شجرة الانتظار

الثلاثاء 2015/12/01
لوحة: نزار يحيى

أطلقت فيرمونها فاقتحم عبقه أبواب القرية وانساب يملأ السراديب والحجرات.. خرجت أسرابهم على وجل تستطلع أمر الملكة.. انتثرت ألوفهم فوق الأرض.. كانت الملكة واقفة بهدبين مرتعشين وأزيز متواصل..

– رأيته الليلة، كانت قدماه على الأرض، ورأسه يثقب السماء.. كان القمر يتوجه بدرا، والنجوم حول وجهه، تطال يده ثمار الأشجار، وتطوي خطواته المسافات البعيدة.. ليس بزاحف، ولا طائر، وليس كمثل الدب، ولا الفهد ، ولا الأسد..

تعال أزيز الجمع، وانثالت فيرمونات منذرة بخطر فاسترسلت:

– طوال الليالي الفائتة كنت أستشعر أصواتا غريبة قادمة من الجانب الآخر للغابة.. أخرج كل ليلة فأتأكد من القعقعة والحفيف والرنين والصفير، وتترامى إليّ روائح غريبة لكني لا أرى شيئا حتى كانت ليلتنا هذه.. خرجت أتسمع حتى وصلت إلى الشجرة الكبيرة فتوقفت على جذعها، وإذا به يهبط من بطن وحش حديدي.. كان الوحش يزوم، وعيناه تضيئان كشمسين، من بطنه خرج.. يمشي مشرع القامة.. جال في الغابة قليلا ثم عاد إلى بطن الوحش وانطلق به إلى البعيد..

أصغى النمل الصغير الكثير لحديث كبيرتهم.. كان صوتها كرؤيا عراف تخدش الجدار الذي يفصلهم عن الغد.. لا يعلمون منذ متى وهم في هذه الغابة.. شمس حارقة.. كائنات فظة لا حصر لها تسحقهم في مجيئها وذهابها.. قوت يشح حتى المجاعة في أوقات، ويفيض محفوفا بالخطر في أخرى.. حشرات لا طعام لها إلا أسرابهم، وأخرى تتفقد بيضهم فتلتهمه قبل أن يفقس..

أسلاف عاشوا في زمن غابر اهتدوا إلى أن الهلاك المحقق في بقائهم فوق الأرض.. ورغم أن النبات يبدأ من تحت الأرض و يبزغ صاعدا طلبا للحياة فإن أسلاف النمل الحكيمة قد اتخذت الاتجاه المعاكس.. هبطت تحت وجه الأرض.. حفرت بالعناء طرقا وممرات.. صنعت بالدهاء مسارب وشبكات.. خصصت للبيض مخابئ، وللقوت مخازن.. الغرق تحت الطين ظل حتى اليوم طوق النجاة من الفناء، والغياب في الأعماق لم يزل وسيلة الحضور.. لكن هذه المأساة التاريخية هي التي ضمنت لهم البقاء في كوكب شهد انقراض ديناصورات عاصرها أسلافهم بالفعل.

في البدء لم يفهموا شيئا من حديث الملكة، لكن جموعهم أخذت تتبادل الأزيز والصرير.. تسارعت ذبذبات أهدابهم الطويلة.. ما حقيقة ذلك الكائن العملاق؟ وماذا عساه يريد منهم .. لقد رأوا من نفس جنسهم نمالا أطول وأكبر لكنهم ليسوا بعظمة من تصفه الملكة.. هل يكون من نوع جديد من النمال؟ لكن كيف يحمل القمر فوق رأسه، وكيف يسكن بطن وحش؟

تصاعد ضجيج ألوف النمال الشغالات.. وحش جديد يضاف إلى وحوش الغابة؟ زائر عجيب من غابة بعيدة؟ أم واحد من أبناء نمال عظيمة جاء لينتشلهم من مدافن خوفهم التاريخية.. هل يمكن أن يحيوا فوق وجه الأرض يوما بأمان؟

اندفعت جماهير النمال تتسلق الشجرة العالية.. ترفع أهدابها تتسقط مويجات صوت بعيدة.. من شواشي الشجرة لاح على البعد مشهد جديد.. أضواء، وأذرع حديدية باسقة كأشجار بغير أغصان ولا أوراق.. وحوش تتحرك بعيون مضيئة.. جدار من الحجر في طور البناء.. فوق الشجرة اندلعت أشواق النمال.. لم تكن تفاصيل المشهد واضحة، لكن نمالا رأت أشباحا عملاقة تبينت فيها رأسا وجذعا وبطنا.. ورغم أنهم رأوا كل الأشباح تتحرك على قدمين إلا أنهم ترسموا أهدابا وفقرات.. استحالت بعض الأصوات الغريبة إلى صرير يشبه صريرهم.. وصارت لبعض الروائح غير المفهومة ملامح فيرموناتهم.. نمال أخرى لم تر إلا أشباح كائنات غريبة عن الغابة وما فيها..

توزعت مشاعرهم.. نمال تبكى خوفا، وأخرى فرحا.. هل يمكن أن يحيوا فوق وجه الأرض يوما.. هل تفسح لهم الضفادع و العناكب والسحالى والحشرات لهم مكانا للحياة في نور الشمس .. هل سيأمنون على أقواتهم وبيضهم المخبأ في جوف الأرض.. هل يرتاحون من حمل الأثقال وقطع المسافات وسطوة الخوف يوما.. واذا أمكن ذلك فهل سيكون هنا في ذات الغابة التي لا يعلمون سواها أم هناك وراء الجدار الحجري في مستعمرة أقاربهم الأقوياء.. لم يجد النمل الدؤوب ما يتوجب عليه فعله لكن جموعهم اتفقت على قرار جديد.. في كل ليلة سيزحف الجميع صوب الشجرة الكبيرة.. يعتلون جذعها الضخم شاخصين بأبصارهم صوب حافة الغابة باتجاه المستعمرة الجديدة، ورغم أنهم لاحظوا ارتفاع الجدار الحجري يوما بعد يوم ورغم أن ملكتهم لم تر الكائن الغريب مرة أخرى إلا أنهم لا يزالون على عادتهم اليومية في اعتلاء الشجرة كل ليلة حتى بواكير الصباح.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.