقسم إنني لن أرحمه أبدا، وسأجعله أحدوثة التاريخ، تاريخي أنا، وتاريخ أمي، لا تاريخهم الفاجر ذاك، أقسم إنّني سأذلّه كما لم يُذلّ رجلٌ قبله أو بعده أبدا، وإن كان مجرد بقايا بائسة من رجل! أقسم أن أحرق الأخضر واليابس إنْ تمنّع، وأنْ يكون احتفالي الدمويّ هادرا، ومعربدا، كما لم يعرف التاريخ دما قبل!
- إيراستا: (تشهق مرتعبة)
- سيليني: ما بكِ؟ لا ترتعبي هكذا، لن أطلب منكِ أن تموتي معي… سترحلين قبل أن أبدأ احتفالات الدم.
- إيراستا: أفديكِ بروحي مولاتي.
- سيليني: توقفي عن الكذب، ما من أحدٍ يفدي أحدا.
- إيراستا: أفديكِ مولاتي، جرّبيني فقط.
- سيليني: لن أجرّب أحدا، لا وقت لديّ للجسّ والتجريب، حسمتُ قراري، وانتهى الأمر.
- إيراستا: ما زلتِ شابّة مولاتي، وثمّة ألف وسيلةٍ ووسيلةٍ لنيل المراد.
- سيليني: مثلا؟
- إيراستا: الاتصالُ بثوّار الجبال هنا.
- سيليني: تبّا لهم! عنيدون، ومزعجون.
- إيراستا: ولكنّهم مقاتلون شرسون.
- سيليني: (مفكّرةً) شرسون…
- إيراستا: ويكرهون الرومان كرهكِ لهم، وأكثر…
- سيليني: يكرهونهم، ويكرهون زوجي، ويكرهونني أنا أيضا.
- إيراستا: أنتِ غيرُ زوجكِ يا مولاتي، فكّري بالأمر، وأضيفيه احتمالا جديدا.
- سيليني: كلا، لن أتعامل معهم، هم في الأخير لا يهتمّون بغير جبالهم القاحلة هذه!
- إيراستا: لكنّهم سيكونون مفيدين جدا يا مولاتي، لو عرفنا كيف نستميلهم.
- سيليني: (بغضبٍ) كفى! لا تلحّي، قلتُ: لا، يعني: لا!
- إيراستا: عفوكِ مولاتي! ولكنْ ماذا عن ابنكِ؟ إنّه غضٌّ طريٌّ، ويمكنكِ أن تجعليه خيرَ معينٍ لكِ في مهمّتكِ الجليلة.
- سيليني: (باشمئزاز) وهل عليّ أن أنتظر إلى أن يكبر ذاك الصغير، وأشيخ أنا؟ كلا إمّا أن أنتقم اليوم، وإلا فالأشرف لي أن يهلكني «ست» [13].
- إيراستا: نفسي فداؤكِ مولاتي من كلِّ شر!
- سيليني: (تتنهّد بألمٍ) تعلمين إيراستا، لقد فشلتُ فشلا ذريعا في إثناء ذلك الزوج عن تقاعسه، ولم آسف، فهو بطبعه ساذجٌ، وعنيدٌ كالبغل.
- إيراستا: (تحاول كتمَ ضحكةٍ تفاجئها)
- سيليني: اضحكي كما شئتِ، زوّجوني بغلا، يعتلف الأوراق، لا رجلا!
- إيراستا: لكنّه مثقّفٌ يا مولاتي.
- سيليني: تبّا له ولثقافته!
- إيراستا: وعالمٌ، ومحترَمٌ من الجميع، هل نسيتِ مظاهرَ التبجيل التي أحيط بها في أثينا لدى زيارتكما الأخيرة لها؟
- سيليني: (تلوّح بيدها متأفّفةً)
- إيراستا: وذلك التمثال الجليل الذي نصبوه له في واحدٍ من أجمل شوارعها وأزهاها. [14].
- سيليني: أذكر ذلك المسخ الذي يشبهه كثيرا!
- إيراستا: أنتِ تقسين عليه كثيرا مولاتي، لا تنسي أنّه يعشقكِ أيضا.
- سيليني: ولكنّه لا يفهمني، إنّه لا يفهم شيئا، أقول له: نقاوم الرومان، يجيب بغباء: نقاوم بالفكر! بالمعرفة!
- إيراستا: إنّه رجلُ فكرٍ مولاتي!
- سيليني: أقول له: نحارب الرومان، بعد أن نغتال زعيمهم، فلا ريح لهم دونه، فيثغو أمامي بغباء: (تلوي الحروفَ بلثغة ساخرة) يذب تذنّب الدم عذيذتي!
- إيراستا: (تفاجئها ضحكةٌ، تسيطر عليها سريعا) ربّما له رأيٌ غيرُ رأينا، إنّه رجلُ سياسةٍ قبل كلِّ شيء.
- سيليني: عليه اللعنة، وعلى فكره، وسياسته.
- إيراستا: وهو يشرف بنفسه على بناء مقامٍ فرعونيّ هنا في بلاد البربر على شرفكِ أنتِ وحدك. [15].
- سيليني: تقصدين المدفن. اللئيم يتعجّل موتي، ليخلو له الجوّ مع إحدى الحمقاوات…
- إيراستا: أنتِ تظلمينه مولاتي، إنّه يحبّكِ وحدكِ، ولا يرى أحدا سواكِ، أقسم بإيزيس على ذلك.
- سيليني: كفى، مَنْ طلب رأيكِ؟ لو كان يحبّني بحقٍّ لشعر بحرقتي وعذاباتي، لو كان يحبّني ولو قليلا لسمح لي في الأقلّ أن أنادي ابني الوحيد بالاسم الذي أريد: ماركوس أنطونيوس على اسم أبي؛ جدّه، لكنّه يخشى غضبَ مولاه، كلّما سمعني أناغيه باسمه الجميل، ارتعب، وصرخ في وجهي: «اششششششش، فضحتِنا! للجدران آذان!» حتّى وهو هنا في قصره، وفي مملكته، وبين رعاياه، لا يتوقف عن الخوف من أسياده الرومان، ويختار لابننا الوحيد ذلك الاسم البغيض: بطليموس. يريده أن يكون نسخةً عن خاله السكّير، زير النساء! والأسوأ من هذا كلّه أنّه يريد إجباري على تسمية ذلك الأوكتافيو الكريه بلقب «الإمبراطور أغسطس العظيم» هل رأيتِ ذلا أكثر من هذا؟ [16].
- إيراستا: لا تنسي مولاتي أنّه مَنْ ربّاه، وأشرف على تعليمه.
- سيليني: تماما كما ربّتني تلك الحرباءُ الكريهة أخته! كلا سيظلّ في نظري وعلى لساني «أوكتافيو» الانتهازيّ، المتآمر على أبي، ومغتصب مجده!
- إيراستا: لكنّه مع هذا سياسيٌّ ناجحٌ جدّا، وحاكمٌ صالحٌ، لقد استطاع ترويض هؤلاء الجبليّين، ومنذ أن وطئت قدماه هذه الأرض لم تقمْ حربٌ واحدةٌ، ولا حتّى ثورةٌ صغيرةٌ، لقد استطاع كسبَ ودِّ الناس هنا، وقلّما نجح أحدٌ في هذا.
- سيليني: (تقاطعها بعنف) واستطاع أيضا ممالأة أسياده والتودّد إليهم على حساب كرامته، وعنفوانه. عليه اللعنة! ستظلّ ريشته خفيفةً أبدا، ولن يفعم خواءها شيءٌ ما دام يحبّ هؤلاء الرومان كلّ هذا الحب! [17].
- إيراستا: عفوكِ مولاتي، لكنّه يحبّكِ أنتِ، ولا يستحقّ منكِ كلَّ هذا.
- سيليني: فليبتلعه «ست»، ما لنا وما له الآن؟ لقد يئستُ منه ومن بلادته، ولم يعد أمرُه يعنيني، أنا أصلا لم أحبّه يوما، ولم أختره زوجا، بل تلك الداهية «أوكتافيا» هي مَنْ أصرّ على ذلك.
- إيراستا: كانت داهيةً حقا!
- سيليني: أما قلتُ لكِ: تاريخنا يكتبه الغالبون.
- إيراستا: لم يعرف التاريخُ أدهى من تلك المرأة!
- سيليني: ولا أقبح! أذكر عينيْها الحولاويْن تتفحّصانني، أنا وشقيقيّ الباكييْن، كان وجهها كريها جدّا…[18].
- إيراستا: (بصوتٍ ضاحك) كان وجها مجدورا، وكانت القبيحة تريدني أن أصفّف لها شعرها الأشعث، الأشيبَ ذاك تماما كما كنتُ أصفّف جدائلَ أمكِ السوداء الجميلة… كم كنتُ أعاني وأنا أحاول جاهدةً كتمَ ضحكاتي!
- سيليني: (تقهقه) أتخيّل منظرها، وهي تحاول تقليد أمّي، وتحشر جثتها السمينة تلك فيما سطا عليه خدمها من ثيابها الجميلة!
- إيراستا: (تواصل ضحكها) كانت تبدو مسخا حقيقيّا في تلك الثياب الضيّقة التي لا تلائم مقاسَها…
- سيليني: هل تذكرين يوم أصرّت الحمقاءُ على أن ترتدي ذلك الثوبَ الحريريّ الأبيض الذي قيل لها إنّ أمّي ارتدته لدى أول لقاءٍ لها بأبي…
- إيراستا: أذكر هذا جيّدا، والأسوأ حين لطخت سحنتها بتلك المساحيق الكثيرة، لمجرد أن قيل لها إنّ كليوباترا العظيمة كانت تضع مثلها…
- سيليني: ترى مَنْ كانت تريد أن تغوي؟
- إيراستا: لا أحد، لا أحد طبعا… عدا عبيدها المساكين!
- سيليني: سمعتُ من إحدى وصيفاتها المقرّبات أنّها حاولت تقليد كليوباترا العظيمة، فلفّت نفسها هي أيضا في بساطٍ، وطلبت من بعض الخدم أن يحملوه إلى أبي المسكين، الذي شاء حظه الأعمى أن يكون قرين تلك السمينة….
- إيراستا: (ضاحكة) كانوا ستة رجالٍ أشدّاء، ومع ذلك كادت أنفاسهم تتقطّع من هول الثقل الذي كلّفوا بحمله…
- سيليني: المسكين أبي! كان حينها مختليا بنفسه، أو بطيف أمّي، كان حزينا، يستعين على الشوق بالخمر، وبالتنهّدات… حين اقتحم أولئك التعساءُ مجلسَه، وبسطوا أمامه ذاك الثقل، لوهلةٍ ظنّها أمّي هي التي لحقت به إلى روما، فانتفض مسرعا، يحلّ البساط، ودموعه تسحّ شوقا وحبّا، ويا لهول ما رأى بعد ذلك… يا لهول ما رأى!
- إيراستا: رأى القبحَ مجسّدا، والشحمَ طافحا، ولم يتوقف ليلتها عن التقيّؤ اشمئزازا، وغيظا! [19].
- سيليني: (باشمئزاز) العجيب والمثير للشفقة حقا أن تصرّ وهي الأدرى بدمامتها وسماجتها على التسميّ بهذا الاسم الجميل الذي لا يلائمها: «مينرفا» كم هذا بذيء! [20].
- إيراستا: كنّا نحن الوصيفات نناديها بهذا اللقب في حضورها، وحين تغيب كنّا نسمّيها: «ميدوسا»… كان أكثر اسمٍ يلائمها، لأنّ مَنْ يراها فجأةً يتحجّر وجهُه كلّه هكذا…
(بحركةٍ تهريجيّة تجحظ عيناها، ويخرج لسانها، وتظلّ كذلك لحظاتٍ، ثمّ تنفجران معا بضحكٍ صاخب)
- سيليني: ما أبغضها! هل تذكرين كيف أصبح وجهها بلون الرماد حين وقع بين يديْها «فنّ الهوى». [21].
- إيراستا: (تضحك) لم تكن يوما قبيحةً، كما كانت حينها.
- سيليني: كنتُ حينها أتلصّص عليها من وراء الستار، وكانت البدينة تسترخي كالفيل على فراشها الذي يئنّ من هول ثقلها (لا تتمالك ضحكها) وقد طلبت من تلك الوصيفة أن تقرأ لها بضع مقاطع… ما زلتُ إلى الآن أتساءل: مَنْ كانت تودّ أن تغوي؟
- إيراستا: (مواصلةً بحبور) لسوء حظها، كانت وصيفتها بلهاء مثلها، ولم تحسن انتقاء ما تقرأ…
- سيليني: (تنفجر مقهقهةً بتشفٍّ)
- إيراستا: (بصوتٍ خطابيّ ساخر):
«مَنْ كانت بدينةً أصابعُها، أو غليظةً أظافرُها،
فلتكفّ عن التلويح أثناء الحديث.
ومَنْ كانت بخراءَ، فلتشحْ بثغرها عن وجه عشيقها،
ولتغلقْ فمَها حتّى تأكل».
- سيليني: (تواصل قهقهتها بصوتٍ أعلى)
- إيراستا: «وإن اسودّ في فمكِ ضرسٌ،
أو شاه حجمُه
أو انحرف
فخيرٌ لكِ ألا تضحكي».. [22]
(تنفجران معا ضاحكتيْن بصوتٍ عالٍ)
- سيليني: لحسن الحظ، لم تسمعني وأنا أضحك عليها، لكأنّما كان يصفها هي دون سواها!
- إيراستا: حاولتُ تنبيه تلك الوصيفة الغبيّة، بعينيّ، ولكنّها لم تنتبه، وواصلت القراءة وليتها لم تفعل، فقد انتفضت القبيحة فجأةً، وانهالت عليها ضربا ولكما، ثمّ انهالت على الكتاب تمزقه بحقد…
- سيليني: (بتشفٍّ) ثمّ انهارت على الأرض متشنّجةً، والزبد يتدفّق من شدقيْها…
- إيراستا: ولم نرَ تلك الوصيفة المنكودة بعدها أبدا.
- سيليني: لم تكتف بذلك، بل أخذت كلِّ يومٍ تلحّ على أخيها المأفون، حتى أصدر قرارَه بنفي أوفيد… أوفيد الوسيم!
- إيراستا: كان واحدا من أفضل رجال روما وأوسمهم!
لوحة: مايسة محمد
- سيليني: كان كاهنَ حبّ حقيقيّ! عليها اللعنة، لم أكره في حياتي أحدا مثلما كرهتها.
- إيراستا: ولم تكره هي أحدا بعد أمّكِ سواك.
- سيليني: ومع ذلك أخذتني إلى قصرها، وجعلت أولئك الدجّالين يسجّلون أنها كانت لي ولإخوتي الأمّ الرؤوم. تبا لهم!
- إيراستا: لم تفعل ذلك إلا كي تكوني تحت بصرها، وبين يديْها…
- سيليني: وما أكثر المرّات التي تمنّت فيها موتي!
- إيراستا: لم تتمنّ فقط، بل فكّرت أكثر من مرةٍ في قتلكِ، ولم يمنعها سوى خوفها من أخيها الإمبراطور.
- سيليني: أكثر ما كان يغيظها أن تراني أكبر أمام عينيْها، وأن ترى ملامح غريمتها تنضح أمامها يوما بعد يوم!
- إيراستا: ولهذا، وقبل أن تبلغي الخامسة عشرة وهي تلحّ على أخيها كي يزوّجكِ من يوبا…
- سيليني: خطةٌ محكمةٌ من الاثنيْن، يتخلّصان من ابنة عدوّتهما، ويروّضان ابن عدوّهما، ويكسبان الشمالَ الأفريقيّ كلّه في صفهما… يقتلانني دون قتلٍ، ويريقان دمي دون قطرةٍ واحدةٍ تُراق حقّا… ولكنْ، أحيانا، يثور في نفسي السؤال: لماذا رفض قتلي بكلِّ ذاك العناد؟
- إيراستا: إنّه أفعوانٌ، ماكرٌ، لا أحد يعرف ما يدور في عقله!
- سيليني: هل تفكرين فيما أفكر فيه؟
- إيراستا: إنّه أفعوانٌ كما أخبرتكِ… ولا جدوى من محاولة تفسير أفعاله!
- سيليني: ألا تريْن أنّه استبقاني تكفيرا عن جريمته النكراء في حقّ أمّي؟
- إيراستا: (بإصرار) أعتقد ألاّ جدوى من محاولة فهمه!
- سيليني: (تواصل غير مبالية) مَنْ يدري! لعلّه نادمٌ أشدَّ الندم لمسرّات الحب الضائعة مع أمي، ويودّ أن يعوّض ما فاته مع الابنة، مَنْ يدري! ربّما زيارته هذه ليست إلا لرؤيتي أنا، لا شكّ أنّ الأخبار وصلته سريعا عن جمالي، وقد حالت اللئيمة أخته دونه ودون أن يراني حين كنتُ أسيرةً لديهما في روما، لا شكّ أنّه حانقٌ جدّا عليها الآن!
- إيراستا: لا أحد مولاتي يمكنه الذهاب بعيدا، غامضةٌ هي النفس، وعجيبة!
- سيليني: غامضةٌ، وعجيبة! صدقتِ، ولكنّني سأنال ما أريد، ولن يمنعني أحد! ولكن، إيراستا، ماذا أريد أنا؟ خبّريني ماذا أريد؟
- إيراستا: (بقلقٍ) مولاتي، أنتِ متعبةٌ جدّا، لمَ لا ترتاحين قليلا، أعطني يدَكِ، ودعيني أساعدكِ.
- سيليني: معكِ حقٌّ، ما أحوجني إلى غفوةٍ قصيرة!
(تقود إيراستا سيّدتها نحو سريرها، وتساعدها على الاضطجاع)
- إيراستا: سأسدل الستائر مولاتي، وأدعكِ ترتاحين.
- سيليني: نعم، افعلي، وإلى أن أرتاح، تسلّلي إلى مجلس زوجي، وتقصّيْ لي آخر الأخبار…
- إيراستا: سأفعل مولاتي، وسآتيكِ بكلِّ جديد.
- سيليني: الوقتُ يمضي بسرعةٍ إيراستا، وغدا، غدا، وليس بعده، أحسم أمري، يجب أن نعرف كلَّ شيء قبل غيرنا.
– إيراستا: ثقي مولاتي، أنّني لن أدخر جهدا.
- سيليني: هيا إذن، اخرجي الآن.
(تخرج إيراستا، وتظلّ سيليني مسترخيةً بمفردها في الظلام)
- سيليني: (بصوتٍ كالأنين) [ما أتعسني دون كلِّ النساء حظا! ما أتعس حظي! رأسي يدور، وما أزال إلى الآن لا أعرف ما أريد! أخادع نفسي بانتظار هيليوس المسكين، الذي نسيتُ ملامحه، ولم يعد يعنيني حقا حضوره أم غيابه، بعد ما رأيته من أخيه التافه بطليموس، أخادع نفسي بهذا، وأستجلب السحرة والدجّالين كي يدلّوني على مكانه، أو يتنبّأوا لي بموعد ظهوره، وقلبي معلّقٌ بالآخر...].
(تتنهّد بأسى، وتصمت قليلا، ثمّ تواصل)
[قلبي يدقّ بعنفٍ لمجرد التفكير في لقاء الآخر... سيحلّ علينا ضيفا غدا، وسأسحره بجمالي، سيأسره جمالي، يجب أن أحقق ما عجزت عنه كليوباترا العظيمة... كم هو بائسٌ حظي أن أكون ابنتها هي دون كلِّ النساء! الجميع يلهجون بجمالها هي، ويعمون عنّي أنا، إنّها فرصتي الوحيدة كي أنتزع الثمرة التي تمنّعت عليها هي... أوكتافيو العظيم، أقوى رجلٍ في التاريخ! ستخرّ ساجدا تحت قدميّ أنا، وسيلهج الناسُ بحكايا ذلكَ على يديّ أنا، سينسون كليوباترا إلى الأبد، وسيبدأ مجد سيليني! سيبدأ مجدُ سيليـ...]
(فجأةً، يُسمَع وقعُ خطواتٍ سريعةٍ قادمة، تطلّ بعدها إيراستا بحذرٍ، وتوجّس)
- سيليني: (ترفع رأسَها بتوّجس) هذا أنتِ يا إيراستا! لماذا أنتِ مسرعةٌ هكذا؟ ماذا لديكِ؟
- إيراستا: (تلتقط أنفاسَها) مولاتي، خشيتُ أن أوقظكِ، ولكن الأمر لا يقبل أيَّ تأجيل!
- سيليني: (تنتفض من فراشها متوثبة) تكلّمي ما الأمر؟
- إيراستا: حين خرجتُ من عندكِ مولاتي كان القصرُ كلّه قائما قاعدا كما كان منذ أيّامٍ استعدادا لاستقبال الضيف الـ…
- سيليني: (تقاطعها) أعرف، أعرف، وغير ذلك ماذا؟
- إيراستا: تسلّلتُ يا مولاتي كما أمرتني إلى تلك الكوة الخفيّة المشرفة على مجلس مولاي الملك، وهناك هالني ما رأيت!
- سيليني: ماذا رأيتِ؟ ماذا؟
- إيراستا: كان مولاي مكفهرَّ الوجه، بصحبة رسولٍ توحي ثيابه أنّه من «أغسطس» أعني «أكتافيو»… كان يحاول جاهدا أن يخفي ضيقه، ويبتسم في وجه الرسول…
- سيليني: عجيب! لماذا؟
- إيراستا: فهمتُ من كلامهما أنّ «أوكتافيو» لن يأتي إلينا، إنّه يتاخم على حدودنا، ويرفض الحضور.
- سيليني: ما المشكلة! نذهب نحن إليه…
- إيراستا: لا يريد أن يرى أيّا منّا، ولا حتّى مولاي الملك، سيعود غدا إلى روما، يبدو أنّ ثمّة ما أزعجه…
- سيليني: أو ربما هو يخشى لقائي!
- إيراستا: فهمتُ أنّه مستاءٌ جدّا من تساهل مولاي مع سكّان الجبال هنا.
- سيليني: بل هو يخشى أن ينهزم أمامي…
(تعود إلى الاضطجاع… تصمت متفكّرةً لحظات، ثمّ تقهقه بلا مبالاة)
- سيليني: إنْ لم يأتنا، ذهبنا نحن إليه… أما زلتِ تحتفظين بذاك البساط؟ أف! دعكِ من البساط، ناوليني المرآة، بل دعيني، سأنام الآن… دعيني.
(تغفو)
انتهت.
إشارات:
[1] اخترتُ هذه الفترة دون غيرها، لأهمّيتها في حياة «سيليني» الأنثى (40ق.م – 5م) ففي هذه السنة بلغت الثلاثين تماما من عمرها، أمّا الإمبراطور «أغسطس» فكان حينها في الثالثة والخمسين، (63ق. م- 14م) وهي تقريبا السنّ التي كان عليها «يوليوس قيصر» حين قابل كليوباترا الأم.
[2] هو الأخ التوأم لسيليني، ويعني اسمُه: الشمس، في حين يعني اسمُها: القمر، تذكر المصادر التاريخيّة أنّه اقتيد مع شقيقته سيليني، وأخيه الأصغر: بطليموس إلى روما أسرى، وأنّهم ربّوا في قصر أوكتافيا، شقيقة «أوكتافيو» ثم اختفت أخبارُ الشقيقيْن، بينما يرجّح البعضُ أنّهما رافقا أختهما إلى شمال إفريقيا، بعد أن تزوجت الملك الأمازيغيّ «يوبا الثاني»
[3] كانت سيليني تحتفظ في قصرها بإفريقيا بتماسيح ملكيّة مدلّلة، على غرار أمّها كليوباترا.
[4] المعروف أنّ أنطونيو حين أراد الانتحار أخطأ، فأصاب بطنه بدل قلبه، وقضى فترة عصيبةً من الاحتضار الطويل، قبل أن يموت، أمّا ابن كليوباترا من يوليوس قيصر: «قيصرون» فتذكر المصادر التاريخيّة أنّ الرومان عذبوه بقسوة، قبل أن يقتلوه. أما يوبا الأول؛ والد زوج سيليني، الذي هزمه يوليوس قيصر، فقد انتحر، واقتيد ابنه يوبا الثاني إلى روما، ليُربّى هناك.
[5] إشارة إلى الأسطورة الإغريقيّة القديمة، التي تحدّثنا عن غرام الإله أبولون؛ إله الفنون والشمس والنبوءة بكاساندرا ابنة ملك طروادة «بريام» التي استغلّت مشاعره، وطلبت منه أن يمنحها القدرة على التنبؤ، ففعل ذلك، ولكنّها تنكّرت له حينها، فلعنها بألا يصدّقها أحدٌ أبدا.
[6] الإشارة إلى حيلة التفاف كليوباترا في سجادة، وحملها إلى يوليوس قيصر، الذي كان مرابطا على تخوم مملكتها المشتركة هي وأخيها «بطليموس الرابع عشر»، والذي وقع في غرامها فور ذاك اللقاء.
[7] الخادمة الشخصيّة لكليوباترا، وقد انتحرت معها.
[8] الاسم اللاتينيّ لديونيزوس، إله الخمر والخلاعة الإغريقيّ.
[9] في هذا الموضع إشارةٌ إلى بعض الأساطير التوراتيّة المتعلّقة بمكر المرأة ودهائها: «دليلة» التي تغافل «شمشون» القوي، وتقصّ شعرَه الذي به شعرةٌ سحريّة هي مصدر قوّته. و»ياعيل» التي غافلت القائدَ الكنعانيّ «سيسرا» ودقّت وتدَ خيمةٍ في صدغه، و»جوديث» الفاتنة التي غافلت القائد الآشوريّ «هولوفيرن» وأوقعته في غرامها، ثمّ قطعت رأسَه بعد أن خدّرته.
[10] يبدو هنا تأثرها الكبير بالفكر التوراتيّ، فهي تصف مدينة روما الكريهة إلى نفسها ببابل، تماما كما كان العبرانيّون يصفون أيّة مدينة بغيضة إلى نفوسهم.
[11] تقصد أوكتافيو.
[12] المقصود أوكتافيو طبعا.
[13] إشارة إلى إله الشرّ الفرعوني: «ست»
[14] فعلا أقيم تمثالٌ تكريميّ ليوبا الثاني في مدينة أثينا تقديرا لجهوده الفكريّة والأدبيّة.
[15] بنى يوبا الثاني فعلا ضريحا على الطراز الفرعوني بهيئة هرمٍ صغير، دُفنت فيه زوجته سيليني بعد موتها، وما يزال قائما إلى اليوم في منطقة «شرشال» بالجزائر، ويُعرف عند عامّة الناس هناك باسم: «قبر الروميّة»
[16] بعد أن استتبّ الأمر لأوكتافيوس، أصدر مجلس الشيوخ في روما قرارا بمنع اسم «مارك أنطونيو» من التداول.
[17] الإشارة إلى طقوس الحساب الفرعونيّة، التي – كما جاء في كتاب الموتى – تقوم على وزن أعمال الميت بريشةٍ خفيفة، فإنْ كان صالحا كانت أعماله أثقل من الريشة، ويذهب من فوره إلى النعيم مع أوزيريس، أمّا إنْ كان فاسدا، فستكون الريشة أثقل من جميع أعماله، وعندها ينقضّ عليه كلبٌ متوحّشٌ، يُدعى: الهمهم، ويكون مصيره الجحيم.
[18] هنا تنساق سيليني وراء حقدها على أوكتافيا، لأنّ من المعروف تاريخيّا أنها كانت امرأة جميلة، وعلى قدرٍ كبير من الذكاء والكياسة.
[19] أحدُ الألقاب التي ألصِقت بأنطونيو هي: «الرجل المتقيّئ» وهذا لأنّه – حسب ما يذكر خصومه – كان متخما ذات يومٍ من وليمةٍ حضرها، وحين فتح فمَه يوما، وأراد أن يتكلّم ويدلي برأيه في مجلس الشيوخ، تقيّأ بدل ذلك!
[20] الاسم اللاتينيّ لأثينا إلهة الحكمة الإغريقيّة، المعروفة بجمالها وبراعتها.
[21] واحدٌ من أشهر كتب الشاعر اللاتينيّ «أوفيد» (Ovide) وهو نصائح يوجهها الشاعر للرجال كيف يوقعون بالنساء، وللنساء كيف يوقعن بالرجال. وبسببه نُفي الشاعر عن روما، بأمرٍ من الإمبراطور «أغسطس»
[22] هذا المقطع والذي قبله مجتزءان من «فن الهوى»، ترجمة: د. ثروت عكاشة، دار الشروق: القاهرة، (د.ت) ص: 198- 200.