شاعر الحب في قرن العواصف
في جنوب العراق، حيث كانت الحياة بساطة منعشة، بين الخضرة والماء والنخيل، حين تصلنا بعض الكتب، تكون مهمة صعبة للفيف من الأصدقاء، إذ عليهم نقلها، أو نسخها، كلٌ ينسخ جزءا من الكتاب باليد. فيكون الكتاب ملكنا، نتناقله بحرية، وسوف نرجع الكتاب من بعد إلى صاحبه، الذي يكون قد جلبه من بغداد. أيّة عاصمة، منبر للكتب والغموض بالنسبة لنا، والبعد، حتى أن أحد الأصدقاء، من الذين يسافرون، مرة في السنة، أفتى: حتى طابوق البناء في بغداد يختلف عن الطابوق هنا، في الجنوب.
ومن الكتب التي استنسخناها، كانت كتب نزار قباني، صغيرة القطع، وملونة. وحين جاء أحد الأصدقاء، بعد عودته من بغداد، بكتاب أوراقه زرقاء فاتحة وقال «إنه ملكنا اشتريته»، كانت أعجوبة؛ سفره إلى بغداد أولا، وكيف حصل على النقود لشرائه ثانيا. كنا نحب نزار ونحن في فقر هادئ، لنا ما نلبس، وما نأكل. إلا الكتب، كل بيت فيه مكان للكتب، وأي مكان! حيث نستقبل الضيوف، في غرفة الضيافة، حيث يكون النقاش مفتوحا، وأفضلنا صوتا يقرأ لنا الأشعار. ويتعجب الإخوان الكبار، من دأبنا على نقل الكتب، وخصوصا أشعار نزار قباني، وآرثر رامبو، وت.س. أليوت.
في مغامرة الحب كان نزار سيدا لنا ومرشدا؛ إذ أصبحنا نكتب رسائل الحب للأصدقاء في المجلة الهادئة، رسائل ربما تصل أو لا تصل، نكتبها ونحن نجلس شلة صغيرة تحت أضواء المصابيح الكابية. وعلينا أن نكون حذرين، لأننا لو تأخرنا بعد التاسعة مساء، سنكون عرضة لمضايقات الشرطة. كان ذلك في أوائل السبعينات من القرن الماضي، ومع هذه الأشعار كنا نتقبل بساطة الحياة، وقترها علينا.
وحين وصلنا مراحل الإعدادي، كانت نقاشاتنا تختم بقراءة لإحدى قصائد نزار، وكأنه السلام الجمهوري الخفي لشلتنا التي تحب دوستويفسكي وأندريه مارلو، وأنا كارنينّا.
ومع نزار كنا نحمل ديوان شاعر عراقي آخر هو: محمد مهدي الجواهري.
حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني/ يا دجلة الخير يا أم البساتينِ/.
وحين جاء الشاعر محمد حمد بأول طبعة كبيرة، أعتقد ذلك، لأشعار الجواهري، أعلن «وجدت الإنجيل الثاني يا إخوان!». ومن فوق الجسر الحديدي العالي، في مدينة العمارة، فوق دجلة، يأخذ بقراءة إحدى القصائد.
كنا نلتهم كل شيء، على الورق، حتى الفيزياء والكيمياء، والفلك، والعلوم الأخرى. نريد أن نضاهي مثقفي المدينة الغامضة: بغداد. عاصمة المأمون، والبحتري، وحنين بن اسحق، وابن الهيثم والكندي، وإلى آخر المبدعين في البلد الحزين: العراق. نحن الريفيون، هكذا كانوا يسموننا سخرية، لكن في الأخير، وفي المنفى وجدت أن العراق الحقيقي، كما قال غاندي عن الهند، هو القرى.
وكبرنا في الزمان، وهربنا خارج الوطن، من العنف السياسي، فضاعت منا الكتب، وشبكتنا الحياة في أوروبا، في الجوع والتشرد. وكم نمت في حدائق فيينا أيام الصيف، تحت سماءٍ رحيمة، لكن دأبنا في البحث لم يبطل، وصرنا نمتلك شهادات عديدة. ومع اكتشاف عالم الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، تطوّرت ذائقتنا في فهم الأشياء… وجد أحد الأصدقاء، وهو الشاعر صلاح الحمداني، أشعار نزار قباني، بعد عشرين عاما، وأخذ يقرأ لنا في الترام أو قطار المدينة بعض أشعاره. صمتنا مع صخب باريس، ونحن نسترجع ذاك الزمن الذي تعيد طراوته وحلاوته أشعار نزار قباني.
نظر إلينا صلاح وقال بابتسامة حزينة «حقا أنه لشاعر!».
في اللغة البسيطة التي يفهمها ابن الشارع، وُهب نزار موهبة كبيرة فجّر كوامنها وتحدث عن الحب… في زمن كانت الذئاب تترصدنا فيه مثل الحملان الذاهلة.
وفي أعوام التسعينات من القرن الماضي، وحين جاء نزار قباني.. مدعوا من قبل المركز العربي في بروكسل، وكان ذلك بداية أعوام التسعينات، تعجب مسؤول المسرح الفلاماني، وسألني «كل هؤلاء البشر لشاعر واحد، لن يحدث ذلك لأيّ شاعرٍ في بلجيكا حتى ولو كان هيكو كلاوس». ([1])
«نعم لأنه يحدثنا عن الحب» أجبته بهدوء.
كان الجمهور يكتظ خارج قاعة المسرح الملكي، من مثقفين ودارسين وبائعي السيارات، وأصحاب دكاكين الخضار والفاكهة. وأنا أيضا وواحد من الصحب القدامى أيام الوقوف على الجسر الحديدي العالي، هو المصور الفوتوغرافي كريم حسون.
([1]) هيكو كلاوس: كاتب بلجيكي مهم، رشح لجائزة نوبل. توفي بداية سنة 2008.