صخب‭ ‬المؤنث‬

الأحد 2015/03/01
لوحة: زينب السجيني

ملفّ “الثقافة والمؤنّث” في العدد الأول من “الجديد” ملفّ ثريّ تلتقي فيه وتتصادى وجهات نظر وتوصيفات على اختلافها حاولت جميعها أن تعالج سؤالا مقلقا لا ينبع من انهمام نسوي ضيّق، بقدر ما هو يتنزّل ضمن صلب جوهر الكتابة نفسها: كيف تتمّ كتابة المؤنّث؟ وهل ثمّة جنس للكتابة غير جنسها الأدبي؟ ربّ أسئلة مثيرة ومضاعفة “بالدعوة إلى سجال جريء حول ما هو مسكوت عنه ويُراد له أن يظلّ في أرض معتّمة بعيدا عن نور السؤال” (كما نقرأ تحت قلم التحرير ص 74).

وقد تمّ الانصراف إلى هكذا تساؤل من زوايا وثنايا تغري بالسير فيها بكل شوق. وهو ما نقرأه في هذا الملفّ مكتوبا بأقلام جريئة تحرص على التنبيه على خطورة اعتبار الكتابة شأنا ذكوريّا كما “يبدو جليّا أنّ تاريخ الفلسفة هو ذاكرة ذكوريّة بامتياز″ (ص.75). إضافة إلى الوقوف عند ضرورة التأريخ الصادق “للكتابة النسائية صوتا وصدى” بوصفها “تقويضا لفكرة التمركز حول الذكورة” (ص76). وبوصف هذه الكتابة شكلا من “الاحتجاج على واقع مكبوت” حيث يصير الحديث عن هذا الضرب من الكتابة إنّما هو “حديث عن الوضع الإنساني برمّته” (ص78) وليس عن وضع المرأة فحسب. لذلك لم يعد من الممكن لنا اليوم أن نواصل الحديث عن المرأة وعن الكتابة النّسوية في لغة وجدانية تجعلنا نستأنف صورة المرأة الضحيّة في مجتمع كثرت ضحاياه بصرف النظر عن جنس الضحيّة. حيث نقرأ تحت قلم بقطاش مرزاق الكلمة الجميلة التالية: “المجتمع العربي شبع بكائيّات وحالات وجدانية فردية، عرف من تكون الخنساء ومراثيها، واطّلع مع نازك الملائكة، على امرأة “تعشق الليل” وتجمع الشظايا والرماد “من هنا وهناك، ووقف طويلا إلى جانب فدوى طوقان حين تصايحت “أعطنا حُبّا”..” (ص.80). وفعلا لقد شبعنا بكائيّات حول صورة المرأة-الضحيّة. وآن الأوان أن نمرّ إلى سرعة أخرى تفرضها علينا سرعة ما يحدث لنا في المجتمعات العربية اليوم التي يُضطهد فيها الرجال والنساء على قدم المساواة من الاضطهاد، ويُغتال فيها الكُتّاب والمبدعون والأحرار بصرف النظر عن جنس المذكّر والمؤنّث الخاصّ بهم. وهو ما يجعلنا نقول مع أميرة كشغري “إنّ مفهوم الأدب النسوي..لم يعد يمتلك ذاك البريق الذي اكتسبه في الستّينات من القرن الماضي، وإنّ ما تكتبه المرأة اليوم في القرن الواحد والعشرين تجاوز تلك المتطلّبات” (ص 81).

إنّ أهميّة السؤال عن الثقافة والمؤنّث وثراء هذا الملفّ يدعونا إلى مزيد من الكتابة عنه من أجل تعميق النظر فيه في أفق جديد. وسنكتفي في هذا المقام بتسجيل بعض المعطيات والملاحظات التي تتعلّق بإحراجات الملف النسوي بعامّة كي نستكشف إمكانيات كتابة المؤنّث بأشكال مغايرة:

I

يقول نيتشه أحد مشاهير الفلسفة الألمانية المعاصرة في أوّل جملة من كتابه “ما وراء الخير والشرّ” ما يلي: “لو سلّمنا بأنّ الحكمة امرأة، لجاز لنا أن نقول إنّ الفلاسفة لم يفهموا أيّ شيء منها”. صحيح أنّ الفلاسفة كانوا في غالب الحالات من جنس الذكور، لكنّ الحكمة التي إليها يشتاقون ويبقون دوما دونها إنّها هي من جنس المؤنّث. ليس في هذا الأمر دفاعا نسويّا ضيّقا عن جنس الفلسفة إنّما هو اتّجاه مغاير في النظر إلى ذاكرة دوّنت نفسها دوما لصالح الذكور.

II

كيف تتمّ كتابة المؤنّث؟ وهل ثمّة جنس للكتابة غير جنسها الأدبي؟ ربّما لم تعد هذه الأسئلة مغرية لأحد في هذه الأيّام التي صار علينا فيها أن نبحث عن أسئلة جديدة تناسب شكل العالم الذي ينحدر في هاوية لا جنس لها. لا أحد يكتب في ديارنا التي صارت مسرحاً للقتل بأشكاله، فرحا بالتعبير عن ذاته بما هو ذكر أو بما هو أنثى. وإن كان لا بدّ علينا أن ننخرط مرّة أخرى في السؤال عن علاقة المؤنّث بالثقافة فربّما غيّرنا طريقة التّسآل نحو الجهة الأكثر ضررا والأكثر خطرا: ما وضع المؤنّث في زمن الإرهاب؟ مع العلم أنّ الإرهاب نفسه لم يعد مذكّرا تماما ولم يعد حكرا على الذكور.

صخب المؤنث لم يعد قابلا للكتابة تحت نفوذ العلامة ولا الجنس ولا الرمز الميتولوجي. صار لزاما علينا أن نغير أسئلتنا بصدد الهويات

III

ماذا إذن لو أنّك لا تسمع من صخب المؤنّث غير ضجيج النساء الذي يسكنه الرجال أيضا؟ لكن في حين يسكن الصخب صمته جيّدا، فإنّ ضجيج النساء لا يُفكّر فإنك ستصير حينئذ مخيّرا بأن تتجاهل ضجيجا يكرّر صدى الوعي التعيس، وبين أن تنتظر على عتبات المؤنّث وعودا جديدة. وبين هذا وذاك ستمضي وقتا طويلا أشبه بدهر من الأسئلة المستحيلة. كيف نكتب صخب المؤنّث؟ بأيّ لغة وبأيّ ضمير مستتر أو بأيّ عُري نكشف عن الأنثى من وراء حجاب؟ ومن يكون هذا المؤنّث: مؤسّسة أم شخص، ذكر أم أنثى؟ جنس بيولوجي أم جنس أدبي؟ كينونة أنطولوجيّة أم استعارة لغويّة؟ ربّ أسئلة لا تعد بغير الهروب نحو مسلك آخر. كيف نتحرّر من أثقالنا الماضية حول أنفسنا كي نحلّق في مؤنّث أجمل؟ وقد لا يكون صخب المؤنّث أنثى فقط لأنّ المذكّر أيضا يقحم نفسه هنا وهناك متلصّصا متربّصا متعثّرا في صورته عنّا، نحن اللاتي تكتبن خارج حدود الذكر والأنثى. لا جنس للكتابة غير الأدب ولا جنس للثقافة غير الإبداع ولا جنس للإبداع غير الحريّة.

IV

انّ صخب المؤنّث مسكون بكل النظريات والنضالات النسوية من قرنين من الزمن. نظريّات تقاطعت على جسد المرأة وتحت أقلامها وفي ثنايا صوتها ودمدماتها المكتومة أحيانا. فتارة نطالب بالمساواة مع الرجل باعتبار “المرأة رجلا كالآخرين” (سيمون دي بوفوار) مفترضين بذلك أنّ الرجل قد وقع إنصافه ومساواته مع الرجل الآخر: في طبقة اجتماعية أخرى أو في بلاد أخرى. وطورا يقع الدفاع عن الاختلاف الجنسي أو ثنائية الكينونة حالمين بأن تكون “المرأة هي مستقبل الرجل” (لوس إيريغاري). وطورا آخر ذهبت الأبحاث النسوية إلى اعتبار المرأة والرجل جندرا أو نوعا اجتماعيا يبنيه المجتمع بصرف النظر عن الجنس البيولوجي (جوديث بتلار). لكنّ كل هذه النظريات حول المؤنّث تجري مراجعتها اليوم. ويبدو أنّ مطلب المساواة نفسه إنّما صار إلى نوع من التسوية الليبرالية في سياق ضرب من السجال الديمقراطي في عصر صار فيه العالم سوقا كبيرة لبيع كلّ شيء. حتّى البشر صار بيعهم ممكنا من أطراف إرهابية تزلزل العالم بفظاعة ما تأتيه من أفعال الدمار.

V

لم يعد صخب المؤنّث نسويّا تماما. وهو ما يدعونا إلى التفكير به دريدا. حيث ينبّهنا رائد الفلسفة التفكيكية المعاصرة إلى ضرورة تفكيك هذه الرابطة بين النّسوية وما هي بصدد النضال ضدّه. فنحن لازلنا نفكّر دوما في إطار السلطة البطريركية والمركزية الذكورية. فالقوى التي يظنّ النسويّون أنّهم قد انفصلوا عنها لا تزال ثاوية داخل خطاباتهن. ثمّة إذن نوع من الالتباس بل والتواطؤ بين ما نناضل ضدّه وشكل المستقبل الذي سيعيد كتابة تاريخنا. ما يقترحه دريدا هو فقط النضال في اتّجاهات مغايرة والتحرّر من الثنائي التقليدي مؤنّث-مذكّر. ويقترح دريدا، ضدّ ما يسمّيه “النسويّة الرجعيّة” بضرورة التحلّي بمنطق “اللاحسم” ضدّ كلّ أشكال الجنسانية التقليدية. لأنّه ليس ثمّة من جنسانيّة نهائيّة. وعليه لا مجال أيضا لتجنيس الكتابة.

VI

إنّ التفكير في المؤنّث تحت مقولة النساء صار مثيرا للريبة: فقد أثبتت الأبحاث الحالية في هذا المجال أنّ مقولة النساء هي مقولة عامّة ولا يمكنها الإيفاء بالاختلافات بين النساء أنفسهم، من حيث طبقاتهم الاجتماعية ومهنهم وثقافاتهم. فالمرأة الكادحة الواقفة في عمق الحقول لا تنشغل بالضجيج النسوي ولا تصلها حذلقات الصالونات الأكاديمية، ولا تهتمّ باستراتيجيات كتابة المؤنّث، لأنّ عالمها يقف في حدود رغيف يومها. أمّا بالنسبة إلى مقولة الرجل الذي تناضل المرأة ضدّ هيمنته الذكورية، فهو في غالب الأحيان مقهور هو الآخر اجتماعيا أو سياسيا أو نفسيّا، وبالتالي ينبغي تغيير عنوان نضالاتنا: نحن مهدّدون بنظام عالمي قائم على الهيمنة والفظاعة على الجميع وليس على هيمنة الذكور على الإناث. إنّ الجنس لا يخيفنا سواء كان ذكرا أم أنثى، بل إنّ موقع الخطورة لأشدّ تنكيلا: هو النظام العالمي الذي يهدّد بسقوط العالم نفسه.

VII

إنّ صخب المؤنّث لم يعد قابلا للكتابة تحت نفوذ العلامة ولا الجنس ولا الرمز الميتولوجي. لأنّنا لم نعد قادرين على توصيف هذا الملفّ في لغة “الرجل والمرأة”، بل صار لزاما أن نغيّر اتجاه أسئلتنا في شأن الهويّات والذاتيّات بعامّة. ثمّة سياسة كبرى لمسألة المؤنّث والمذكّر تقتضي الاهتداء ربّما بالأنطولوجيا الثورية للفيلسوف الفرنسي دولوز بمعيّة فيلكس غاتاري حول “صيروة-المرأة”. فالمرأة هنا هي صيرورة وليست كينونة كذلك الرجل. وهنا ينصح دولوز أيضا بالتحلّي بما يسمّيه “الريبيّة العليا” أي عدم اليقين تجاه سياسات الهويّة مهما كانت: ذلك أنّ في كلّ يقين ثمّة خطوطا فاشية تهدّدنا بالسقوط فيها. وضدّ كل أشكال الكوجيطو من أوديب إلى “الغير الراديكالي” يقترح دولوز علينا فلسفة الصيرورات. نحن لسنا هويّات بل نحن صيرورات. نحن دوما ما نصير وليس ما كُنّا أو ما نكون. وعليه: لا تقل أنا رجل أو أنا امرأة. بل قل أنا صيرورة. أي أنا خطّ إبداع لأنماط حياتية مغايرة. نحن لا نكتب لأنّنا مؤنّث أو مذكّر إنّما نكتب دوما من أجل الحياة. ومن أجل أن تكون ثمّة حياة ضدّ كل المدمنين على قيم الموت. وهنا علينا التشديد على أهميّة هذا الخطّ الفلسفي في الدفع بالمسألة النسوية في اتجاه مغاير. لذلك فإنّ هذه الفلسفة يقع اليوم استثمارها بشكل كثيف خاصّة مع النسوية الفرنسية برايدوتي التي تشتغل في أفق ما تسمّيه فلسفة ما بعد نسوية وما بعد إنسانوية، على ما تسمّيه “النسويّة المترحّلة”. وتعتبر أنّ استبدال الهويّة الجنسية بهويّة اجتماعية على طريقة مفهوم الجندر إنّما هو موقف دغمائيّ فقد نجاعته السياسية. وبالتالي إن أردنا تحرير المؤنّث من الضجيج النسوي علينا أن نعيد إليه صخبه الإبداعي وقدرته على الصيرورة وعلى اختراع أشكال جديدة من الحياة.

VIII

يكتب دريدا في نصّ جميل له ما يلي: “كنت أودّ أن أؤمن بتعدّد الأصوات الموسومة جنسيّا. كنت أودّ أن أؤمن بالجماهير هذا العدد غير المحدّد من الأصوات المختلطة. هذا المتحوّل من العلاقات الجنسية غير محدّدة الهويّة التي يمكن أن يحملها لحنه الراقص، أن يجزّئ وأن يضاعف جسد كل فرد سواء كان مصنّفا كـ”رجل” أو كـ”امرأة” وفقا لمحكّات الاستعمال”. نعم، لا يمكن تجنيس الإبداع ولا نسبه إلى جنس الذكر أو الأنثى. ذاك ترف ميتافيزيقي لم يعد من حقّنا ادّعاؤه في عالم تحارب فيه الامبريالية المتوحّشة كل شكل من الإبداع وكلّ اختراع لإمكانية المستقبل بيننا. نعم نحن أيضا نودّ مع دريدا أن نسمع صوت الجماهير الحرّة وهي تصدح عاليا بصرف النظر عن جنسها ضدّ كل أشكال الفتك بالحياة على كوكبنا. كفانا مشاعر ارتكاسية وانفصاميّة ولنحدّق معا بكل ما تعد به عيون أطفالنا من الأغنيات الجماعية نحو مستقبل أجمل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.