شِعِّرية النصّ ودَلالَة اَلْمَعْنَى
يأتي ديوان “بيت المشاغبات” الأخير الصَّادر عن دار أوراق بالقاهرة 2014؛ بعد صدور الدواوين الشِّعرية (يسقطون وراء الغبار – 2003، كلما في السر أطفأنا القناديل 2011، تحت لهاة الشمس مختارات شعرية سودانية)، للشَّاعر السوداني نصّار الحاج الذي يعدّ أحد الأصوات الشِّعرية البارِزة في المشهدي الشعري السوداني والعربي.
يصدر هذا الديوان لشاعر يدخل في عداد الشُّعراء الذين يُؤثرن العزلة والبُعد عن نجومية المنابر؛ بينما تتألق نصوصهم الشعرية المقروءة برؤيتها الجَماليِّة الجاذبة. بالإضافة إلى حضوره القَويّ في المشهد الشعري السوداني وإسهاماته بالنشر في الصحف والمدونات الأدبية الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي التفاعلية ومشاركاته في منتديات عديدة في الداخل والخارج. كما أنَّ لديه مساهمة في السّرد القصصي بإعداده كتاب “غابة صغيرة.. مختارات من القصة السودانية” (2009). وبهذه الممارسة الإبداعيِّة النشِطة وما رَاكمه الشاعر من خبرة في حقول إبداعية شتى، يفترض التأمل أو القراءة أو المقاربة في هذا الديوان المنبثق عن تجربة تقتضي فيما تقتضي رَويِّة وإمعَانا في القراءة الفَاحِصة لاستيعاب أبعاد منظومته الجمالية وأنساقه اللُّغَويّة وتَشكِيله الإبداعي.
الشِّعر والشِّعرية
يُضّم هذا الديوان بعنوانه المثير “بيت المشاغبات” عدداً من القصائد والمقاطع الشعِّرية تنطق ببلاغة الكلمات وإيحاءات اللغة لشاعرٍ يدرك المعاني متتبعاً آفاقها الشعرية بما تحتمله المفردة الشعَّرية ولوازمها التي تمنح المفردة اللغوية أو النصَّ الشعري ضرورته الشعرية أو ما يطلق عليه اللغوي المرزوقي في نسق عِيَار اللَّفظ بأن اللفظة تُستكرم بانفرادها. إنها تلك الشعرية التي تميِّز بين القول والنثر والشعر، وعادة ما تنبع عن موهِّبة الشعر نفسها كما ينبغي أن تفهم في المكوّن الشعري من حيث أنه نبوغ فطري غير مكتسب، وتجعل منه نصاً شعرياً له قوة التأثير وتوظيف اللغة لا تقليدها صناعة بصياغة تراكيبِّها البنيوية لتأخذ من اللغة شعريتها (Poeticism) في سياقها التداولي، ومن المفردة اللغوية طاقتها التعبيرية. وبغير جدل القصيدة العربية في بنيتها الشكلية بين أن تكون على الطريقة التقليدية أو اَلتَّفْعِيلَة؛ قصيدة النثر أو – ومؤخراً – الشعر الحرّ.
وتظلّ الشعرية كَامِنة في المنطوق الشعري وفي أيّ بنية شعرية تشكَّل القصيدة في زخم التشكلات اللغوية الأخرى. إن شعرية الشاعر نصَّار تنتمي بالضرورة إلى مجال الكتابة الشعري في حداثته الابتداعية شكلاً ومضموناً وتأخذ بما تستدركه التجربة الشعرية بمقدار ما تختبره التجربة الفنية في عُروجهَا نحو الإبداع. ثُمَّ إن الشعرية ليست حالة سُكُونِيَّة ينتهي مفعولها التَّعرِيفِيّ داخل أسلوبها الأصولي الموروث ولكن تُعَمِّم نَمطهَا الأسلوبي على متن النصوص الإبداعية وكما قاربها الشاعر والمُفكِّر أدونيس بقوله عن الشعرية “كانت شعرية الحداثة تتخطى النموذجية والمرجعية وتتحرك في أفق التَّوكِيد على الغرابة والتفرد، والإبداع البادئ مما يجدد باستمرار صورة الأشياء، وعلاقة الإنسان، ويجدد أيضاً طرق استخدام اللغة، وطرق الكتابة الشعرية”.
يَحتلُّ الشعر كغيره من أنشطة إنسانية ذات طبيعة جماليِّة وانفعالية عاطفية موقعه الاستثنائي الذي يعبِّر أو يطرح الشاعر من خلاله رؤيته – موقف الشاعر – الجمالي الناشئ عن صراع تشكله كلمات أو مَحض مفردات لغوية مجردة وحسب والكلمة من معانيها القصيدة في العربية؛ لكنها تصدر عن ذات واعية لمحيطها في تفاعلاته الكونية والإنسانية. والشاعر نصّار من خلال تجربته الشعرية الممتدة كانت مشاهداته الشعرية تحمل صوراً تنطلق منها العلامة الشعرية تزيد المعنى تفسيراً بما يستدعيِه مَنْطِق الشعر ومعاييره التي تجدَّد في اللغة وتوازِن بين تفاعلاته التي تُفضِي إلى تأسيس القَول الشعري. وهذا ربما قَادَ إلى التوقف عند مفردات الديوان التي شيِّدت معمار قصائده (المعجم الشعري) بدءاً من عناوين مقاطعه الشعرية إلى توظيفه الواسع لحركة الزَّمن وعناصره في عناوين قصائد الديوان “الوقت الذي يشبهك”، “أصوات الليل”، “يخيط جلبابا في الشتاء”، “إشارات”، “أيام”، “عبور”… الخ). ولم ترد كمفردات لفَظية وصفية (Descriptive) أو رموزاً تستعيرها اللغة الشعرية من موروث المُدونة الشعرية وموضوعاتها، ولكن في سياق ما تُنفِذه القصيدة ويُفهم من هذه الإشارات بتحليل صورها المجازية وإحالاتها الشعورية التي تُخاطب في علاقتها البلاغيِّة صوراً مُتخيِّلة لها مبتغاها الوجداني. ففي إحدى مقاطع القصائد (أصوات الليل الاخيرة): يأتي الليل كأحد الصُّور الرمزِية في أبيات (الأنثى):
في كلِّ فَجر تُطلُّ من باب الحياةِ
عائلاتٌ تَزرع النَّاسَ في سهولِ الأرضِ
كائناتٌ تسيرُ في بَرَارِي الكونِ
أَصْدِقَاء
وصدِيقاتٌ
يحرثون الجِبال بأحاديثِ اللَّيلِ.
الصور والدلالة
هذه الصورة الشعرية الواردة في السطور أعلاه، إذا حُللت لغويًا تعطي حيزاً تتشارك فيه بصياغة متسلسلة لوحدات ظاهرة الليل (الفجر، الحياة، الأرض، الكون). وبمعنى من القول، ترحّل المفردة اللغوية المُجَّردة أو المجُسَّدة (لَيْل) إلى النص الشعري لا يغير في طبيعتها الوصفية، وإنما ينزعُ عنها غطائها الاستعاري وربما تجاوز ذلك إلى نزع سحرها (Disenchantment) ومن ثُمَّ ترحيلها إلى سياق جديد يستوعب حساسيتها المُكتسبة والمضافة إلى بنية القصيدة. وتستمدُّ شعرية الشاعر نصّار من استخدام للصُّور الدلاليّة في وضوح المعني الذي تؤوله المفردات المستخدمة أو ما يعرف بالدلالات الصورية (Formal Semantics) ويستتبع ذلك استنساخ المعني الذي تَّم استنساخه على مدى ما يتسع الحقل الدلالي للمركبات الصورية. وبهذا المعنى لا تكون الشعرية إلا ما تحمله قصائده وتجسَّده من مستوى اللغة والأسلوب والتخييل والإيقاع وهي محتويِّات تتفاوت فيها الإبانة اللغوية والإفصاح في تركيب أو نَظم القصيدة وتكشف عن تعدِّد كثيف لتوظيف المفردة اللغوية وزيادة فاعليتها في النص الشعري. يصمدُ النفس الشعري على تماسكٍ تستدعيه حدَّة التركيز على تَواتُر القراءة التي توقظ مكنونات الذائقة الشعرية حين نقرأ مثلا في ديوانه (كلما في السر أطفأنا القناديل)، حيث تظل أداة الشرط (كُلما) الظَرفيِّة في مفتتح قصائد الديوان على مدى أبيات القصيدة، ويدل هذا الابتداء بالمفردة – الكلمة المفتاحية – الذي يتكرر دون أن يَمحو عن النصوص شاعريتها، وربّما كانت دليلًا ينهض على قدرة الشاعر على الإجادة والتكيِف اللغوي في النسق الشعري المتفرد مُمسكاً بسِحره وغَرَابَتهِ بالتعبير البياني القدِّيم لتشكّيل هذا اَلنَّسِيج:
كُلَّمَا
فَتَحْتُ بيتًا للشَّيَاطينِ
أيْقَظَتْ قَنَاديلَ خَوْفِهَا
وَمَشَتْ تَفْتَحُ بَوَّاباتِ الْهُرُوبْ.
ويستمر إلى آخر مقاطع الديوان كما في قصيدة “لذَّة قالتها فاكهة السماء”:
كُلَّمَا
الْتَقَيْنَا صُدْفَةً
عَلَى شبَّاكِ الْلَّيْلِ
في مَدَارِجِ الدُّخُولِ
عِنْدَ صَالَةِ الْفُنْدُقِ الصَّغيرِ
تَطيرُ مِنْ مَكَانِهَا
تَغيبُ في بَدَاوَةِ الْقُرَى
خَلْفَ عَتْمَةِ السَّتَائرِ الْمُلَوَّنَة
تُلَمْلِمُ اِرْتِعَاشَةً مُرَاهِقَة.
وتمضي قصائد الديوان في مسردِها المُتصاعد يحكمه مطلع متحكم به مكوّناً معجماً شعريًا يَغُوص في تَلَافِيفِ أوزان القصائد (التفعيلة)؛ لا تَنْحصِر على تحليل المستوى المُجمعي الذي ساد على النقدية العربية الشعرية منها على وجه الخصوص؛ وبما أنَّه اتجاه فِيلُولوجيّ (Philology) كِلاسِيكِي في التحليِّل النقدي لكن لا غني عنه في نقد وموازنة الشعر. ومن وجهة أخرى ثمة ظلالاً أيديولوجية كثيفة ضيّقت على المفردات اللغوية في إحالاتها الشعرية في القصيدة العربية في فترة ما؛ وبالتالي قيّدت الشعر في دائرة القضايا لا الإبداع. ولأن الشاعر نصَّار لا تقيِّده أيديولوجية مُسبَقة – على الأقل فيما تنطقُ به أشعاره – فقد تجرَّد قاموسه الشعري من ثِقْل حمولات الأيديولوجيا وتعقيداتها اللفظية الخطابية المنُمَّقة التي تؤثر الغموض إغراقاً في الإيهام أو بمعنى الكلمة المُشكِّل في دلالات نقَّاد الشعر القدماء. والأيديولوجيا غير الموقف وإن فَسَّرته تيارات نقدية عدة وخاصة الغربية منها في دائرتها ذلك بأن كل أدب ينطّوِي على موقف وهو ضمنياً (أيديولوجيا). فجاءت كلمات قصائد الديوان موحية لا في بساطتها وقُرب معناها بل في جوهر ماهيتها الشعرية في نسق الاستخدام اللغوي، ولعل هذا ما يقرب فَهم البياني الكبير الجَاحِظ في صناعة الشعر بقوله “إنما الشعر صناعة وضرب النسيج، وجنس من التصوير”، ويزيد عليه في الفهم بالتعبير الحديث الشاعر والناقد الإنجليزي ت. س إليوت الوصول إلى حدود الوعي بمنظوم الكلمات. وهو ما يُجمل القول بأن تركيب اللغة ووجودها يلزم التعبير بها وفق السياق حسب علم (linguistics) اللغة. ونجد أن التنويعات في الديوان – تعدد الأساليب الكتابية – جعلت من النص الشعري أداة متعددة المهام مُحققة لوظائف المستويات المنجزة على المتن الشعري راسماً رؤية كلية (Weltanschauung)، رؤيا العالم ومن هنا تأتي مقامات الشعر بين مستويات المنظومات المعرفية الإنسانية الأخرى كما يرى أرسطو في البويطيقا (فن الشعر): كان الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبة من التاريخ لأن الشعر أميل إلى قول الكليِّات. ومن هنا كان العثور على قضايا عديدة تناولتها قصائد الديوان بما استدعته من صور ومشاهدات تحتفي بالحياة والأشياء برؤية الإنسان عبر انزِياحَات تراكيب القصائد ومقاطعها الشعرية مُستمدة من مخزونٍ لغُوي يسنده استقصاء معرفي مُتبصِر أتاحَ للشاعر استخدام الأساليب المختلفة في إنشاء النص الشعري. ففي قصيدة “بحبرٍ مغشوشٍ وقلمٍ مُدَبَّبٍ وسميك” بمقاطعها المُرقمة بأربعة عشر مقطعاً تتبادل فيها الصور السردية متُخَمة بتفاصيلها متساوقة مع نظم شعري منساب مع صوتٍ موسيقى قوي كاشفاً عن قدرة في ابتداع التشكيل الجمالي؛ ففي المقطع الـ5 نقرأ:
الذاكرة مُتْعَبَةٌ جداً
ضلَّلَتْها الطائرات التي عبرت سحائب الخريف
ومشت على أسلاكِها
صافراتُ الإنذار التي أطلقتها ماشيةُ الليلِ في حاراتِ أم درمان.
التشكيل التكويني للديوان مع تماسك تنسيقه البنائي لم يخل من طرائق تقنية في الكتابة بما فيها استخدام موتيفات بفكرتها الواضحة في صورتها الشعرية (Photopoetry) الفوتوغرافية إذا جاز التعبير. ومن المفارقات أن في أحد عناوين القصائد نعثر على قصيدة فينوس التي استخدم فيها الشاعر الرَّسم اللاتيني (Venus) عنواناً للقصيدة لإلهة الحب والجمال لدى الرومان مع شيوع الاسم المُعَرَّب!
التجربة الشعرية
في تجرِّبة نصار الحاج الشعرية الممتدَّة والمُنجزة في هذا الديوان “بيت المشاغبات” يُكون النص الشعري ما يمكن أن يوصف برؤية مفتوحة دائماً على التجاوز بالاستزادة من المعرفة الواسعة التي لا يغادرها التساؤل المتصل عبر خطاب شعري متماسك سرداً ونظماً بقوة فاعليته الشعرية؛ وإن تكن التجربة الشعرية عادة ما تسبق إصدار الدواوين فهي مستقرة والديوان مستودع يختزِن التجربة كتابة. ولكن ما انتهى إليه النصُّ أو القصائد الشعرية في الدواوين يمثل بضرورة تطور التجربة الشعرية، أو تتويجًا لما بلغته تجربة الشَّاعر. ونصّار من جيل من الشعراء تكونت تجربتهم وتكوينهم المعرفي تحت تأثير مؤثرات حدثت في الفضاء الشعري العربي ولو تقتصر على كتابة الشعر وأساليبه وإنما امتدَّ هذا التأثير إلى كيفية صياغة النص الشعري كقصيدة تنتمي إلى تقاليد الشعر العربي كما استودعته الموروثات الشعرية تحمل إيقاعها وتخالف موضوعاتها كهموم الشَّاعر وقضاياه موضوعات قصائده وغيرها من قضايا طالت بنية منظومة الشعر العربي. وهو ما أفاضت فيه الشروحات النقدية العربية في مواجهة حداثة موجة الشعر وتياراته في المنظومة الإبداعية العربية. فإذا كان جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في السودان – جيل الشاعر – الذي ضمَّ طائفة من شعراء السودان: عصام رجب وعاطف خيري وبابكر الوسيلة والصادق الرضي وغيرهم ممن جاءت نصوصهم الشعرية بتطور لم يكن معهوداً لأسلافهم تحت تأثيرات معرفية وثقافية جديدة تَغلْغَلت في عمق دلالات المعاني ونفذت إنتاجًا شعرياً مستجيباً لمفاهيم الشعر العربي الحديث ومفاهيمه الحداثية.
وفي هذا الديوان وربما ديوانيه السابقين، يُمكن قراءة أو مقاربة الشعر على نحوٍ نقدي نصوصاً شعرية تمتلئ سردية صورية (Narrative Imagery) حدَّدتها ماكنة الشاعر في خلق سردية شعرية احتوتها ثلاثة وخمسون مقطعا وقصيدة. ومما يشار إليه أيضا أن ديوان الشاعر وأيّ شاعر يمثل حركة تعاقبية لتجربته، فقد تتوهَّج النصوص أو تخبو بما أنها تجربة مُتصاعدة في مسيرة الشاعر المتصلة مهما تباعدت شُقة المسافة بين كتابة الجديد أو التوقف عن الكتابة ومن ثًمَّ المعاودة. ولكن اللافت في هذا الديوان “بيت المشاغبات” أن النص الشعري وخاصة في القصيدتين الأوليين حيث تجرؤ المحاولة الشعرية ههنا إلى دَمج النثر (قصيدة النثر) كلاحقة تذييل أو تتوسط القصائد. وبمعنى ما فإن هذه التقنية من الكتابة – على صعوبتها – أمكن للشاعر أن يسوّق عباراتها دون إغراق لفظي ونفيًا للمعنى عن النصِّ الشعري، بل حافظ الفضاء الشعري عليها بتفعيل ما يعرف بآليات المجاز الشعري والدلالات اللغوية لقراءة لها قابليِّة ثنائية يكونها نصَّان أو حالتا شعر بين نمطَين مُركبين حركة شعرية تفصح عن القصيدة. والمراجعة النقدية لقصيدة النثر أو الشعر الحُّر (Free Verse) قد تجاوزت قراءات لحظات انفجارها في خمسينات القرن الماضي وما أثاره من صخب لَاجِب منذ كتاب الناقدة والمنظرة الأدبية الفرنسية سوزان برنار “قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن” الذي تداولته الشعرية العربية. وما يعنينا ههنا كيف تعامل الشاعر أو نصه الشعري في خضم مغامراته اللغوية بين النص والجملة والبيت والقصيدة.
المحاولة والتجريب
تتجلي المحاولة النثرية في قصيدة “الوقت الذي يشبهك” أولى قصائد الديوان حيث اِقْتحَمتْ فضاءها الشعري متحدِّرة عن أفق شعري مُحصِّن بمرجعيته الشعرية القاعدية. ولكن ما يلبث النص الشعري أن تنبثق عنه بعد أبيات قليلة نثراً منظوماً يأتي كاستدلال (Demonstration) منطقي تُثبتُ به القصيدة وزنها المتعدَّد في خفاء الكلمات واستئنافاً للفِعل الشعري. ونسق هذه القصيدة باستثناءاته التركيبية يتكَّون فيها مصدران: مقاطع شعرية تفعيلية على معهود الكتابة الشعرية، وقطع نثريِّة تَنبَثقُ عن الوزن المُضمر في كلمات القصيدة ومعانيها. وتأخذ هذه القصيدة بتوليفها النظمي حيزاً مُمتدّا على مساحة الديوان مقتطعة ثلاث عشرة صفحة من صفحات الديوان من القطع الصغير، والانتقال الذي يُحدِثه وقع المفردات ما بين القصيدة ثّم النثر ثم القصيدة وهكذا؛ وتمدّد هذه المسافة أو التداخل البيِني المتحّول عن البنى النظمية ليست مِسَاحة رَمادِية غامضة تُحيل بين معيارين من التدفق الشعري ولكن قوالب صياغيِّة. فالتمعُّن في خطوط القصيدة “الوقت الذي يشبهك” يتضح أن النثر يأتي بنزوع شعري قوي يماثل انفعالات القصيدة:
عَبَرْنَا جسرَ الغيابِ
في اللحظةِ الأخيرةِ من صريرِ الورقةِ
كَانَتْ المحابرُ
في ذلكَ الوقتِ من منتصفِ النَّهارِ
تهذِّبُ الحبرَ والطاولةَ والمفرداتِ
بشاهقِ الكلامِ اللّطيفِ
الكونُ على شُرفةِ الوقتِ
يلوِّنُ الشِّفاهَ بذاكرةِ الشَّجرِ
الشجرُ ملاءةُ الظِّلِ
وطاردُ الظّهيرةِ من شوارعِ النّهارِ.
تَّتوحد هذه الدلالات وشواهدها بإضافة مُخصَّبة في النصِّ النثري الآتي:
“في هذا الوقتِ الرّهيفِ من صهيلِ الأغنياتِ، ثَمَّةَ شيء يَحْدُثُ دونَ رغبةٍ يا سيِّدتي. الرُّعاةُ في حقلِ العملِ يزرعونَ وقتَكِ بإرهاقاتٍ كثيرةٍ. الغرباءُ على النّافذةِ يزيحونَ الستائرَ ويتسللونَ إلى أنفاقِ المكانِ. الليلُ يهربُ من خيمتِهِ. السائقُ يَطْرُقُ البابَ بعنفٍ. كلُّهم يذبحونَ ضحكةَ الطفولةِ وهي تنمو بعنايةٍ في هذا الوقت من أولِ الفجرِ”.
إبداع متجاوز
أنتج مزيج هذه النصوص بثرائه اللفظي واستقامة تعبيراته غير الشكليّة وصفاً شعرياً تكاملت فيه الرؤية الشعرية مع الوصف السردي وإن اختلفت مواضعات الوصف تجسيداً وتجرداً بين “في ذلكَ الوقتِ من منتصفِ النَّهارِ” في موزون الشعر إلى “الليلُ يهربُ من خيمتِهِ” في النص النثري، ولا يعني بحال استبدالًا لنص أو مفارقة للمتن الشعري بل استفاضة في الكشف. وهذا الضَرب من الكتابة الشعرية يتأسّس على مرجعيات لغوية مُسندة إلى الإيقاع الشعري في كل من النصيِّن الشّعِريِين (شعر التفعيلة/النثر) إلا أن هذا التحقّق الشعري رهَيِن باستقراء الشاعر بلاغة الكلمات نثراً وتفعليها شعرًا، وليس مطابقة حَرفية لوقع الكلمات. وفي استدراكاتها اللغوية قالت قصيدة “الوقت الذي يشبهك” موضوعاتها الشعرية ليس اقتصاراً على فخامة الكلمات وتعاليها اللغوي بل قدَّمت صورة اتسعت فيها المعاني كما الرؤيا، حمَّلها الشاعر باليومي والتخييليّ والوجداني؛ تعكس رؤية الواقع بتحوِيل الانفعالات والمشاعر إلى مُركَّب جديد في عملية تَخلُّق ذَّاتي تُشكِّله جذوة الكلمات بِحَذَاقةِ الشاعر، مُنتج النص.
وبعد، فإذا كان ديوان الشاعر مسَارا متصلا لتجربة الشاعر لا يقول الكلمة النهائية في تجربته الشعِّرية بقدر ما يحيل إلى آفاق تتصل بعالمه الشعري وما أبرزته المقاطّع والقصائد التي تداعت في بحور أوزانها الشعرية وفق اختيارات الشاعر. وما يجدر أن يشار إليه أن ديوان “بيت المشاغبات” قد صدر قبل سنوات مضت يكون بعدها الشاعر قد أنجز الجديد استئنافاً لمسار إبداعي لا يتوقف. يُمثل صدور الديوان ترَاكماً لتجربة إبداعية خاضها الشاعر بتفرد بما تبدى فيها من محاولة مستميتة إلى التجاوز بكل ما يعنيه التجاوز في المعنى الشعري وما تطرحه من رؤى شعرية تقدِّم تفسيراتٍ وشروحات ليس أقلها مأزق وسؤال الوجود نفسه ببصيرة الشعر كما تستكشفه كلماته في مدارها الشعري المتسع. ولا يكاد النفس الشعري شكلاً ومضمونا يفارق أو يختلف عن مُجمل مشروعه الشعري عن دواوينه السابقة. وتبقى المقَاربة النقدية وحدها لا تفصل في التجربة الشعرية اعتماداً على نظريات وفرضيِّات منهجيِّة دون أن يمنحها النصُّ الشعري مُعينَات تفي بالعملية النقدية باستجابته للتحليل النقدي وهو يكون مقياسه الإبداعي متزامِنة وقوالبه الصِّياغيِّة ذات معايير شعرية تحتوي مفرداته وتحرِّك أدواته. وكما لا يمكن للمحاولة النقدية أيضاً عبر القراءة العابرة أن تختزل تجربة شعرية كاملة من خلال ديوان أو حزمة نصوص شعرية وإلا كان تقويضاً للمنهجية المتُبعة في القراءة نفسها، ولكنها محاولة تضيء إحدى علامات التجربة الشعرية من زاوية قد لا يتاح من خلالها رؤية المشهد الشعري الذي يقدمه الشاعر مكتملا.