شاعرُ الكهف المجنّح
يدخل الشاعر عبدالرحمن بسيسو بخطى فكرية وفلسفية إلى “كهف مجنّح”، الكتاب الشعريّ المفكّر الصادر له حديثا عن دار خطوط وظلال، في قصيدة عميقة صداها كيانٌ جسديّ وروحيّ، منصرف إلى التأمّل، متطلّع إلى العاطفة، ماهر في اللّغة وعالٍ في البلاغة.
أنجز بسيسو كهفه المجنّح بين براتسلافيا في سلوفاكيا وبين نيقوسيا في قبرص في مدّة عقد ونيفٍ. مُخضعاً إيّاه لكتاباتٍ أضافت إليه وأنطَقت قصيدته. في هذا الكهف لم يترك الشاعر تفكيره الحيّ حبيس مكانه وقِدمه وحداثته، إنّما منحه حرية التحليق في سماواتٍ إلكترونية وورقية.
إنّه شاعر لا يرضيه شيءٌ، فهو مأخوذ بإنسانيته. هو صاحب الإدراك التصوّري للحيوات التي تنوء بثقل الاحتجاز، وهو الزارع لشجرة عميقة الجذور، ذات جذع، وفروع، وفروع فروع، وأغصان، وأوراق، وأزاهير، وبراعم، وثمار.
تخرج كلمات عبدالرحمن بسيسو من منظومة فكرية تُشكّل فيها الروحُ الشعرَ، يكون فيها التعبير قائما على يقين ثقافي، يعنى بالإنسان ووجوده ومصيره.
يحتفي كتاب “كهف مجنّح” بالأفكار الشاعرة، بالصور المرئية والخيالية، باللحظات الخاطفة واللاّبثة، وتخرج منه الرّؤى عميقة، مجسّدة للجمال في تجلّيها.
في غمار كتابته الثالثة للمرجعيات في الكهف المجنّح، نقرأ لبسيسو “إليّ بشتّى أشكال التحدّيات والاستجابات؛ والأفعال، وردّات الأفعال، ومجريات الأحداث، والحوادث المنكرة، والوقائع! وإليّ ببشائر الانهيارات، ونبوءات الرّزايا، والبلايا، والفواجع!”.
يبدو الكهف في وعي قارئه مفتوح السقف
وربّ قارئ متسائلٍ: كيف يشكّل هذا الشاعر قلقه المُشرق؟ وكيف يرى الكون في تجارب دماره؟ هل من وحي توغّل فلسفي أم من تحررّه التام من كل المسميات المُمجّدة؟
يبدو الكهف في وعي قارئه مفتوح السقف، لأنّ اللغة جدّية وملحّة، ولأنّ مسعى القصيدة ينصرف للغايات الظاهرة والغائرة، ولأنّ الكلمات توفّر المعنى، وتُصاغ ببلاغة وجزالة، مضيئة ومشعّة، أفكارها ذات أجنحة ضاربة.
يتّخذ بسيسو وجهته الشعرية مُبحراً في محيطات السعي لإدراك الكمال الإنساني الممكن، باحثاً عن ومض العقول ويقظة الضمائر وبوح الأرواح، مُحَلقاً في الأعالي حيثُ الحقائق تقيمُ وتتجلّى في السماوات والأرُوض والنفوس. ولكنّه أحيانا يقف في ظلال العدم، ومتسائلاً يقولُ “ما حاجتك للأجنحة أيّها الكائن؟!”.
الشاعر عبدالرحمن بسيسو ليس راضياً عن كلّ ما يمسّ عالمه الوجودي وصنّاعه ونقائضه، وهو ما نستشفّه وراء سؤال معرفي آخر “ثمّ هل لعبد مأسور من هؤلاء، إن أخذته صحوة إباق، أو تمرّد، أو يقظة ضمير، أن يحرّر نفسه من نفسه، أو أن يرتفع، أو يعلو، أو أن يغادر حضيض وعيه الآسن البهيم ليصير كائنا بشريا مسكونا بوعد أن يكون، إن أراد وتأهّل وسعى، إنسانا؟”.
يجترح بسيسو من خلال أسئلته إجابات مفتوحة على أنوار العقل، وحدس العقلاء، وومض الخيال، قائلا في دخيلة نفسه “ليس هذا شأني، وما بي حاجة، بعد، لإنهاض وعي تغييري يخرجني، مع الناس، من حلكة الدياميس، وظلمات الأقبية”.
هكذا يبعث بسيسو الرسائل من الوجود، مودعة في الإنسان ومحمولة على صوته. في إشارة تقول إن أنوار الشك يجب ألاّ تطفأ، ولا لسُبل السؤال أن تسدّ، مشترطا التبصّر لإدراك صيرورة الحياة وإنهاضها.
كرّس بسيسو ركنا من كهفه لفلسطين، الدّرّة الشّفيفة الشّافة، النبيلة المقاومة، التي تخطو بثقة لتسمو بكينونتها الإنسانية، وعلى أجنحة براق الأمل تصعد صوب فضاءات الحريّة ومنارات المستقبل.
مُشبعاً بحب فلسطين يتجلّى حضوره الشاعريّ الإنسانيّ الروحيّ والعقليّ في قصيدتها المتحرّكة المحفّزة بالدلالات الرمزية المؤثرة والعميقة، القائل في مقاطع من نشيدها: ها هي ذي تخطر في أرجاء الكون مجلّلة برداء الأنفة والعزّة/راسخة الخَطو على سُرط الأمل، وأمواج الرّيح/في قبضة كفّ من كفّيها تُرب/بذرة خصب/وعُصارة دَيمة/فيما في الكفّ الثانية الشّعلة/والجمرة/ولآلئ كنعان المسكونة ببهاء الإنسان.
“فلسطبنُ” أنا/واسمُ أناي الخالدة “فلسطين”/درّة تاج الأرض أنا/وأنا لبُّ لُباب الشمس، وأشرعة الرّيح/نبع عيون الخصب أنا/وأنا همسة أقمار الفرح الوهّاج لديمات الخصب/ …/وطنُ الإنسان الحرّ أنا/والوطنُ الحرّ الإنسان/مِرساة السّلم الكونيّ الكليّ أنا/وأنا مَسرى أشواق الزّمن الحيويّ المَوّار.
ينزل الشاعر بسيسو إلى الكهف دون أن يكون رهين العتمة، ودون أن يضلّ في الضلال أو يصبح من صلب الظلال، فكهوفه مجنّحة، تخرج من دياميسها النوارس، وتتولّه قصباتها بالحياة، وأذرعها الحالمة هيامها طليق. وإذا كان الشاعر جلال الدين الرومي يرى بأن المولود بجناحين يجب ألّا يفضّل الزّحف طوال حياته، فإنّ الشاعر عبدالرحمن بسيسو في عمق تساؤله عن حاجة الكائن للأجنحة يجعلُ حتّى الكهوف تطير.