شهادات
فننصت إلى صوته
خلدون الشمعة
احتفاؤنا الليلة بالشاعر صلاح فائق بمناسبة بلوغه السبعين يذكرني بـ”سبعون” ميخائيل نعيمة ناسك الشخروب الذي تتصوره ذاكرة جيلنا الجمعية شمسا آفلة أو تقهقرا من الضوء إلى الظل.
ولكن السبعين عاما التي بلغها صديقي العزيز صلاح تشير إلى صورة أخرى، صورة مغايرة تنطبق عليها العبارة السائرة بالإنكليزية “مازال حيا يركل”.
الحقيقة أن صلاح مازال حيا يركل ما يعترضه من عوائق وسدود منذ عقود. يركل بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى.
يصدر الدواوين متنقلا من منفى إلى منفى. يكتب عازفا عن التماس التقييم النقدي أو التقريظ.. عزوف هارب بلا حبال لا يلوي على شيء.
منذ زيارة صلاح لي في مجلة “المعرفة” الدمشقية في أواخر السبعينات، متأبطا “رهائن” مجموعته الشعرية الأولى، وحتى فترة عملنا المشترك في العاصمة البريطانية خلال الثمانينات، ظل الشخصية وشعره يثير في نفسي ما يتعدى الشعور بالدهشة أو الاندهاش.
هو شاعر لا أحد يشبهه ولا يشبه أحدا. اختلافه لا يفسر فقط بالغيرة المتعمدة أو التماهي المقصور بالشعر السوريالي، بل يتميز بممارسة سوريالية عفوية من صنعه الخاص.
هل كان عضوا في جماعة كركوك الأدبية؟ هكذا يردد الأصدقاء العراقيون بلا كلل أو ملل. ولكن ما علاقة صلاح بالمكان أساسا؟ وهل تكفي صدفة الميلاد في كركوك لجعله شبيها بالشاعر سركون بولص الوجه البارز في تلك الجماعة؟
الحال أن صلاح فائق لا يصدر عن مكان محدد بل أمكنة غير محددة. أمكنة هي نتاج عمليات مثاقفة معقدة لا يكفي الكلام عنها الحديث عن التأثر والتأثير.
في حقيبتي قصيدة رحيل.. وهي قصيدة طويلة صدرت بلندن قبل زهاء ربع قرن. سأقرأ عليكم مقطعا من هذه القصيدة التي أثارت ومازالت تثير في نفسي ما يفيض عن الدهشة أو الاندهاش.. قصيدة ربما تصلح للتذكير بأمشاج من منجزه الشعري:
“بينما أتجول في ستراتفورد
أصادف في منعطف، هاملت حائرا
غاضبا يصرخ في المارة:
“أين يسكن شكسبير؟”
أسأله: “لماذا، ماذا ارتكب الرجل؟”
- كيف يجعل أمي زانية، لماذا يسمم أبي؟
كيف يخلق عمي متآمرا، لماذا يقتل أوفيليا؟
لماذا نفاني دائما وأقحمني من مقبرة إلى مقبرة؟
لماذا، لماذا؟
* * *
يمضي صارخا في العابرين
“أين يسكن شكسبير؟”
* * *
بعيدان من إحدى يديه
مسدس قديم يتدلى
* * *
شبح طويل يتبعه صامتا.
هذا الضرب من الأداء الشعري يستحيل الاكتفاء برده إلى مصدر خارجي محدد. بل أرى أنه يتعذر حصره في سياق معنى المثاقفة كتأثر وتأثير كما أشرت قبل قليل.
لن أطيل عليكم، بل أحيلكم إلى صديقي المحتفى به، العزيز صلاح القادم من الفلبين حيث يقيم منذ عقود.
فلننصت لصوته المغاير.
ناقد من سوريا مقيم في لندن
حول العالم في قصيدة
محمد ناصر المولهي
وأنت تقرأ شعر صلاح فائق تحس أنك لا تقرأ قصائد، بل أنت تتهجى منفى متجددا، منفى غريب الملامح، غريبا بكامل أشيائه، بنوارسه وشطآنه، بمبانيه وشوارعه وقواربه ونسائه وحيواناته وسمائه.. الخ.
صلاح فائق شاعر يتعامل مع عالمه في كل طرفة عين بشكل مختلف، فنجده ذلك الشاعر الغريب في كل نصوصه، غريب هو بين كل شيء وكل اسم وبين كل مفردة وأخرى حتى أنه لا يستعمل لها تعريفا.
هنا تتأكد عندنا غربة الشاعر في عالمه ومنفاه، حيث حتى العراق وذكريات الطفولة وما يسترجعه الشاعر لا يحمل تعريفا لا بألف ولام ولا بنعوت ولا بغيره، فقط هو يكتفي بنحت غربته، بسخرية حياتنا، ويقدمها لنا في دهشته التي ينقلها إلى قارئه طازجة كما هي، ودون زخرف أو تجميل، فهو يستخرج الشعر من كل شيء، هذا ما يجعلنا إزاء قصائد برية، تحفّزنا على اكتشاف عالم الشاعر مع الشاعر نفسه، هذا الشاعر الذي لا يقدم لنا حقائق أو وصايا، فهو ليس وصيّا على قارئه، هذا الشاعر الذي لا يرشدنا ولا يجرنا خلفه قائدا نصه، بل يجعلنا معه في نفس الخط حيث يصطف هو وقارئه ونصه ثلاثتهم معا يتحركون في فضاء عوالم غريبة حتى وإن كانت أليفة، ففائق يجعل من كل تفصيل وكل مكون من هذا العالم محل شك وريبة، محل جمالية ما ودعوة إلى تفكيكه وإعادة تركيبه مع عناصر أخرى كأن يدمج جبلا ببحر أو سفينة بشجرة..
لا يفكر صلاح فائق كثيرا في بناء قصائده، بل قصائده تبدأ فقط دون أن تنتهي، تبدأ من تفصيل بسيط من حياة الشاعر، لتذهب إلى أبعد ما يمكنها في تهجي تفاصيل أخرى تنشئ من خلالها مبنى لعالم يبدو للوهلة الأولى اعتباطيا وفوضويا، ولكنه متسق برؤية الشاعر وحدها، تلك التي نلهث خلفها بلذة الاستكشاف والكشف عن الشعر الكامن في أبسط العناصر وأكثرها اعتيادية.
ولعل تعويل صلاح فائق على بنية المقاطع في نصوصه هو بمثابة محطات لقارئه لإعادة التفكر فيما مر به من أسطر شعرية، أو هي راحة من اللهاث خلف سحر الصورة، والصورة التي يشكلها لا تعتمد على بلاغة أو إضافة شعرية أو نعوت، صورته مشاهد تكونها أسماء نحيفة متجردة من كل ما يثقلها من زيادات لغوية، لذلك تطير بنا لنتفاعل مع نصه، نص الشاعر كائن حي يمكنك الانجذاب إليه، يمكنك الانبهار به، يمكنك كرهه، يمكنك محاولة معانقته والطبطبة على ظهره، أو الانزعاج منه ومحاولة خنقه. ولا نجد نجاعة لشاعر أرقى من أن تجعل من القصيدة كائنا له ذاته وصفاته، له إنسانيته هو الآخر. وهو في ذلك يسعى أن تكون نصوصه صادقة إلى أقصى درجات صدقها، منطلقة من الواقع ومن الأنا، لكنها ليست الأنا المركزية المعتادة تلك التي يتمحور حولها العالم، يستلهم من كل تفاصيل حياته بجرأة عالية ليقدم لنا ذاته كما هي، بانيا جسر ثقة وتواصل مع قارئه أينما كان، إذ لا يخفي عنه شيئا تقريبا، وبهذا يتمكن فائق من إمساك يد أي قارئ في أي مكان من هذا العالم ليمشيا معا انطلاقا من المنفى إلى الطفولة والعراق المريض، إلى الوطن العربي وكل أصقاع الأرض ومساحة السماء. إنه يمشي مع قارئه حول العالم في قصيدة.
صلاح فائق كما أثبتنا شاعر يحمل منفى دائما بكلماته، هو في قصائده غريب كما قلنا، قاس في أحيان كثيرة، مستهتر بعمق، هو الشاعر الساخر من كل شيء من عالم المادة، من الصباحات التي تزف العمال إلى التعب، ساخر من المدن والقرى من الزيف الإنساني ومن الحرب، ضاربا عرض الحائط بالنظم الأخلاقية والقوانين التي لا تطبق إلا على الضعفاء. لكن كل هذا لا يجعل منه تلك الشخصية الباردة التي تتقن أن تكون حوذيا للكلمات ومن خلفها القراء بصمت إلى لذة المجهول، بل هو يحمل رهانا جماليا لإنسان عراقي، عربي، كوني.. إنسان يريد أن يكون أكثر إنسانية.
شاعر من تونس
شاعر يواجه المنافي بالسخرية
هيثم حسين
يحمل الشاعر العراقيّ صلاح فائق منفاه المديد معه، يرتحل في عوالم قصائده، من قصيدة إلى أخرى، كأنّما يرتحل من جزيرة إلى أخرى، سلسلة من المنافي يحاول تبديدها بالقصائد، يستعين بالشعر قلعته الأولى والأخيرة، يرسم بقصائده جزءاً ممّا فقده، وأجزاء ممّا حلم به، ليكمل دائرة الوجود التي وجد نفسه دائراً في فلكها.
استعاد صلاح فائق في الأمسية التي أقامتها مجلّة “الجديد” في لندن احتفاء بتجربته الشعريّة، في الثاني عشر من شهر فبراير، لقطات من الذاكرة، استذكر جوانب من حياته السابقة قبل الخروج من العراق، وكيف كان يتمّ التضييق على الأدباء والشعراء في ظلّ نظام كان يمهّد لتوطيد سلطته الاستبدادية، من خلال الفتك بمعارضيه أو المختلفين معه بالرأي.
عاد فائق إلى كركوك، لم تفارقه مشاهد الزمن الكركوكيّ الجميل، ذاك الموزاييك الاجتماعيّ والعرقيّ المتعدّد المتعايش في المدينة التي خرّجت عشرات الشعراء البارزين. استذكر بعض القصص مع أصدقاء الشعر والمنفى والاغتراب، كالشاعر الراحل سركون بولص، وكيف أنّه يظلّ الأثير في شعره والمتميّز في حضوره رغم الغياب.
أهدى فائق قصيدة في مجموعته الأخيرة “غيمة في غرفة الضيوف” التي أصدرتها مجلّة “الجديد” ككتاب مرفق مع العدد الأول لها، إلى الصديق الراحل الشاعر سركون بولص بعنوان “سلاماً سركون بولص”، وكعادته في المناجاة يمزج الأزمنة والشخوص والكائنات لينتج قصيدته المختلفة، بعيداً عن تلك الحالة الرثائيّة الاستصراخيّة، ذلك أنّ تظهيره لصور الحزن لا ينقاد وراء التوصيف الدارج والتباكي المفتعل.
من العراق إلى دمشق إلى لندن إلى الفلبين، مروراً بعدّة محطّات أخرى، أكّد صلاح فائق أنّه اعتاد الاغتراب لدرجة لم يعد يشعر بالغربة، ذلك أنّه عاش خارج بلده زمناً أطول ممّا عاشه داخله، ورغم ذلك ترى قصائده مرتبطة بتلك اللحظة المنبثقة من مهد الطفولة المستباحة في بلد يخوض حروباً ضدّ نفسه ويودي بأبنائه في رحلة القهر والاحتراب اللامنتهية.
فصول مؤلمة استرجعها الشاعر المنعتق من إسار الهويّات الضيّقة، المنفتح على هويّته الشعريّة العالميّة، تبدّى عليه أنّه روّض وحش الغربة بالسخرية، وواجه ضغط الحياة وأرقها بالعبث، فتراه يحرص على الاهتمام بتفاصيل صغيرة في حياته، يوليها عنايته الكبرى، لتصبح شغله الشاغل في حلّه وترحاله، كأن يركّز على علاقته الوطيدة مع كلبه، وحنينه إليه، وذلك بالتوازي مع استحضار صور وكائنات مختلفة من عالمه الفلبيني الراهن، ومن ذاكرته العائدة إلى وهاد كركوك وبغداد.
السخرية لدى صلاح مقترنة بالرغبة في إبراز عبثيّة الزمن، سخرية الشاهد على كثير من المفارقات والمرارات والوقائع والأحداث، وكيف أنّها توصله إلى نوع من الراحة، بعيداً عن المواساة أو التأسّي، سخرية المقتنع بسخريته، الرافض لأيّ تهافت.
عدد من الشعراء احتفوا بصلاح فائق، فقد شارك في الأمسية التي قدّمها الدكتور خلدون الشمعة كلّ من الشعراء: لميا المقدّم، خزعل الماجدي، فاروق يوسف، سلام سرحان، بالإضافة إلى قراءة صلاح لبعض قصائده من مجموعات مختلفة، تشكّل بنيان عمارته الشعريّة التي بلغت ستّاً وعشرين مجموعة حتّى الآن.
الشاعر السبعينيّ صلاح فائق ما يزال يحتفظ بروحه المرحة، وكأنّ الزمن يسبغ عليه مزيداً من الطفولة والبراءة في التعاطي مع العالم، وتقبّل الهزائم الحياتيّة بروح رياضيّة، كأنّها لم تكن، أو كأنّها تعود لآخرين، حيث يفقدها سطوتها وقدرتها على إنهاك روحه وجسده.
حيتان وعقارب وأرانب وأسماك، ألغاز ورموز وشخوص حاضرة في قصائد صلاح فائق، وفي حديثه وكلامه، يعيش الشعر حياة، بعيداً عن الضجيج، فعزلة الشاعر على شواطئ جزيرة فلبينيّة تبدو خطّ دفاع عن روح الشعر وجذوة القصيدة.
كاتب من سوريا مقيم في ليدز/بريطانيا