شعر لا ينقذ العالم
كتب دعتني جامعة دوك الأميركية في يناير 2016 لأشارك بندوة حول وضع اللاجئين في العالم العربي، دعتني “كشاعر”، وهو الأمر الذي لم أعتده من قبل. اعتدت أن أُدعى “كطبيب”، وبالأخص كطبيب نفسي. يعني؛ أن أتوقع أسئلة حول “التداخلات” و”العلاج” و”الشفاء”، وعوامل الخطر، ومحفّزات الصمود في النفس البشرية، إلى آخره. أدواتي (الطبنفسية) أعرفها، اختبرتها، غيّرت بها -أو يحلو لي أن أتخيّل أنّي- حيوات بشر كثيرين. بالمقابل، أدواتي الشعرية لا أراها مجدية. ومعالم تأثيرها -إن كان لها أي تأثير- تتبدى كخيط يلفّ قماش كفن ضحية واحدة، في مجزرة من آلاف مؤلفة. ضئيل، تافه، غير مهم.
عجز على كرسي مدولب يجرّه شاعر. ما الذي يمكن للشعر أن يقدّمه للعالم اليوم، ولمَ ذهبت بجعبة تكاد تكون فارغة؟ ورطة حقيقية. قبل أن يحين موعد قراءتي لبعض القصائد، سمعت قصصاً ألفتها، كطبيب، عن قهر إنساني مزمن. عن معاناة مركّبة، وموت بطيء. عن هشام الطفل والشاهد الوحيد على مصرع أبيه ذبحاً، والذي أراد في العيد بندقية كلاشينكوف بدل الدمية. وعن أمّه فاطمة التي دفنت زوجها ونصف أولادها في حلب ونزحت مع النصف الآخر، وماتزال تحاول التأقلم مع عالمها الجديد. عن وعن الكثير من المآسي البشرية. فعلاً أحسست بتفاهة ما أملك تقديمه في تلك اللحظة. ماذا سأقول بعد كل هذا؟ هل حقّاً يغيّر الشعر شيئاً؟
سؤال ملغوم، خبيث، وأكثر تعقيداً مما يبدو على السطح. حاولت أن أستجمع أفكاري وأفصّل تسريبة معينة تقنعني بجدوى وقيمة ما سأقوم بفعله. حسناً، ليس المقصود بالـ”تغيير” هو تغيير الوقائع وتبديل ما حصل من نزف نفسي، إنما -ربما- تغيير تجربة فاطمة الانفعالية تجاه ما حصل. “دعني أشرح…”، طلبت من صديقي الذي كان يستمع لهذياني بكل أدب وصبر ونحن ننتظر الحافلة التي ستقلّنا إلى المطار. “تخيّلْ، هذه الأم التي فقدت أطفالها ونزحت، وهي تعيش يومياً مع موجات من الأفكار السوداء، تلوم الذات، والآخرين، وتوجّه غضبها على كل شيء. أفكارها تمسك بيد المشاعر وتجرّها جرّاً إلى الوعي. لم تسنح الفرصة لفاطمة كي تعالج ذهنياً ما مرّ بها وبعائلتها. عَبَرَت هي وبعض من تبقّى معها إلى برّ الأمان. حدوداً، من قرى وبشر وبلاد. كانت حتى هذه اللحظة تسير “أوتوماتيكيا” مدفوعة بغريزة البقاء. الآن يمكن لحياتها النفسية أن تتجه في محاور مختلفة ومتباينة. هل تجد حيّزاً آمناً لتحاول فيه استيعاب ما حصل، وتلبسه معنى ما؟ هل تجد من يأخذ بيدها لخلق هذا المعنى الجديد؟ قد يكون المعنى المخلوق غير مناسب أول الأمر. فضفاضاً عليها ربما. عباءة واسعة، متهدّلة، تخفي أكثر ممّا تظهر. مع الوقت، تعدّل فاطمة من مقاسات المعنى وتطرّزه بالألوان، والكتابات الحبرية. قلت مستطرداً “هذه التجربة الخاصة في حيّز آمن هو حتماً ما يستطيع الشعر تقديمه”. أن تمسك بورقة أو أن تفتح الموبايل أو جهاز اللابتوب، تأخذ خطوة نحو الوراء، تنظر إلى داخلها، تراقب وتدوّن ما ترى. بلا فلاتر، بلا أحكام. أن تنقل انعكاساتها الداخلية على الورق، هو الكتابة وهو الشعر. بأيّ شكل أو نوع كان. ربما ستحتاج فاطمة لمن يمسك يدها بالتجربة ويساعدها ويشجعها على الكتابة، ولكن النتيجة واحدة. إذا استطاعت أن تطلق ذاك الصوت الذي بداخلها. أن تصغي إليه بتمعّن. أن ترسمه على الورق. تشريح النفس، هو الشعر. أن ترمّم عجينة الذات اللدنة. تخلق جذعاً، تخلق طرفاً، تربّي إلهاً. هو الشعر. أوليست هذه إحدى خصائص العلاج النفسي أيضاً؟
شعر وقراءة وخيالات. في جامعة دوك، غمرني الاحتفاء بالشعر في هذه اللحظة المؤلمة من تاريخنا الإنساني. ربّما ثمة للكلمة مكان وسط العجز المستمر. “ربّما أعيد النظر في رأيي بالسؤال الذي اعتلجني لأشهر!”. قلت ولم أنتبه إلى أنّي حاججت هذه الفكرة بصوت عال وبحماس أمام الصديق الذي حلا له أن يجاملني في هذه الرحلة الباذخة من فتل العضلات والشوارب الذهنية. “من حظي أنك صافي البال هذا المساء” قلت مداعباً قبل أن أصعد حافلة الرحيل وأسمع تعليقه النصف-مشاكس، “فليكتب الجميع شعراً، لعلنا نغيّر العالم”. أردت فعلاً أن أصدّقه، ولكنني رفعت أكتافي محتاراً، وتابعت التحديق في انعكاس جميل، يشبه يداً مفتوحة تمتد نحوي، طبعتها مصابيح الطرق على زجاج الحافلة.