صراع النص المسرحي من التخييل إلى الخشبة
يعد النص المسرحي أساسا لا بد منه لخلق الحياة على خشبة المسرح ووجود ما يدعى بالعرض المسرحي، كما أنه المسؤول عن شكل العرض ونوعيته. تصاغ حكاية النص في هيئة أحداث وشخصيات تنتمي لزمان ومكان ما، ولأن فضاء الحكاية المكاني هو المسرح فإن الكاتب يكتب وذهنه وأدواته الكتابية والتوصيلية تتوجه تلقائياً لجمهور يتابع الحدث من على مقاعده، وفي التفاف يهدف إلى إثارة الجدل النقدي لما سبق يمكننا أن نمعن في مصدر تلك المعطيات وهدفها لنعلن سؤالاً من مثل: هل وجد النص المسرحي ليكون نصاً أدبياً يقرأ في الكتب أم أن وجوده النصي خطوة مرحلية باتجاه العرض المسرحي؟ هل هناك صراع بين النص المقروء والنص المشاهَد؟ هل إن أخذ مسرحة النص المسرحي بعين الاعتبار يعد ضرورة تؤثر في شكل النص لأنه يتكئ حينها على أطراف إبداعية ثلاثة: الكاتب والنص والمتلقي؟
على مستوى الحديث عن طرف الكاتب ينتبه إبان كتابة نصه أنه سيتوجه إلى قارئ يقرأ النص أو مشاهد يجلس أمامه يطالعه ممسرحاً. وهذا يوصلنا إلى الطرف الثاني وهو النص إذ ثمة بون شاسع بين نص نقرأه في كتاب ونص نشاهده أمامنا؛ فالنص المقروء له تقنيات وآليات تختلف بدرجة كبيرة عن النص الذي ستتم مسرحته، فهو نص يتابع تفاصيل الحركة والسكون، تفاصيل اللون والضوء، كل أثاث النص رموز تحمل معانِ مسرحية ممتلئة.
ونصل بذلك إلى المتلقّي فهنالك فروق بين قارئ يقرأ كتاباً ومشاهد يشاهد مسرحية. فروق في شكل زوادة الوعي والثقافة التي يتأبطها المشاهد وآليات العرض وتقنيات المسرح التي ينتظرها من صوت وإضاءة وسوى ذلك من عناصر أخرى.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أخذ كاتب كبير من مثل شكسبير بعين الاعتبار مثل هذه الرؤية؟ أم أن الكاتب المسرحي يكتب نصه بصفته أدباً وللمخرج حرية تأويل النص واستنطاقه. أم أن هناك نصوصاً لا تقبل أن تكون ممسرحةً، فتأتي أقرب إلى محاججة فكرية أو رؤى مجردة من الصعب أن تقدم على خشبة المسرح.
إذا استطعنا معاً اقتراح أجوبة للأسئلة السابقة فإنه من السهل علينا نقاداً وقرّاءً وكتاباً أن نقرأ نصوص العدد السابع عشر من مجلة الجديد وبالتالي نوجد نقاطاً مشتركة بيننا وبين تلك النصوص تكون محطات قراءة وتأويل تهب القارئ حيزاً جمالياً من الأدب وإمكانية خشبة الحياة على الاستمرار بالرغم من كل البشاعة التي تتزاحم في الظهور على شاشات الواقع.
دوائر مائية
سنتناول ثلاثة نصوص مسرحية، في محاولة لقراءة نقدية تعتمد الاستقراء والتوصيف. ومما يمكن وصف المسرحيات الثلاث به بداية أنها تتمايز من نواح عدة من مثل الانتماء فمسرحية «قبل أن يأتي الربيع» واقعية تلامس الحياة الراهنة وتكاد تكون تصويراً حرفياً. بينما تمعن «ذئب البوادي” في سورياليتها فتسبح شخوصها في حالات غرائبية تباعد المنطق من ناحية السرد وتقاربه من الناحية الفلسفية، في حين أن مسرحية «دولة السيد وحيد الأذن” رمزية تحفر في استحقاق عمق الرمز ودلالته.
مسرحية «قبل أن يأتي الربيع» للكاتب أحمد إسماعيل إسماعيل تراعي الحياة الواقعية وأحداث النص المسرحي في آن معاً. فالمؤلف يعي نوعية الزمن المسرحي الذي يختلف عن الزمن الواقعي. كما يظهر إلمامه بأبعاد الزمن ومستوياته المسرحية وقدرته على بلورة وتكثيف أحداثه حتى تأتي مسرحيته بالشُحنة الفنية والفكرية المنشودة في حدود زمن معين لا يقيدها، فيحاكي عقل المشاهد ووجدانه موحياً بنسغ متكامل من الوحدة العضوية يتأتى من توليده للأحداث من بعضها بعضاً. مما يجعل سلوك الشخصيات فيها منطقياً وحتمياً. وهو ما تفتقده شخصيات مسرحية «دولة السيد وحيد الأذن” للكاتب صباح الأنباري، لرمزيتها ومزاوجتها بين خميرة من أرض الواقع وتخييل في بناء الحكاية وسلوك شخوصها. فتذهب لتبني عالماً من التخييل في الحدث وتأزيمه. يتقاطع النص مع مفردات السياسة اليومية التي تشكو حكم الدكتاتور الذي يحكم دولته بقلب ميت لأنه يشعر بعقد نقص أمام شعبه فإذا به يحيل شعبه إلى عاهات تتلاءم مع صورة وجهه في المرآة.
في حين يذهب حازم كمال الدين في مسرحيته «ذئب البوادي” إلى عوالم الحلم واللاشعور في الاتجاه السوريالي. يلوح للتعبيرية من بعيد فيغوص في عوالم نفسية غرائبية تتهافت نحو إيغالات من الصراع الأسطوري بين الجن والإنس، مناطق من التراث المقلق المدفون في ذواكر شعبية أشبه بالحلم.
مسرحة النصوص
أدرك كتاب النصوص المسرحية أنه من المهم لنصوصهم أن تقدم على خشبة المسرح لذا استبقوا الحدث وأخبروا القارئ/المخرج المنتظر بمقترحاتهم من خلال عرض استباقي يشكل علامات لمسرحة النص قد يلتزم بها المخرجون المنتظرون.
العرض الاستباقي بمثابة إشارات وفي الوقت ذاته محددات رؤية بالنسبة إلى قارئ النص المسرحي، إلا أنها محددات غير مستبدة أو متحكمة كلياً بحركة التمثيل، فالكاتب يترك مساحات من حرية التخييل والخلق للممثل فلا يذكر وصفاً للشخوص مثلاً وهو ما نراه في مسرحية «قبل أن يأتي الربيع» حيث يحدد الكاتب نمط البيت/فضاء المسرح المكاني. «صالون في شقة سكنية متواضعة: يقع المدخل على اليمين، وعلى اليسار ثمة بابان: واحد يؤدي إلى المطبخ وآخر إلى جانبه يؤدي إلى غرفة النوم” [1]، فالبيت بسيط، مفروشاته لا تظهر صفاتها بأنها ثمينة، كما نعلم من خلال قوله إن هناك لوحة قديمة لعروسين بأن هناك في المنزل شخصيتي زوجين ليسا حديثا عهد بالزواج، كما أن ذكره لوجود مكتبة صغيرة جدا يوحي بأنهما ليسا بمثقفين ربما المكتبة في بيتهما لحاجة تخصّ العمل وليس تلبية لهواية للمطالعة. في حين لا نعلم صفات أو سمات جسدية تخص الشخصيتين يبقيها الكاتب حرة متاحة لخلق الممثل وإضافاته لما يناسب ثيمة النص. في حين أن سمات الشخوص وأجسادهم هي محددات نصية ورموز ذات دلالات لا يمكن تجاوزها في مسرحية «دولة السيد وحيد الأذن” فالحاكم للبلاد يولد بلا أذن وهي سمة جسدية تؤدي لحفر نافر في شكل البناء النفسي للشخصية ومن ثم لارتكاس في السلوك ينعكس على المحيط البشري به. أما أجواء الفضاء المكاني والزماني على لسان الراوي فتأتي على شكل تمهيد سردي يصف مفروشات القصر والبذخ للإمعان بترسيخ صورة الشعب والحاشية والحاكم وزوجته ذوي السلطة. فالترميز هنا هو أمر أساسي وأوصاف الشخوص أخذت دورها هنا في حين أن حازم كمال الدين يطلق الحرية للشخوص بأن تبدو وتختفي، تموت وتحيا تاركاً لها خيار الإمعان في أشكالها وحركاتها، وهو ما يتيح للممثل المسرحي لاحقاً عند المسرحة رؤى تضفي شكلاً جديداً للنص المسرحي المقروء. وهو أمر من قلب خصائص كتابة النص المسرحي. في الوقت ذاته يحرص أن يقدم حضور الشخوص الممثلة في هيئة مسرحية بحتة حيث تتناوب الأدوار والحركة والجمود على شكل تماثيل صامتة. كما يصف الزمن بأنه لا يحكمه منطق تراتبي يتنقل بين العصور، أما الفضاء فيضع المؤلف قارئ نصه بأجواء المكان والحالات الشعورية التي يفرضها المكان من عزلة وضياع في اتساع البادية والسراب ومن ثم يدلف بالقارئ باتجاه الممر الطويل الموصل للقرية لتكون بمثابة مخرج من أزمة السير في بادية واسعة لعابر سبيل بها أتعبه الطريق.
هل يمكن لقارئ أو مشاهد للمسرح أن يتخيل نصاً مسرحيا دون شخصيات أو شخصية واحدة على الأقل؟ هذا الحضور البدهي للشخصية في النصّ المسرحي ولعبها دور المركز قد يصبح بحد ذاته مجالاً للعب مسرحي متمايز
تأثيث الثيمة
من المعروف أن لكلّ نص ثيمة مركزية وأخرى هامشية ويقوم الكاتب بتأثيث هذه الثيمة عبر تفاصيل تدور في فلك هذه الثيمة. فالكاتب أحمد إسماعيل إسماعيل يؤسس لثيمة واضحة الرؤيا حول أن كبت حريات الشعوب والقمع السياسي والفساد الإداري، يحوّل البلاد إلى بؤر صراع يصل فيها الأمر أن يقتل المرء أحد أفراد أسرته.
يلعب على الثيمة السياسية صباح الأنباري فينشغل بالقمع والعنف السلطوي ولكن ضمن إطار الرمزية الذي يذكرنا بأجواء كليلة ودمنة، أجواء من السخرية الدرامية من غباء الحكّام وعنفهم ويقين باتسامهم بعقد نقص وعدم قدرتهم على تجاوز عاهاتهم بالثقة بالنفس والخُلُق بل إنهم يصرّون على أن يحولوا كل شعوبهم إلى عاهات بدلا من التصالح مع إعاقاتهم الجسدية، ويصل بهم الأمر إلى اعتبار إعاقاتهم ميزة وخصيصة جمالية يساعدهم على ذلك الحاشية المتزلفة والشعوب الصامتة المستكينة. يوغل في ثيمة العنف السلطوي الممارس من قبل الحاكم الدكتاتور لينتهي في نصه إلى مقولة أن العنف السلطوي في دولة لا يعفي العالم من مضارّه، في دعوة إلى نبذ العنف وتوحيد الجهود الدولية لإنهاء الدكتاتورية من الكرة الأرضية لأن وجود بؤرة فساد في بقعة ما سيؤذي الجوار.
في حين يقف القارئ الباحث عن ثيمة تقليدية تائهاً لدى قراءته لنص ذئب البوادي، وهي خصيصة سوريالية حيث يعالج الكاتب هنا ثيمة فردية نفسية تتعلق بعوالم نفسية لا تشبه الواقع من حيث الشكل والإنتاج ولكنها تشبه البشر من حيث فكرة التمحور حول الذات والانصياع لأنا التمرد على الذات. إنه الصراع مع الصراع، تصوير نفسي لفكرة الإلحاح على البلوغ لهدف يرسمه امرئ ما لمواجهة الدنيا التي يدأب أهلها على محاربته للحؤول دونه ودون هدفه، مما يجعل الثيمة التي يخرج بها الكاتب إلى قارئ النص هي كيف تخلق ذاتاَ بطلاً دونما المساس بحدود الزمان أو المكان فهو بطل في كل زمان ومكان وهو مجرم طاغ ينقسم على هيئتين إحداهما إنسية وأخرى جنية، وغاية كلا الهيئتين هو بسط الملك والسلطة.
الهامش والمركز
هل يمكن لقارئ أو مشاهد للمسرح أن يتخيل نصاً مسرحيا دون شخصيات أو شخصية واحدة على الأقل؟ هذا الحضور البدهي للشخصية في النصّ المسرحي ولعبها دور المركز قد يصبح بحد ذاته مجالاً للعب مسرحي متمايز أيضاً، ففي قراءة شخصيتي «قبل أن يأتي الربيع» نجد أنهما شخصيتان نمطيتان اجتماعيتان إلا أنهما تبقيان محوريتين من حيث الإبلاغ عن الثيمة التي يريدها الكاتب ولا ترتقيان لدور المركزية في لعب الحدث فهما هامشيتان في صنع أيّ قرار. فالكاتب لم يذهب إلى الرمزية أو التعبيرية والسوريالية بل إلى مطابقة الواقع باختيار حدث معيشي سوري واقعي. الشخصيتان اللتان تحتلان خشبة المسرح إنما هما من نسيج اجتماعي اختاره أن يكون عاما غير مثقف أو مؤدلج، شخصيات أتعبها الفقر والقمع، فكانت مصائرها محتومة. في حين أن الشخصيات المركزية وصاحبة السلطة والتي تمسك بزمام أمور الخشبة وما يحصل عليها من أحداث هي شخصيات مغيّبة عن الخشبة حاضرة ومركزية في آنٍ شخصيات تمثّل المخابرات والسلطة السياسية القمعية وهي اللاعب الرئيس في الصراع الناشب بين الطرفين الباديين على الخشبة.
في حين أن رمزية مسرحية «دولة السيد وحيد الأذن” تفرض على شخوص المسرحية أن تضع رجلاً في المجتمع العربي وأخرى في عوالم تخييلية من الأدب.
فالحاكم يتمشّى في القصر ينتظر مولوده بأجواء تنتمي للعصور القديمة وقد أحاطته مظاهر من الترف ومفارقات اعتادها الأدب ليصف غباء الحكام وحماقتهم. ثم مظاهر إحضار الوليد على الهودج ورمي المال يمنة وشمالا احتفاء بقدوم وليّ العهد. يتوالى ظهور شخصيات غريبة على المسرح لا تنتمي لشكل الواقع وإنما لمنطقه. فهي شخوص مصابة بعاهات نفسية أولاً وعاهات جسدية ثانياً. هي شخوص تنتمي لواقع المجتمع، تتصف بصفات فيزيولوجية تهيئها لتكون في حالة نفسية خاصة. تلك الحالة النفسية اللامتوازنة تنال من عقل الشخصية وتجعلها تتصرف بحماقة وخلل عقلي أساسه نفسي.
سوريالية «ذئب البوادي” تقفز في عوالمها الغرائبية ست شخصيات نارية جنية وشخصية واحدة ترابية إنسية هي شخصية ذئب البوادي الذي لا نعرف عن هيئته الجسدية أيّ شيء. فقط نعرف هواجسه النفسية وعوالم الصراع الذي يعيشه. لدى قراءة الشخصيات نجد أنها تنتمي لعالمين مختلفين وبالتالي فإن الحضور الفيزيولوجي للشخصيات متنوع، مما يوحي بصيغة جمالية ملونة يستطيع القارئ أن يتلمس ألوانها بين الناري والبني والأصفر الذهبي وكلّ ما يمكن أن يمتّ لأصول البشر الترابية وأصول الجن النارية بصلة.. إن قمنا بتنميط الشخصية المسرحية لوجدناها عصية عن التنميط ترفض حتى الرمزية، أقرب إلى الأمثولة والفكرة. الشخوص كلها متحولة بل إنها أيضا متلوّنة من ناحية المواقف والقيم، فلا توجد حالة حق وباطل، متنوعة من حيث الهيئة فمن كونها بشرية إلى أخرى جنية قادرة على التحول إلى ضدها أي مائية على شكل حورية بحر كما في شخصية الجنية شيهانة، المتمردة على الزمن والعمر، متعددة الأرواح.
لوحة: وليد نظامي
عمود المسرح
أحد عناصر المسرح التقليدية وأكثرها لفتاً لأقلام النقاد، وهو الأثر الذي يبقى على ألسنة الجمهور بعد خروجه من العرض المسرحي فإذا ببعض الجمل والحوارات يطول عمرها ربما لسنوات. في الوقت ذاته هناك من تمرد على هذا العنصر وجعل النص مسرحيا صامتاً. في مسرحية «قبل أن يأتي الربيع» يحفر الحوار في العمق السوسيولوجي لمجتمعاتنا، العمق الملامس لقضايا الجندر في العالم العربي من خلال حوار الزوجين ومن ثم يقابلهما بمفهوم مضاد لهما معاً يطغى على كل حواراتهما وهو العنف السياسي.
الحوار يبدأ باستفزاز الرجل للمرأة الزوجة وشتمه للنسوة صديقاتها على اعتبار أنهن ثرثارات ناقصات عقل ودين، فلا يتوقف رنين الهاتف بينهما. حوار استفزازي يعمل فيه الزوج على انتقاص عقل زوجته ونعتها بأوصاف مكرسة اجتماعيا ضد المرأة. يصاب هذا الحوار بتقلبات وصدمات تقلبه رأساً على عقب فإذا برأي المرأة وعقلها يأخذان زمام أمور الرجل ويوجهانها وذلك بعد أن يصطدم الرجل والمرأة بمفهوم مضاد لهما يتحول ليكون عدوهما المشترك، وهو العنف السياسي. يستمر الحوار في هذا النص بأشكال وأدوار مختلفة تكون هي الموصل الرئيس لكل الأفكار التي يريد الكاتب أن يوصلها، بينما مسرحية «دولة السيد وحيد الأذن” صامتة تخلو من الحوار، يعتمد الكاتب فيها الوصف الدرامي، وما يحسب للكاتب في هذا النص غياب الخطاب الشارح حيث أن كثافة النص وعتمة أحداثه وتسليم أجساد الممثلين وحركاتها زمام الإبلاغ عن النص على خشبة المسرح يعود لعدم إقحام المؤلف لصوته متجنباً تفسير طبيعة العلاقات بين الشخوص أو موضعة دوافع سلوكاتهم. مما يضمن شيئاً من الغموض على المسرح يشرك الجمهور في قراءته وتحسّس جوانبه. فيغدو نمو الحدث هو المرسل الفعلي لثيمة النص، مستعيضاً بأدوات توصيل موازية من مثل شاشة عرض مرافقة للمسرحية تعرض الحروب وبطن الملكة الحامل وغير ذلك، كما أن للإضاءة وتسليطها على بعض المناطق في المسرحية يؤدي في مثل هذا النوع من المسرحيات الصامتة دوراً مهما جدا لنقل الحدث، لتوضيح يحصل من أفعال مسرحية بالتفسيرات والتعليقات.
في حين أن الحوار في «ذئب البوادي” حوار مركب بعيد كل البعد عن أيّ تحكم خارجي، فالحوار يخرج عن مبدأ الخضوع للمراقبة، ومقاييس قناع التمثل، لذا يمارس المؤلف سوريالية من حيث العقل فهو يحرك الممثلين فإذا بهم يتحاورون، ثم يوقفهم كالتماثيل، فيخرج صوت الشخصية البطل على شكل راوٍ يخبر القارئ/المشاهد بمجريات الحدث. يتيح المؤلف لشخصية «ذئب البوادي” مساحة من الحرية في التعبير فيمسك بزمام السرد للأحداث والمشاعر وفي الوقت ذاته يبطل قدرته من حيث الفعل.
الحوار في النص يتنوع لتنوع أصول وانتماءات الشخوص من حيث الأصل الناري أو الترابي. ولكن في موضوع الحوار لا يجد القارئ مضموناً أو قضية يشتغل عليها بقدر ما يرى فضاءات تشبه الحياة من حيث فلسفتها فإذا بالتنين ذي الأصول النارية يتفوه بالأخلاق ويحاسب ذئب البوادي:
(ذئب البوادي:
استدرت، فإذا بظلال التنين الكنعاني تخرج من قمقم.
لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم!!
(بنشوة) لقد تحرّر التنين الكنعاني من القمقم.
التنين:
لا ترحب بي يا ذئب البوادي!
لقد خرجتُ من القمقم لأصليك بالحمم.
ذئب البوادي:
أنا لا أستحق ما تصليني به بالحمم
بالعكس!
التنين:
لقد قتلت الجنية الوحيدة في بادية الشام.
ذئب البوادي:
لقد وقفتْ بوجه مهماتي.
التنين:
لقد اغتصبت ابنتك.
ذئب البوادي:
لم أفعل ذلك.
تلك كانت رغبتها الشخصية).
إن فكرة نص «ذئب البوادي” تحرّر الكاتب وتتيح له طبيعة تعبير مختلفة ومغايرة للتقليدي في الحوار. وهو ما يجعل الحوار في هذا النص حوارا غنيا بالأفكار الفلسفية التي تثير الجدل الفكري وتحيل موقع الحوار على المسرح نقطة انطلاق لجدل وحوار بين الجمهور.
نسج يدوي
هل يحتمل النص المسرحي الكثير من عروض الحوار الفلسفية أو عروض البذخ السلطاني أو الكثير من الندب والتذمر من الواقع دون حبكة تبيّت صراعاً أو هزةً درامية تبث القلق وتحرك فضاء التلقي للقارئ/الجمهور؟ يضع كاتب النص المسرحي عادة نصب عينيه ضرورة نسج حبكة. الحبكة التي لا يمكن إلا أن تكون يدوية غير مكرورة ولا يسمح لها المسرح أن تكون آلية، إنها خطوة جدة النص التي يبنى عليها الحدث والصراع.
يباغت أحمد إسماعيل إسماعيل القارئ/المشاهد دون أيّ مقدمات ومنذ اللحظة الأولى لظهور الشخصية على المسرح باتصال هاتفي غامض مسلّما خيط التواصل الأول للقارئ/المشاهد، فلا يُعرَفُ مصدر الاتصال بينما تتحدث سلمى أثناء الاتصال متوترة ويستمر هذا التوتر أثناء حوارها مع زوجها.
الاتصال المتأخر ليلاً والمقلق سيكون الحلقة المفتاحية للحبكة التي ستستمر بإحداث هزات داخل البنية الحكائية محيلة النص المسرحي إلى غليان من المواقف والإحالات الدلالية لأنساق ثقافية تعود لارتباطات مسبقة فكرياً واجتماعياً وسياسياً.
تلك السرعة في تسليم القارئ/المشاهد خيط الحبكة هي ما يفتقده نص «دولة السيد وحيد الأذن”، فالكاتب منشغل بعرض طقوس بروز الملك على المسرح وبرفقته زوجته لافتاً الانتباه إلى بطن الزوجة من خلال شاشة العرض مشيراً إلى أنها حبلى بوليّ العهد. اعتماد النص الرمزية، هو ما يجعل المؤلف يركز على بعض العلامات، فمثلا مظاهر البذخ والترف علامات سيميائية تختبر أنساق دلالية ثقافية ترتبط بالانصياع للسلطة والانبهار بها بوصفها صيغة من صيغ التبعية العمياء التي توشّى بمضمون ما، يستمر في نشر المرموزات إلى أن تتم ولادة الطفل وتوزيع المال بسخاء على الرعية، عندها تبزغ النقط الفارقة في خيط السرد المسرحي بأن يكون هناك مشكلة في هيأة الطفل يكتشفها الملك حال نظره إلى طفله الوليد (تنقل الكاميرا الحدث أولاً بأول ثم تركز على المولود الجديد أو دولة وليّ العهد. يزيح دولة صاحب الفخامة الأغطية الحريرية من على رأس الطفل فيفاجأ بشكل رهيب حتى يكاد الطفل يسقط من بين يديه. يقرّب المصور وجه الطفل حتى تمتلئ الشاشة به. ينظر الرجل إلى المصور بانفعال وغضب ثم يستدير بسرعة في محاولة منه لحجب وجه الطفل عن الكاميرا.
سوريالية «ذئب البوادي” تقفز في عوالمها الغرائبية ست شخصيات نارية جنية وشخصية واحدة ترابية إنسية هي شخصية ذئب البوادي الذي لا نعرف عن هيئته الجسدية أيّ شيء. فقط نعرف هواجسه النفسية وعوالم الصراع الذي يعيشه
إيقاع مسرحي
قد تتطاول النصوص المسرحية فتمتد لصفحات كثيرة على الورق تتجاوز المئة والمئتين ولكنها تغدو على المسرح سريعة تخطف المشاهد من موقعه على الكرسي وتدخله عوالم المسرحية فلا يشعر بثقل الكلام أو الموضوع، وهو ما تنطوي عليه رشاقة الإيقاع وجماليات بناء النص المسرحي ليبقى متماسكا وجميلا يتنقل بين أفكار النص وأدوات التوصيل وما هو متوقع من الممثل. كما أن سرعة الولوج إلى حبكة النص تسرع من الإيقاع كما هو حال نص «قبل أن يأتي الربيع» فالقارئ/المشاهد يجد نفسه متورطاً في عوالم النص ومن ثم فإن حصول الحدث في فترة زمنية قصيرة؛ ليلتين ونهار واحد بينهما، يهيئ لبنية درامية لا تعرف مصالحة مع الصراع، ويحوك حوارات ناقدة تكشف عن بنية مجتمعية ترتكن إلى ثيم سياسية ونوازع اجتماعية تقليدية تشد الحوار ليلامس قاع الواقع.
في حين أن طول الفترة الزمنية التي تقف عائقاً أمام القارئ إلى أن يتهيأ له الحصول على حبكة النص يوقع إيقاع المسرحية في الترهل. حيث يقف القارئ فترة زمنية طويلة نسبياً خارج أسوار فضاء المسرح. والرمزية هنا لا يمكن أن تغطّي تلك المساحة الزمنية بل تحيل للتشتت في التركيز حيث أن الأمر بهذه الصيغة يحتم على القارئ فتح باب التوقعات وتوسيعها لتطال حدثاً كبيراً يمنع حدوث الدهشة ويطغى على اتساع فضاء الحدث وهذا ما يحمّل النص عبء مسؤولية المزيد من الخلق المتمايز المنتظر من الكاتب والنص فيبدو الحدث الوحيد في النص والحبكة الوحيدة في النص المتمحورة حول عقدة وحيد الأذن النفسية أقل مما يمد له القارئ من أحلام التوقعات، وهو إشكالية مغايرة ومعاكسة تماماً لما يبدو عليه إيقاع نص «ذئب البوادي” الذي يبدو سريعاً ولكنه كثيف أيضاً فتعدد هيئات الجسد التي تقترن بحضور شيهانة متعددة الأجساد تهيئ القارئ مع كل ظهور جديد لها لاستقبال مختلف عن السابق ممّا يجعل إيقاع النص متنوعاً، والتنوع أحد مقاييس تبدد الملل وتحقق الإيقاع إلا أن الفشل المتكرر في مقدرة البطل على تحقيق إنجاز ما رغم وجود الإرادة لديه يدخل القارئ في حالة لاجدوى، وهي الحالة الشعورية التي يريد الكاتب أن يشيعها في نصه لاسيما أن النص يقوم على كسر كل ما هو تقليدي وتزييف الحقائق وربطها بالعدم واللاتحقق، متمرداً على كل النهايات الهوليودية مقترباً من مأساوية أحداث مسرحيات شكسبير وأحكام سارتر في اللاجدوى ولكن كل ذلك من خلال عوالم سوريالية غير نمطية.
الصراع والأزمة
الصراع لا يمكن ربطه بالمسرح دون أن يكون مرتكزاً لمعطيات الصراع في الواقع، فمن الصراع يمكن خلق مكامن إبداع قوية على خشبة المسرح، أما الأزمات فهي ما يمكن طرحه أمام عدسات تصوير السينما، المسرح هو الخشبة الحية، النقطة التي تخلت عن السلام ومعاهداته وصنعت اتفاقاً مع الصراع.
لذا تحتم على نص «قبل أن يأتي الربيع» أن يقتنص تلك البؤرة من الصراع -زوج وزوجة- ويدحرجها من على سفح عال من الثلج لتكبر وتتشكل كرة كبيرة من الصراع فإذا بها تتفجر لحظة وهن وإرهاق الشخوص وتصل إلى حد قتل الرجل لزوجته.
يتناهى للقارئ بداية أن الصراع القائم في غرفة المعيشة هو بين زوج وزوجة وأن السبب هو سوء تفاهم حصل بسبب عدم معرفة الزوج بهوية المتصل فإذا به يلقي الكثير من التهم الجزاف ضدها وضد صديقاتها النسوة الثرثارات. معرفته بهوية المتصل دحرج كرة الصراع فأخذ الحوار الذي ينتمي للواقع والسياق الثقافي الاجتماعي بالنمو.
استدعاء الزوج من قبل المخابرات لتناول فنجان قهوة في أحد مكاتبهم وهو ما يعني التحقيق معه فتح باب الحوار بينه وبين زوجته على أبواب أخرى من التوقعات المرعبة لكليهما بالاعتقال والتعذيب والموت.
بؤرة الصراع التي بدأت وانتهت في مكان واحد هي شقة سكن الزوجين والتي بدا شكلها الأوّلي على أنها صراع بين الزوج والسلطة (المخابرات) إلا أنه صراع ينتهي بقتل الزوج لزوجته التي يتبين له أنها كانت تعمل لحساب المخابرات وتقوم بتشغيل صديقاتها النسوة مع المخابرات في الدعارة.
الصراع الظاهر على خشبة المسرح ينطوي على بنية فساد اجتماعي ومؤسساتي. ينعكس على البناء الأسري مما جعل الصراع يتحول خطياً من صراع المواطن مع السلطة إلى صراع المواطن مع المواطن.
ذلك الصراع المتحول النامي في مسرحية «قبل أن يأتي الربيع» يكاد يغيب عن فضاء نص «دولة السيد وحيد الأذن” فبمجرد ظهور خيط الحبكة ويتبين وقوع الملك في أزمة ولادة ابنه بأذن واحدة يتم الحل من قبل أحد أفراد الحاشية: الرجل المعمم، فيدخل الآباء إلى قصر الملك ومعهم أطفالهم ليتم قطع آذانهم واستلام مبلغ من المال، يغيب الصراع عن المشهد، حيث لا اعتراض أو امتناع، ويكمل وليّ العهد ذو الأذن الواحدة مسيرة العنف ويقطع آذان شعبه وينتصر في معركة ضد دولة مجاورة ويقطع آذان الشعب هناك أيضاً. يستمرئ السيد ذو الأذن الواحدة تفوقه بعقدة نقصه التي تهبه قوة التميز فإذا به يكمل مشواره بالتمدد والسلطة.
غياب الصراع عن النص، لا يعني غياب الصراع في نفس القارئ، فالفكرة مدهشة حيث أن الانصياع التام لاستبداد الحاكم وعدم معارضته يفتح بوابة معرفية في إطار التلقي لا ترتكن لسيادة الحالة المشوهة التي تنمو وتشوه ما حولها. في حين أن كثرة الصراعات في نص «ذئب البوادي” ترتهن أساسا إلى صراع أزلي بين الجن والإنس على امتلاك الكرة الأرضية.
صراعات مبطنة وظاهرة متعددة تنضوي تحت هذا الصراع الأساسي طرفها الدائم هو ذئب البوادي، بينما تتنوع الأطراف الأخرى ما بين ابنة شيخ الجان، إلى التنين فابنة ذئب البوادي الجنية، وانتهاء بشيخ الجان الأب.
كما أن هناك صراعا نفسيا يعيشه ذئب البوادي بين الامتثال لإغراء الجنية المتكرر والذي يخسف به الأرض كلما استجاب لها وبين إكماله لمسيرته في تحقيق هدفه.
صراعات «ذئب البوادي” تنتابها إمكانيات من اللعب بأدوات المسرح التي تتيح للنص ما لا تتيحه أدوات أيّ فن آخر، إضافة لاستفادته من سوريالية عجائبية صراع الشخوص وغرائبية الأحداث وبالتالي فإن الصراع متقلب غير واضح المعالم لا يمكن القبض عليه لأنه كالأحلام.
الخشبة والأمل
تشكل إتاحة الفرصة للنصوص المسرحية للظهور وتداولها كتابة وعرضاً على الخشبة أهم الخطوات التي يمكن الحديث عنها في الحال الراهن لتحريك مياه فن المسرح وإثارة جوانب الإبداع التي يحملها وهو والد الفنون الأوّل. وهو ما يجعلنا نرى أن مبادرات من مثل ما ذهبت له مجلة الجديد من الأهمية بمكان لا يقل عن كتابة المسرح ذاته، فنشره ووضعه بين أيدي القراء يعيد فينقة هذا الفن من جديد.
وفي هذا السياق ذاته يمكن القول إن هناك تحدياً كبيراً راسخاً في زوايا مجتمعاتنا ومثقفينا تجعلهم يصرون على الاستمرار فإذا بحركة التأليف المسرحي تحاول النهوض دائماً بالرغم من كل الأزمات التي تعترض طريقها من حين إلى آخر، والتي لها علاقة بالسلطة وكذا بالأوضاع السياسية والاقتصادية.
ومما سبق من قراءة للنصوص الثلاثة لكل من أحمد إسماعيل إسماعيل وحازم كمال الدين وصباح الأنباري يمكننا أن نستشف أن كتّاب المسرح ما زالوا يؤمنون بجدوى التأليف، فإذا بهم يتحدون كل القوانين، ويشطحون بخيالاتهم في التأليف المسرحي نحو تجربة الغرب المسرحية فإذا بهم يصوغون الواقع العربي بمثاقفة ممزوجة بإيقاع عصري يتجاوز الدوران حول الذات نحو حرية الانجذاب إلى الجميل الثقافي والأدبي والفني في كل مكان من هذا العالم ولكن بما يعبر عن تحد يرتبط مباشرة بواقع المسرح العربي.
ولا بد من أمل كبير يحدو كل من يعمل في مجال الثقافة والفنون بأن يحصل التغيير الثوري والجذري في محددات السلطة والمعرفة ليفتح أبواب الحرية أمام خشبات المسرح ليعود التواصل بين الخشبة والجمهور دون قيود الأدلجة بأنواعها.