صراع ضد القدر البيولوجي أم ضد المحدد الاجتماعي
تعد نوال السعداوي (1931- …) من الكاتبات اللاتي انحزن في خطابهن الأدبي والنقدي إلى قضايا تحرير المرأة؛ فعرفت بتوجهاتها النسوية ومسعاها إلى تقويض المركزية الذكورية التي جعلت من المرأة أقلية هامشية، عبر إنتاج خطاب بديل.
اعتمدت السعداوي الخطاب النسوي للتعبير عن التجربة التي تعكس واقع المرأة بعيدا عن أشكال التمثيل النمطية في الخطاب الأبوي السائد، والكشف عن موقع النساء في منظومة علاقات القوى الجندرية في المجتمعات الشرقية؛ لتتماشى مع طبيعة النص النسوي -وفق محددات ماري إيجلتون- في معناه العام الذي لا يتقيد بالمفاهيم التقليدية، ولا يلقي بالا لمعايير الرجل، ويعكس واقع حياة المرأة بشكل صادق بقصد زيادة وعي المرأة.
ومن هنا كان هذا “الوعي” من أهم ملامح النص النسوي بشكل عام والمنجز الكتابي لنوال السعدواي بشكل خاص؛ حيث عبّرت في أعمالها الإبداعية والنقدية على حد سواء عن “وعي النساء بانتمائهن إلى فئة هامشية، وتعرضهن للظلم باعتبارهن نساء، وإدراكهن بأن ذلك الوضع ليس وضعا طبيعيا إنما مفروض عليهم اجتماعيا، وأنه يجب عليهن التحالف للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليهن، ولذلك حاولت أن تقدم رؤية بديلة -صادمة أحيانا- للنظام الاجتماعي بحيث تتمتع فيه النساء بالاستقلالية وحق تقرير المصير”؛ وهو ما يتماشى مع تعريف جيردا ليرنر للوعي النسوي.
لذلك يمكن القول بأن خطاب السعداوي ذو خصوصية واضحة، يحتاج تلقيه ودراسته إلى وعي مشابه لوعي الذات الكاتبة؛ وهنا يفرض السؤال نفسه: هل النقد النسائي “gynocriticism” الذي يعني “اهتمام الناقدة بالمرأة الكاتبة” هو الأقدر على تلقي هذا الخطاب لشعور الناقدات النساء بتطابق تجاربهن مع ما تقدمه كاتبة العمل في نصها، مما يولد لديهن ردود فعل مشتركة تجاه النص الذي يتلقينه، أم يستطيع الناقد الرجل التعامل مع تلك النصوص إذا كان ينطلق من الإجراءات ذاتها والرؤية النسوية نفسها؟
وهو السؤال الذي سنحاول محاورته والرد عليه من خلال نقد تلقي الناقد السوري جورج طرابيشي (1939- 2016) للمنجز الإبداعي والنقدي للكاتبة نوال السعدواي في كتابه “أنثى ضد الأنوثة، دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي” (1984) الذي انطلق فيه من منهج التحليل النفسي ليقدم مقاربات نفسية لأربع روايات هي “امرأة عند نقطة الصفر”، “مذكرات طبيبة”، “امرأتان في امرأة”، “الغائب”، تتبعها قراءة مجمعة لعدد من القصص القصيرة تحت عنوان “قصص أخرى”.
وأخيرا وقفة الكاتب عند مؤلفاتها النظرية التي يرى أنها “تتصل بمنهجه المستخدم في قراءة أعمالها الإبداعية أي التحليل النفسي، كما تتصل بالموضوع الخاص بالأنوثة وعلاقتها بالرجولة” –بتعبيره-. وهما -المنهج والموضوع- الخطان الرئيسيان اللذان سنحاول تتبعهما وتناولهما بالقراءة الشارحة لكتاب جورج طرابيشي نفسه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الهدف ليس نصوص السعداوي وأفكارها المتبناة، وإعلان اتفاق معها أو اختلاف بشأنها، لكن الهدف هو تقديم قراءة شارحة للكيفية التي تلقى بها جورج طرابيشي إبداعها الأدبي والنقدي بالتحليل، بوصفه ناقدا أعلن عن مناصرته للمرأة بصورة أوضح من السعداوي التي رآها توحدت مع مضطهِدها وتماهت مع مستعمِرها.
سؤال المنهج
اعتمد جورج طرابيشي في مقاربته النقدية لأعمال نوال السعدواي، المنصوص عليها سابقا، على منهج التحليل النفسي وخاصة نظريات سيجموند فرويد عن المرأة مثل: عقدة أوديب، وعقدة الخصاء، وحسد القضيب أو ما يعرف بالافتقاد؛ وهي الأطروحات التي حاولت النسوية تقويضها، وكذلك حاولت السعداوي في مؤلفاتها النظرية.
ومن المفارقات التي يمكن ملاحظتها اعتماد طرابيشي مقولة من مقولات الناقدة النسوية جرمين غرير في خطابه التقديمي لكتابه. وقد عرفت غرير برفضها لمنهج التحليل النفسي -الأبوي في نظرها- وبالتشكك في نتائجه، وترى أن إقبال المرأة على التحليل النفسي يعود عليها بنتائج سلبية تفوق خطر تحيّز المجتمع ضدها، كما هاجمت المسار المأساوي الذي رسمه فرويد للمرأة في كتابها “المرأة المخصية”، ومع ذلك استخدم طرابيشي هذا المنهج الذي كان محل خلاف واضح بين الناقدات النسويات.
فلغة النسويات ولغة التحليل النفسي دائما ما كانت على طرفي نقيض؛ وكان صراع النسوية مع جماعة التحليل النفسي، ممن اتهموا بإطلاق المركزية الذكورية، منصبّا على رائدها فرويد ونظرياته حول المرأة؛ فتتمحور قضية التحليل النفسي في نظر النسوية حول مشاكل التذكير والتأنيث، خاصة منذ بداية طرح فرويد لما أسماه بلغز طبيعة الأنثى، واهتمامه باكتساب النوع الذي أدى به إلى وضع نظريات عن الميل الجنسي لدى المرأة مبنية على فكرة الافتقاد التي يعني بها أن المرأة “ضرب من نصف موجود، وضرب من رجل غير تام، محكوم عليها بالضغينة إزاء وضعها والغيرة إزاء الرجل”.
فقد أرجع طرابيشي أزمة الشخصيات النسائية إلى أسباب نفسية ترتكز على أطروحات فرويد عن المرأة، فالبطلة في “مذكرات طبيبة” تعاني من “عقدة الخصاء” وتشعر بالنقص وبالغيرة من العضو الذكري، وفي “امرأتان في امرأة” تعاني من عقدة أوديب فكان عليها تغيير موضوع حبها وأماكن الشهوة على خلاف الذكر الذي يحتفظ بها دون تغيير، في حين تم ربطها في “الغائب” بالمازوخية وهو الدور المناسب للمرأة كما قدمه علم النفس حيث الشعور بلذة الألم والاضطهاد.
إن نظريات فرويد التي استخدمها طرابيشي منهجا للتحليل كانت نابعة من قوة الثقافة المسيطرة آنذاك، وأسيرة لثقافة النسق المطروحة داخله التي يحركها المجتمع الأبوي مستغلا الفروق البيولوجية ليرسّخ أفكارًا بعينها تساعد على قمع المرأة.
وهنا يمكن القول بأن تلقي الخطاب السعداوي من جانب ناقدة كان سيختلف -في الغالب- من حيث اختيار المنهج عن تلقي طرابيشي له؛ ورغم وجود ناقدات نسويات يقبلن نظرية التحليل النفسي؛ فإن الهدف من استخدامه يكون بوصفه أداة لدراسة النظام الأبوي ولاستجواب الفرضيات المتحيّزة ضد المرأة في النصوص المُؤلفة من قبل الذكور.
صراع بيولوجي أم اجتماعي
أقر طرابيشي -بناء على منهجه التحليلي- بأن “الصراع ضد الأنوثة إنما يدور أولاً، وقبل أيّ إخراج اجتماعي، على المستوى البيولوجي أو حتى التشريحي”، لينتهي إلى أن صراع أغلب الشخصيات النسائية في أعمال السعداوي، التي قاربها نفسيا، هو صراع “ضد أنوثتها لا ضد الظلم الاجتماعي الذي يقنن ويراتب هرميا الفروق التشريحية بين الجنسين، بل هو صراع ضد القدر التشريحي” (أنثى ضد الأنوثة، المقدمة).
إلا أن الصراع هنا هو صراع اجتماعي في الأساس، فعلى الرغم من اعتراف الكاتبة بأن “الصراع بدأ بيني وبين أنوثتي مبكرا جدا” (مذكرات طبيبة، ص 5)؛ فإن المقصود هنا “الأنوثة” وفق المحددات الاجتماعية ومعاييرها التي ناسبت الثقافة الأبوية السائدة وتمثلها للمرأة، وليس الطبيعة البيولوجية التشريحية، وإن كانت واردة كذلك لأسباب تخص الثقافة ذاتها.
ومثلما كان الصراع في “مذكرات طبيبة” صراعا ضد القدر البيولوجي، تتحدى فردوس كذلك -لدى طرابيشي- في “امرأة عند نقطة الصفر” القانون البيولوجي كذلك “فالإنسان ما خلق من نصفين مذكر ومؤنث ليتعارفوا ويتحابوا ولكن ليتصارعوا إلى أبد الآبدين” (أنثى ضد الأنوثة، ص 271).
هنا ترى سيمون دي بوفوار أن قضية “مركب النقص” تجاه المرأة باعتباره شكلا من أشكال الرفض المحتمل لأنوثتها، ليس بسبب حرمانها من صفات الذكورة، لكن بسبب المجموع الذي يرسخ إحساس الذكور بالتفوق ويعطي لهم المكانة الأعلى بوصفهم “ذكور”.
وكذلك كان جهر “بهية شاهين” بأنها “تكره الله لأنه هو الذي خلقها بنتا” (امرأتان في امرأة، ص 110) الذي اعتمد عليه طرابيشي في تبريره لشكل الصراع القدري مع الطبيعة البيولوجية، وتمُوضع كراهيتها على أعضائها الجنسية -بتعبيره-، لم يكن رفضا للأنوثة البيولوجية إنما رفض للمعنى الاجتماعي لتلك الأنوثة الذي رسخ في وعي الأنثى عنصرية توزيع الأدوار الاجتماعية بناء على الفروق التشريحية، وليس العكس كما يظن طرابيشي.
فالفصل المعروف بين الجنس والجنوسة -أي بين البيولوجي والاجتماعي- الذي يؤكد أن مفهومي الذكورة والأنوثة لا يتحددان مسبقا من خلال الجسد، بل يتكوّنان من داخل الثقافة التي ينتميان إليها، وعلى ذلك فإن الأنثى مسألة جنس بينما الأنوثة مسألة ثقافة، واجه بعض المعارضات كذلك؛ فنجد بعض الأصوات -مثل تيريزا دي لوريتس- تقاوم هذا التعارض المزدوج لمسألتي جنس وجنوسة، وترى أن الاختلافات الثقافية تظل مغروسة في المعطيات البيولوجية؛ فمسألة الجنس نفسها قد تكّونت تاريخيا، وأن تمييز الذكر/الأنثى اعتمد على افتراضات ثقافية كالتي اعتمد عليها تقسيم الذكورة/الأنوثة.
وهو ما قصدته نوال السعدواي ونقلته عبر شخصياتها النسائية (فردوس، نوال، بهية)، وغاب بشكل واضح عن تلقي طرابيشي لخطابها المعارض لتلك الافتراضات. وهنا نجد أن جورج طرابيشي قد تجاهل هذا الأمر بقصره كل مشاكل الشخصيات النسائية في الخلل النفسي القادم من عدائيتها لطبيعتها البيولوجية، ولعله يحمّل المؤلفة مسؤولية ذلك، حيث يراها تتبنى اتجاها مضادا للمرأة وليس مناصرا لها.
فرّق طرابيشي بين نمطين للكتابة اعتمدت عليهما نوال السعداوي في تشكيل خطابها الأدبي في رواية “امرأة عند نقطة الصفر” و”مذكرات طبيبة”، ورغم إعلانه الفرق بين النمطين الكتابيين؛ فقد غاب عنه -لانشغاله بانتقائية الاستشهادات التي تدلل على رؤيته الخاصة لشكل الصراع وتخدم منهجه المستخدم في تحليل الشخصيات النسائية نفسيا- أن تلك الأشكال الكتابية سواء أدب الشهادات أو مذكرات السجن النسائية أو السير الذاتية، قد جاءت في المقام الأول لتتحدى التقاليد الكتابية والمذاهب الرسمية ذات السمة الذكورية الغالبة باعتبارها أشكالا أدبية خارجة عن القانون.
إن تلك الأنماط -كما تذهب باربرا هارلو- لا تكتب بقلم الفرد ذاته، بل هي وثائق جماعية وشهادات تكتب من أجل نضال مشترك، وهي نصوص تقوم بإعادة كتابة النظام الاجتماعي من أجل تضمين رؤية للإمكانيات العلاقاتية الجديدة التي تعرض تقسيمات طبقية وعنصرية، بالإضافة إلى الروابط العائلية وتوزيع الأدوار وفق علاقات القوة الجندرية.
ومن هنا لم تكن الصراعات التي تعتمل داخل الشخصيات النسائية صراعات ذاتية فردية تجاه الطبيعة البيولوجية، فوعيهن قد تشكل من خلال وعي المجتمع المكتسب ووعي مجموع الذوات المحيطة الذي سبق الوعي البيولوجي بالأنوثة، ومن هنا كان الصراع ضد المحدد الاجتماعي وليس ضد القدر التشريحي كما أقر جورج طرابيشي.