صبي في السابعة

الخميس 2016/09/01
لوحة: محمد عرابي

أتذكر ذلك الصبي وهو في عامه السابع. أتذكر نهوضه باكرا بفرح يشوبه قلق العودة إلى المدرسة بعد عطلة الصيف. أتذكر ملابسه الجديدة والمئزر بكميه الطويلين والبطاقة التي تحمل بياناته والمشدودة إلى قلبه بمشبك الأم. أتذكر إصراره بأن تصطحبه جدته في أول أيامه كما فعلت في العام الماضي، عامه الأول في المدرسة. أتذكر خيبته وهو يكتشف أن معلمه لهذه السنة كبير السن وتتدلى كرشه أمامه وهو غير ذلك اليافع والطويل الذي يحبه.

في ذلك اليوم ولما يدق جرس الفترة الصباحية، يغادر التلاميذ مقاعدهم. ويوَّجه الصبي مع أقرانه في طابور نحو باب آخر يقع في غير ذلك الجانب الذي اعتاد الخروج منه ومن خلاله رسم طريق العودة إلى البيت. يتملكه بسبب ذلك الجزع ويشعر بالارتباك. وفي الخارج ووسط فوضى عارمة يفقد حدسه بالمكان، ولا يعرف كيف يعود إلى المنزل. وغير مخير استسلم للحشود تدفع به إلى الأمام.

كان يعرف أنه ليس بعيدا عن بيتهم. ورأى أن يمشي قليلا فقد يجد ما يهتدي به. وسار على غير هدى مسافة معينة ثم أدرك أنه عليه أن يتوقف حتى لا يتورط أكثر في الاتجاه الخاطئ. وللحظة تأمل ما حوله. كان كمن ولج ثقبا أسود فقد وجد نفسه في مكان آخر من العالم تحيط به عمارات ضخمة وطويلة تشبه العمالقة راحت تسد الأرض والسماء. والفضاء من حوله أضيق من زنزانة، بينما كل الطرق متشابهة، فلا يعرف أيها يسلك؟

لاحقا يرى الصبي أنه ضائع، ومع ذلك يحاول أن يضبط انفعالاته ويسيطر على نفسه. كذلك يكبح دموعه. ثم يقرر أنه حان الوقت الذي يجب أن يطلب فيه المساعدة. لكن ماذا عليه أن يقول؟ وكيف يفعل ذلك؟

على مرمى البصر، وعلى السور هناك على بعد ثلاثين مترا منه يجلس رجل في مثل سن والده. يشير إليه ويلوح له. لكن الظاهر أن الرجل لا يأبه لصراخه. ويبدو مهتما أكثر بموعد يترقبه من خلال ساعة يده التي ينظر إليها. على الرصيف هناك امرأة تلتحف البياض، لا يعنيها أيضا أمره حين ينادي عليها. تبدو مشغولة أكثر بقفتها وهي تجاهد في حملها. حينها فقط يبدأ في الصراخ. يفكر لعل أمه أو أحدا ما يتعرف على صوته فيهب لنجدته. لكن لا أمه ولا واحدا من سكان العمارات أطل يستفسر. وحتما لم يعنهم صراخ طفل متروك لوحده، ولم يجدوا معنى في صراخه..

داهمه عقب ذلك انقباض واختناق واستولى عليه جزع قاتل وقد اكتشف أنه وحده المفزوع. وشعر أن لا أحد يمكنه فهم معاناته. ثم إن العالم لا يبالي، فهل يرجع ذلك لأنه يختلف عنهم؟

من المفروض، وبمنطق الطفل نفسه أن يكون هو واحدا من المجموع. إنه عين من عيون الجماعة. ما يراه يجب أن يكون هو نفس ما يرونه، وما يشعر به لا بد أن يشعروا به بدورهم. لكن ذلك الرجل وتلك المرأة والآخرون بدوا له مختلفين. هم ليسوا هو، وهو لوحده يشعر بمأساته. عينه ليست عيونهم، وما ينظره لا ينظرونه. ولكل زاويته التي يبصر منها العالم.

حاول الصبي بعد ذلك كله أن يصارع ما حوله ويجابه مصيره فلا يستسلم. مشى بضع خطوات، وفجأة انتبه أنه يقبع خلف عمارتهم، فكيف لم ينتبه؟!

صحيح أن هذه التجربة لم تدم لأكثر من دقائق معدودة. وصحيح أنه ليس بذلك السوء أن تكتشف أنك ضائع ثم تهتدي إلى طريق العودة لاحقا. لكن شعور الصبي المضاعف ما منح تلك اللحظات قوتها وفرد جبروتها عليه. ثم إن الأثر في واقع الأمر لا يرجع للتجربة نفسها بل للاكتشاف الذي اكتشفه. إنه يختلف عن الآخر!

في البيت يكتم الصبي القصة ولا يحكيها. ربما يفعل ذلك بدافع الخجل. لا يستطيع أن يقول أنه ضاع وصرخ يطلب المساعدة بينما هو خلف العمارة التي يقطنها وفي مكان قريب لطالما تردد عليه مع أقرانه للعب. ثم إنه لم ينم في تلك الليلة ولا في الليالي اللاحقة.

لقد ظل يستعيد تلك الحادثة والرعب يغشاه. رعب لم يعرف كيف يتجاوزه أو يداويه. ولقد امتلأ من ليلتها بهواجس مقلقة اتخذت الخوف قناعا وارتدت المجهول عباءة، وصارت تكنّى بالخوف من المجهول.

ربما ـوبسبب هذه التجربةـ يكون ذلك الصبي قد ودّع الطفل فيه. إن ما بات ينكّد عليه قلق مختلف لم يعهد مثله ولم يعرف كيف يجابهه. قلق لا ينقضي كقلقه حين يقوم بعمل مخالف يكسبه وعيد الوالدة، وانتظار مصير له أن ينجلي مع عودة الأب من عمله. هذه المرة كان القلق مفرطا ضاجا صاخبا لا يخلص ولا يمكنه أن يتخلص منه، لأنه غير محدد بزمن وعير مرهون بحالة. وهو كالكنف على جلده عليه أن يتعايش معه في كل الأحوال. ثم إن حدسه يرعبه لما يقول له إن الحياة شوط طويل، ومن المفروض أن يقطعه لوحده. شاء أم أبى!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.