شعر الرؤيا المفترى عليه
صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وضمن إصداراتها النقدية في السرد والقصيد، كتاب “استنطاق الصمت في الشعر والرؤيا” للدكتور فاضل السوداني وفيه يدافع عن شعر الرؤيا في مواجهة الشعر المباشر الذي هو تعبير فج عن السطحية المنتشرة، وتحويل للقصيدة إلى فوتوغرافيا غثة من وجهة نظر المؤلف، فالشعر وُجِدَ للرؤية، والرؤية مكانها الشعر، وإن هذا الشعر الحقيقي الجدير بفخر الانتساب إلى الفن والإبداع يصارع ضد أبوية شعرية مزيفة، هدفها عقلنة الشعر! وهذا بدوره ينتزع الشعر من كينونته الإبداعية، ومن ذاكرته الرؤيوية الكامنة في الحلم واللازمان والاتحاد بالمطلق وميتافيزيقا الخيال.
ويؤكد المؤلف أن هذه المحاولات العابثة هدفها تجريد الشعر من لحظته الإبداعية التي تعتمد على الذاكرة الشعرية الرؤيوية المطلقة، والمؤلف يَصِفُ مطلقي هذه الدعوات بالجهلة ومرضى الاستسهال الثقافي الذين يملؤون حقائبهم بشعر الأيديولوجيا، في تأكيد فاضح على زمن الانحطاط الشعري، وتشويه لتكامل اللحظة الإبداعية، ويؤدي هذا في النهاية إلى تفريغ حياتنا من أحلامها وشاعريتها، وتحويل الشاعر إلى تاجر خرداوات في سوق السقوط الثقافي والحضاري العربي.
زمن الشعر الإبداعي ليس كأيّ زمن، وذلك أن العمل على تهميش تأثيره في الحياة والإنسان لأيّ سبب من الأسباب، يعني سرقة تراث شعر الرؤيا المتراكم تاريخيًا، وما نلمسه من خواء فمصدره خواء روح الإنسان وبالذات الشاعر الرائي، هذا الشاعر الذي إن تخلّى عن مهمته الأساسية التي تمكن في تدمير القبيح السائد، وخلق بصريات جمالية وتذوق جديد للحياة، بشكل يجعلنا ننسى لحظة الغياب المحتّم في ذلك المتربص بنا بين تلافيف وجودنا، ألا وهو الموت.
ويوضح لنا المؤلف أن شعر الرؤيا المتبصّرة هو لحظة إبداعية لتجاوز الشعور بالخوف من الموت والتفكير فيه، وهذا لأن التوتر الجمالي الرؤيوي يخلق هزة روحية وتبصرًا شعريًا لفهم الحياة وتذوقها، فهذا النوع من الشعر هو حلم اليقظة الواعي الذي يُنَوِّعُ الحياة ويُغْنيها ويمنحها موسيقاها الخاصة، ويمنح الإنسان والأشياء ذاكرتهما الشعرية البصرية المطلقة، فعلى الرغم من أن عقلانية عالمنا المعاصر وماديته تنفيان النزعة الخيالية الأسطورية وديناميكية التخيل، مما يصنع شَرَكًا من الالتباس عند أصحاب الشعر غير الرؤيوي، فيؤدي بهم إما إلى التفسير الآلي للواقع أو ترميم مرآته المشوهة، على الرغم من ذلك كله فإن الشعر الرؤيوي ينطلق من ميتافيزيقا الوجود، حتى نستطيع رؤية جوهرنا الإنساني بوضوح، وهذا ما يتيحه لنا شعر الرؤيا الذي هو النقيض من (قصيدة مرآة ترميم الواقع) التي تشوّه وجوهنا فلا نستطيع رؤيتها، ولا نستطيع أن نلمس تلك القسوة التي تغلف حياتنا، فنعيش متقبلين لكل الأوضاع المنتكسة ونغترب عن ذواتنا وحقيقتنا، وتنطمس هويتنا الإنسانية فنصبح أشياءً تسعى إلى امتلاك أشياء لاستهلاك أشياء، ويحكم التشيؤ مصيدته علينا فنهلك.
ويفيض المؤلف في شرحه لمنطلقاته حتى يصل بنا إلى غايته، فالشعر الرؤيوي هو ذلك النوع الإبداعي الذي يخلق أسطورته الخاصة وطقسه الرؤيوي الذي يعتمد على أسرار زمن البعد الرابع، ذلك الزمن الذي ينتج عن ملامسة الأزمنة الثلاثة (الماضي- الحاضر- المستقبل) وتداخلها في لحظة الرؤيا، ينتج زمنًا جديدًا هو الزمن الإبداعي، وإن هذا الشعر هو القادر على جعل حياتنا أكثر إنسانية وأقل عنفًا وتشيؤًا؛ فهو يعيدنا إلى الإيقاع المتناغم للوجود النقي، لأن الشعرية الأسطورية للميتافيزيقا تتعمق وتغتني إبداعيًّا بالذاكرة الشعرية البصرية المطلقة، وتلك هي لحظة الإبداع والتبصر الشعري الرؤيوية الذي يؤثر فينا ونؤثر نحن به.
ويشير المؤلف إلى أن شعرية الرؤية هي الطقس المقدس الخالص الذي يجب علينا ألا نفهمه إلا في إطار كونه شعرًا متعدد المستويات والتأويل، وهو في المقام الأول خمرة صوفية ونشوة ذاتية ثم مجتمعية، نشوة تسري وتؤثّر ليس فقط في وجودنا الميتافيزيقا بل في ذلك المادي المتعين، إن شعر الرؤيا هو اللوجوس الشعري، كلمة الحياة.
يقول المؤلف ما مؤداه “في مثل هذا الشعر يجب عدم السؤال عن المعنى، فالشاعر الرائي لا ينتج معنى، وإنما ينتج شعرية الرؤيا المطلقة التي تصل حد النبوءة أو الوحي الشعري الذي يتغلغل في المسام ويسمو بالأحاسيس والعقل، ويصل إلى الصفاء والديناميكية حتى يقدر على الخلق”، الخلق الإبداعي بالطبع، وهذا الخلق الإبداعي يجعل من النشوة التخيلية والمعرفية والجمالية التي نلمسها لذة للرؤية البصرية، فالشاعر يشدو بقيثارته فتخرج أنغامه بقوة الخلق مشاهد نراها بأبصارنا وأصواتًا نسمعها بآذاننا.
وهذه اللذة البصرية الناتجة عن الخلق الإبداعي والتي يضع المؤلف يدنا عليها لمستها بنفسي في كثير من القصائد الرؤيوية بل والقصص السردية، لدرجة أنني لمستها في مجموعة قصصية للأطفال كتبها المبدع المصري جلال الصياد وعنوانها “سهى وزهرة عباد الشمس” وكنت قد تكلمت في مقالتي عن هذه المجموعة عن المشهدية في كتابة جلال الصياد للطفل، وهذه المشهدية كما يوضح د. فاضل السوداني تجعل من اليسير على المبدع أن يتواصل مع القارئ، وليس أيّ قارئ بالطبع، وإنما القارئ النموذجي المتفاعل، ويتم هذا التواصل دون أن يفسر له المبدع الظواهر والحياة، فليس هناك تفسير؛ لأن التفسير ليس من مهمة الشعر، وإنما مهمته تقديم لغة متكاملة للرؤيا الأسطورية الشعرية الحية لتلامس المشاعر الإنسانية.
وحيث أن الشاعر مسكون بأسطورته الذاتية – كما يقول المؤلف – والتي خلقها لنفسه في ماضيه وحاضره وسوف تبقى معه إلى مستقبله؛ فلهذا قصيدته ذات نسق ودلالات ورموز يمكن أن تتكامل بتأويل تأويله، فهو يؤول، والناقد يؤول تأويله، غير أن الناقد الذي يمكنه أن يفعل ذلك يجب دون شك أن يكون على قدر من البصيرة والذاكرة النقدية النموذجية، فالقصيدة الرؤيوية ليست علامات مقننة؛ بل هي رموز وإشارات رؤية، ولا يفهمها ثم يؤوّلها إلا من هم بتأويل الأحلام عالمون.