سيمفونية العتمة
ما الذي نحاول تدوينه..؟ لماذا نسعى إلى زعم النهوض بمهمّة التأريخ..؟ لماذا نحمّل الرواية مشقّة التوثيق، ونقيّدها بقيود الشهادة والوثيقة والحقيقة..؟ أين التوثيق من التلفيق في العالم الروائيّ..؟ لماذا نكتب..؟ كي نروي حيلنا أم حقائقنا المسرّبة تحت غطاء الفنّ..؟ نهرب ممّن إلى مَن..؟ أين واجب التعرية ونزع الأقنعة..؟ الكاتب يخادع نفسه أم قرّاءه..؟ هل من موضع مستقرّ بين الإيلام والإيهام..؟ هل مطلوب من الروائيّ أن يؤلم في وصف الوقائع ويفتّح الأعين المغمضة..؟ وكيف ذاك..؟ ألا تعتبر مجازفته مثيرة للشفقة وهو يسعى للتنوير في حين أنّه يحفر في عتمته وظلاميات من حوله بحثاً عن نوره الخاصّ..؟
نحن سكّان كهوفنا الداخليّة المعتمة. نحاول تحرير الجنيّ القابع في قمقمه المظلم، نرفع عنه الحظر. نتيح له التعبير عن وساوسه والتصريح عن رغباته. نقف أمامه مراقبين لثورته وانطلاقه وتحرّره.
هناك روائيّون أوغاد يتسلّلون إلى الحديقة الخلفيّة للذات. يهدرون دماء شخصيّاتهم على مذابح النوازع والشهوات والغرن يكون نقطة تلاقٍ وسبيل تصالح وجسر تواصل بين الثقافات والشعوب.
يريد بعضهم أن يكون الأدب وسيلة للترميم والترقيع. يريدون من الأديب أن يوهم قارئه أنّه يعيش في عالم مثاليّ من المبادئ والمثاليات. يبحثون عن سبل لاستدراج الناس إلى فخاخ القراءة بغية التوجيه عن بعد، وبطرق غير مباشرة، عبر سرد العبَر والحكم، ما يقصيه عن التأثير ويفصله عن واقع السوق. لا بدّ من مبدأ الصدمات المتصادية. يحتاج المرء إلى ذرّ الملح على الجرح للإبقاء على اليقظة الواجبة الدائمة.
ما الذي يمكن للروائيّ أن يسرده وهو القابع في قوقعته، الشاهد الشهيد على ضفاف الخراب المستشري. يتحرّك برجع الصدى. تظلّ الرواية خدعته ولعبته وملاذه لتمضية يومه وتزجية أوقات أناس ملولين يبحثون عن شيء من الترويح، وإن كان ذلك عبر قراءة قصص مريعة. الرواية ثورة الداخل وانفجار العتمة. تظهير للنيّات المبيّتة والرغبات المكبوتة، وانتقال بها كسلاح إلى تحدّي خراب النفوس. تصفية مرحليّة بغية الانتقال إلى إطلاق غيلان الأحقاد والثارات وإيقاد نيرانها على الورق عساها تجنّب بعضاً من الاصطدام والتحطيم.
الكتابة تحت ضغط الآنيّ، تحتمل كثيراً من الارتباك، ذلك أنّ زاوية الرؤية تكون محدودة ومحصورة بمسافات وأبعاد معيّنة، يظلّ كثير من الجوانب المظلمة التي لن تنكشف للكاتب، ما يبقي العمل مليئاً بالثغرات، وقد يبديه ذلك كقلعة مهجورة منذ زمن.
الثورة أصبحت كأيّ حسناء تلاعب بها كلّ من حولها، ممّن يفترض أنّهم عشّاقها، فأدخلت دهاليز السوق، وباتت سلعة كأيّ سلعة أخرى في صالات العرض.
الدماء، الأرواح، الشعارات، البشر، الرهانات، المدن، وما يمكن أن يخطر للمرء من أشياء كثيرة أخرى، تكون في أسواق العالم موادّ للمساومة وبضائع للمقايضة، توضع على الرفّ حين التفاوض، يبدو أنّها لا تتعدّى اعتبارها مقدّمات للإيصال إلى الطاولة والحديث عن الأثمان.
كان الوطن سوق نخاسة معاصرا. صارت الثورة سوقاً سوداء على الضفّة الأخرى. كان المسعى هو تلويث مَن لم يتلوّث بعد، ليصبح الخيار بين القتلة والمجرمين، بين الأقلّ سوءاً وإجراماً. كلّ طرف يقدّم نفسه على أنّه المنقذ. لا بدّ من التخلّص من ركام الاستبداد بجرف مخلّفاته من أصحاب الشعارات البالية.
الوطن ساحة احتراب جماعات من القتلة. وطن للإيجار..! هذا ما نتوجّه إليه. أوطان مهاجرة نحو ماضيها. كيف يمكن عبور عفن السوق وحمولتنا قاتلة من أعباء الجهل وأوهام العظمة والفرادة..؟
إفراغ المدن من أهلها، إعادة رسم الخرائط والحدود بينها. إنّه نوع مستجدّ من هندسة الجحيم بزعم التخطيط للفردوس المفقود. الثورة أولمب الشهداء لا غير، كلّ مَن عدا الشهداء يبحرون في مستنقعات السوق، يحرسون بوّابات العدم.
الوطن. ما هو الوطن..؟
كومة أحجار، عدّة شوارع، حفنة بيوت، فقر، جوع، تشرّد، اغتراب، استلاب، بؤس، إذلال، إهانة، سجن..؟ طاولة قمار، علبة كبريت، مستودع بارود..؟
في الغربة يلحّ علينا هذا السؤال؛ سؤال الوطن. الانتماء الذي ننشده، الأمان الذي نحلم به.
في هروبنا من الوطن قد نعثر عليه. تُرينا الغربة الانتماء في عدسة الذات والآخر، يكون البعد سبيلاً إلى الاقتراب والتماهي أكثر..
قد يصبح الوطن في بعض الأحيان حجاباً.. قد تغدو الغربة مرآة وسبيلاً إلى الوطن.
وطن حقيقيّ؛ لحظة أمان، بسمة صادقة، نوم عميق، فراش وثير. شوقٌ للغد يحلّ محلّ الخوف منه. رعشة العاشق ولهفته لرؤية الحبيبة. تفاصيل بسيطة تبني عَظَمة الوطن الحقيقيّة؟
الشوق للوطن جملتنا المفتاحيّة. الحديث عن الروح المفتقدة التي كانت مبثوثة فينا ونحن في ديارنا موضع تحليلنا وافتقادنا. كلّ جملة تنتهي بآهات وحسرات. كلّ محاولة تعريف تسقط لعدم التسامي. كنّا نفتقد الانتماء لوطن مسلوب، بتنا نفتقد أنفسنا ونستقوي بالقادم الضبابيّ.
حديث العتمة:
أنا العتمة.
أهذي في عتمتي، أنير الدروب. أظلّ أربكهم بحضوري وغيابي. أحمي وأحجب وأتستّر وأفرض قوانيني. لا أكبّل بالحدود. لا أكترث لإبقائي موضع اتّهام دائم وأذى متجدّد..
يظلّ هؤلاء الناس يلعنونني في سرّهم وجهارهم. لا أبحث عن إرضاء منهم ولا عن عداء. أبقيهم أحرارا في تهويماتهم. لا يؤذيني اتّهامهم الدائم لي وإلصاقهم معظم مساوئهم وخطاياهم بي. في كلّ حديث يستحضرونني لأكون حفرة الرجم والمرجوم في الوقت نفسه. يكبّلون خيالهم بتحديدي المتهّم، مستكينين ومرتاحين لتبرئتهم ذمم بعضهم بعضاً على حساب تشويهي. عبثا تضيع محاولاتهم.
أشدّ ما أستغربه من سلوكيّاتهم، هذه التناقضات السافرة التي يقنعون أنفسهم بها، ويبالغون في تضخيمها حاجبين الحقائق أو متعامين عنها، وملقين بكلّ تقصيرهم عليّ، وتصديري على أنّني بركان الموبقات ومكمنها المتجدّد.
أيّ حديث عن التطوّر والتقدّم يقدّمونه كمرادف لما يظنّونه أنّه نقيضي، يبقونني رهينة قصورهم، يلحقونني بالجهل والتخلّف والبؤس والجنون، يزدرونني ويظهرون الترفّع عن الاقتراب منّي، وحين يريدون الانتقاص من أحدهم، يصفونه بشيء منّي. يحتقرونني مجزّأ ومطلقاً. مثلاً أبسط الصفات يجعلونها مطلقة وملصقة بما تفاهموا على أنّه نقيضي وتوافقوا على أنّه عدوّي؛ النور. فالعلم نور، في حين أنّ الجهل من حصّتي. ويبرّرون أنّ الجهل يخلق ستاراً من العتمة التي تحجب الرؤية..
أليس النور عامياً بدوره وحاجباً لكلّ ما خلفه، فلماذا يحضر الحرص على إلقاء عقدهم عليّ، وتجميل قبحهم على حساب تشويه أبعادي.
العلل تجلّل كلّ تفاصيل حياتهم. بعض النور يجدي، وكثيره يعمي، كذلك أنا لكن على طريقتي الخاصّة، فلكلّ منّا خاصّيات ومزايا، لا نسعى للتصارع مثلهم، نتكامل في دورتنا، نتبادل الأدوار ولا يلغي أحدنا الآخر، العالم يحتاجنا جميعاً فلماذا نستفرد فنقع في شراك التهميش والوحشة والغباء.
إذا افترضت معهم أنّني صفة الجهل، أليس الجهل بالشيء دافعاً لتعلّمه والتمكّن منه..! وإن كان الإنسان يوصَف بأنّه عدوّ ما يجهل، فلماذا أكون أنا عدوّه، وأنا الذي أحميه من نفسه في كثير من الأحيان. أبرّر لهم بالحجّة التي يلعنونني بها، أقوّل إنّهم أعداء ما يجهلون. هم يجهلون دوري في دفعهم إلى تطوير إمكاناتهم وطاقاتهم واستغلال مقدّراتهم.. ألا يقولون إنّ الحاجة أمّ الاختراع..! تصوّر لو لم أكن موجوداً، أما كانوا ليستغنوا عن الكثير من الضروريّات، أو أنّهم ما كانوا استدلّوا إليها أصلاً، وهم اليوم لا يتخيّلون حياتهم دونها..
أنا سرّ الدواخل وجمالها لا الكآبة التي يتهرّبون منها.. حين ينفرد أحدهم بنفسه يعيش أصدق لحظاته، حين أغطّيه، وألقي بحمايتي وسِتْري عليه يطلق العنان لحقيقته وصدقه، يعيش أريح أوقاته، وحين يغافله أحد أو ضوء تراه يتوتّر ويشعر بالمراقبة، فيبدأ يلوذ بالتكلّف كي يساير الآخرين، أو يتقدّم بالصورة التي يريدون له الظهور بها أو البقاء عليها. أي يفرضون على أنفسهم التمثيل والخداع في حين أنّني أكون مرآة الصدق والحقيقة لديهم.
منذ بدء الخليقة وسأبقى محافظاً على توازني وملتزماً بدوري. أنا أحمي الهاربين اللاجئين المتمرّدين، ألقي عليهم عباءتي وأعمي العيون عنهم. ينتظرون حلولي على جمر الأشواق، لينطلقوا في بحوري، ويسيروا في ركابي. قافلتي دائمة الارتحال، ألتزم بمواعيدي في كلّ الأزمنة والأمكنة، أفسح المجال لغيري، أصغي إلى إبداعهم، ولا أغترّ بطغياني.
يذكّرونني ويؤنّثونني بلغتهم، يجيزون لي مختلف الحالات. معظم الأحيان يرونني شيطاناً، في حين أنّي براء من أيّ ظنّ. لست شيطاناً ولا ملاكاً. أراهم يلبّسونني انعكاس دواخلهم وصور قصورهم. حين يبحرون في قيعان أرواحهم وأجسادهم أوقفهم عند حدود بعينها، أُشعِرهم دوماً بعجزهم أمامي، لا أسطو أو أتسلّط إلاّ بمقدار بسيط أذكّرهم عبره بعجزهم الدائم ليكون دافعاً للبحث والتنقيب، أنسحب بهدوء حين أجد مَن يعشق الإبحار والاستمتاع باكتشاف الكنوز التي أشتمل عليها وأبقيها طيّ الكتمان والأمان.
اكتشفوا لتبديد بعض منّي العديد من المكتشفات التي كلّفتهم الكثير من الوقت والجهد والمال، وبرغم ذلك يظلّون مكبّلين في حيّز بسيط بالمقارنة مع هيمنتي الكاسحة. أنا لا أستجدي عداءهم ولا رضاهم، أقوم بدوري بكلّ تواضع. أسمح بنقل عشرات الألوف منهم تحت جناحي من منطقة إلى أخرى، حين تضيق بهم الأمكنة، أكون جناحهم إلى الجوار، يترقّبون قدومي لينشطوا ويسابقوا الزمن مستغلّين وجودي.
يربكهم غيابي، ويربكهم حضوري.
لست أحجب إلاّ ما يكون محجوباً أساساً عنهم، ولا أمرئي إلاّ المرئيّ. أخفي عللهم، أداري نقصهم، أكتم فضائحهم، أتستّر على العشّاق منهم، أشهد على كلّ ما يقومون به لكنّني لا أفشي أسرارهم، أشفق على نقصهم وانعدام حيلتهم أمام بعضهم وأمامي. لي حضور في كلّ جزء وموطئ في كلّ تفصيل.
لست لعنة ولا نعمة. أنا العتمة التي لا طعم لشيء من دوني. أنا كالحبّ، كالماء، كالهواء. أؤدّي معزوفتي في سيمفونيّة الكون، ولا أشذّ عن دوري. أراقب سرورهم حين أداهمهم، ولا أخفي سروري بلقائهم. أبسط ظلّي وأشتدّ كثافة لأقيهم شرورهم إزاء بعضهم بعضاً.
أعلم أنّهم لن يسمعوا ندائي، لأنّهم يصمّون آذانهم عن سماع أيّ صوت، وأضحك وأنا أسمعهم يتداولون أمثلة عن حسن الإصغاء وحسن الكلام، ألاحظ أنّ معظمهم يعشق الإرسال ويظنّ نفسه الأبرز في التحليل والتوصيف والإبداع، وحين يتعلّق الأمر بوجوب الإصغاء وضرورة الاستماع تراهم يفقدون الصبر ولا يتحمّلون كشف جهلهم الذي يقدّمونه على أنّه موصوفي المزمن.
يبتدعون لي مصطلحات يروّجونها، حين ينتقدون بعضهم أو يقلّلون من شأن أحدهم يفترضون فيه التعتيم أو يعتّمون عليه، يشكّلون منّي سلسلة مفاهيم تكون وسيلتهم إلى التشفّي وخوض المعتركات باستمرار.
هو ظلّ داهم أنواري ولوّن أبعادي. جمّل حديثي وفرض مناجاتي.
أنا العتمة وطن النور وهذا وِسامي.