صعبُ الكلام
إلى بغداد القرن الرابع الهجري، وكتاب “الإمتاع والمؤانسة” لأبي حيان التوحيدي، والليلة الخامسة والعشرين منه، يمضي مشوار حكايتنا الأدبية هذه. ففي الليلة التي سبقت حكى أبوحيان للوزير أبي عبدالله العارض؛ وزير الملك البويهي صمصام الدولة، أحاديث شتّى، تنوّع الكلام فيها، فأتى على ذِكرِ طباع الحيوانات، والأشجار والنباتات وغرائب المعادن، خسيسها وثمينها، وما انطوى عليه كُلّ ذلك من ألغازٍ، وما احتواه من عِبَرٍ وأقاصيص. ثم اختُتِمَ المجلس بطائفةٍ صالحة من أقاصيص الزهّاد والمتصوفّة ومنكري وسخ الحياة الدنيا.
وتلك الطوبى الرعوية التي صوّرها أبوحيان، وتعاون معه على صنعها بأحلى ما يكون، كلٌّ ما على الأرض من حيوانٍ ونباتٍ ومعادنَ، ما ظهر منها وما بَطُن، فضلاً عن أقاصيصَ مَن تألّهوا وهاموا في الفيافي والقفار، كلّ ذلك أثار في وجدان الوزير حنيناً إلى الجانب الإلهي الذي جفّ من روحه، وسط حياةٍ ملأى بالدسائس والقتل في بلاط البويهيين.
وبعكس ما سبق من ليال، فقد أذن ليلتها لأبي حيان بالانصراف دون أن يطلب منه، كعادته “مُلحة الوداع “، وكانت تكون في الغالب الأعمّ من أقاصيص وأشعار ماجنة. فقد آثَرَ ليلتها أن يظلّ في المراعي السماوية التي رَفَعه إليها كلام نديمه، وألاّ يُدنِّسها بما يشوبها.
وفي الليلة التي سنحكي عنها الآن، وهي الليلة الخامسة والعشرون من الزمن النصّي لليالي الكتاب قرّر الوزير أن لا يكدّ ذهنَ أبي حيان باستذكار إجاباتٍ عن أسئلته التي كان يباغته بها، لا ولن يكلّفه شططاً، وسيكون محور حديثهما في غاية البساطة، وفي صُلب مهنة أبي حيان: مهنة الكتابة والتصنيف. وسيسأله عن هذا الذي نطقه البشر أو كتبوه منذ أن وجدوا على ظهر هذه الأرض، فتارةً يسمونه شعراً، وتارةً أخرى يسمونه نثراً: هذا ما هو؟ ما الشعر؟ وما النثر؟ وكيف يتّفق للبشر أينما كانوا أن يأتوا بكلماتٍ لا ماء فيها إن أتت مفردة، ثم يحدث من رصفها على وجهٍ مخصوص، أن يتألف منها كلامٌ ولا أعذب:
“إنّ من الشعر لحُكما” و”إن من البيان لسحرا”.
فذلك الشعر والبيان، أو ” السحر الحلال ” ما هو؟ وما مادته؟ ومَنْ مِنَ الصانِعَيْنِ يصنع أعظم السحر وأدناه إلى الخلود، الشاعر أم الناثر؟
وفي نظر الوزير، وما يعرفه عن علم أهل الصناعات، أنه كان سيطرح على نديمه، وأبرز مثقفي عصره، أبي حيان التوحيدي، سؤالاً في غاية البساطة. أيعجز الطبيب أن يتحدث عن طِبِّهِ، أو المهندس عن عمائره وسدوده، أو السائس عن خيله، أو الفلاح عن زروعه، بل الوزير نفسه لو سأله سائلٌ عن ارتفاع الأرض وخَرْجها، والسياسة وأحابيلها، وما ينبغي فعله أو تركُه لإبقاء مصالح السلطان قائمة لما توقّف عن كلامه قبل ساعات؟
ثم إن على أبي حيان أن يحذر قبل أن يتقدَّمَ بإجابته، فالوزير هو مَنْ يسألُهُ عن فن الكتابة. ومعروفٌ أنه لكي يغدو الانسان وزيراً في تلك الأيام فإنه لا بُدّ أن يتمرّس أوّلاً في كتابة الرسائل الديوانية. وقبل أن يتمرّس بكتابتها فإن عليه أن يقرأ، ويحفظ عن ظهر قلب: رسالة عبدالحميد الكاتب للكتّاب، وصحيفة بشر بن المعتمر، ورسائل ابن المقفع، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وأدب الكُتّاب للصولي، والرسالة العذراء لابن المُدبّر، وغيرها وغيرها.
وسنعرف لاحقاً، عندما تتقدم وقائع تلك الليلة أن من فضائل النثر على صاحبه أنه قد يوصله لأن يغدو وزيراً، وصاحب سِرّ السلطان. ومما أوثِرَ من قولٍ في هذا الشأن ما قاله ابن ثوابة الكاتب “لو تصفّحنا ما صار إلى أصحاب النصر من كُتّاب البلاغة، والخطباء الذين ذبّوا عن الدولة، وتكلموا في صنوف أحداثها وفنون ما جرى الليلُ والنهار به.. لكان يُوفّي على كلّ ما صار إلى جميع من قال الشعر ولاكَ القصيدَ، ونهج بالقريض، واستماح بالمرحمة، ووقف موقف المظلوم، وانصرف انصراف المحروم”.
ثم إن الوزير أبا عبدالله العارض؛ الاسم التخييليّ للوزير ابن سعدان، كان قد نبّه أبا حيّان في أوّل لقاء بينهما إلى أنه ما خلّصه من مهنة مراعاة أمر البيمارستان العضُدي، وهي مهنة رآها لا تليق بشخصٍ له كفاءاته، لا ولم يُرَقِّه إلى رتبة نديم شخصيّ، وما طلب حضوره إلى مجلسه في كلّ ليلة للمحادثة والتأنيس، إلا لكي يتعرف منه على “أشياء كثيرة مختلفة تَرَدَّدُ في نفسي. لا أحصيها لك في هذا الوقت، لكنني أنثرُها في المجلس بعد المجلس.. وكن على بصيرةٍ – تابعَ الوزير مخاطباً أبا حيان بما يُشبه التهديد والوعيد – أنّي سأستدّل مما أسمعه منك في جوابك عما أسألك عنه على صدقك وخلافِه، وعلى تحريفك وقِرافِهِ”.
كما وطلب منه أن يجيب عن الأسئلة التي سيطرحها عليه “باسترسالٍ وسكونِ بال، بملء فيك، وجَمِّ خاطرك، وحاضر علمك، ودَع عنك تَفَنُّنَ البغداديين!”.
والآن “قل لي – قال الوزير يسأل أبا حيان التوحيدي في الليلة الخامسة والعشرين من ليالي الامتاع والمؤانسة – فأنا أحِبُّ أن أسمع منك كلاماً في مراتب النظم والنثر، وإلى أيّ حدٍّ ينتهيان، وعلى أيِّ شكلٍ يتفقان، وأيهما أجمعُ للفائدة، وأرجعُ بالعائدة، وأدْخَلُ في الصناعة، وأولى بالبراعة؟”.
فابتدأ أبو حيان جوابه بأن قال:
– الكلام على الكلام صعب!
فسأله الوزيرُ والدهشة تملأ وجهه:
– ولِمَ؟
فقال أبو حيان:
– لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صُوَرِ الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحِسِّ ممكنٌ، وفضاءُ هذا مُتَّسِعٌ، والمجالُ فيه مختلفٌ، فأما الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه، ويلتبسُ بعضُه ببعضٍ؛ ولهذا شقَّ النحوُ وما أشبهَ النحوَ من المنطق، وكذلك النثر والشعر!
أيّ إجابةٍ عويصةٍ هذه؟
حقاً إن الكلام على الكلام صعب. ونحن لو أردنا تحويل سؤال الوزير وجواب أبي حيان عنه إلى اصطلاحاتنا المعاصرة لقلنا إنه كان قد طلب منه أن ينشئ لغةً تصف اللغة. كيف يسهلُ فعل ذلك والحدود بين اللغتين، لغة الأدب ولغة النقد، حدود متداخلة، وهما يستخدمان المادّة ذاتها، أيْ مفردات اللغة. والأسهل على البشر، على تنوّع لغاتهم، أن يُطلب منهم ابتداع مفرداتٍ ومفاهيم، وتراكيب تصف مجموع ما يقع لهم من وقائع في حياتهم، حسّية كانت أم عقلية، والصعوبة الأكبر هي في التنظير وفي إبداع مفاهيم جديدة للغة التي يُطلب منها أن تحكي عن نفسها، وأن تبوح بأسرار ذاتها، استخدام المفردات لتفكيك وتوصيف المفردات.
حقاّ إنّ الكلام على الكلام صعب. هكذا كان الأمر قديماً. وهكذا هو حديثاً. ويُشبه أن يكون سامعوا الكلام الذي قاله أبوحيان قبل نحوٍ من ألف عام، كسامعي الاصطلاحات النقدية الأدبية في أيامنا هذا، ممن لا دراية لهم بعلوم اللغة، يشبه أن يكونوا في وضعٍ مشابِهِ لوضع الأعرابيٍّ الذي:
” وقف في مجلس النحويّ الأخفش فسمع كلام أهل النحو وما يدخل معه، فحارَ وعَجِبَ، وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش:
– ما تسمعُ يا أخا العرب؟
فقال:
– أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا!
وكان قد سَبَقَ لقدامة بن جعفر، وهو من أبرز النقاد العرب القدامى، أن تحدّث عن الصعوبة التي يواجهها المشتغلون في اللغة والمنطق، وكيف أن الأوضاع التي استجدّت على الفكر العربي في أيامه جعلت المشتغلين فيه يتداولون في اصطلاحاتٍ كثيرةٍ:
“.. متى استُعمِلت مع متكلمي هذا الدهر وهذه اللغة كان المُستعمِلُ لها ظالماً، وأشبَهَ مَنْ كلَّمَ العامة بكلام الخاصّة، والحاضرةَ بغريب أهل البادية..”.
فمن ألفاظهم:
“السولوجسموس، والهيولى، والقاطاغورياس، وأشباه ذلك مما إذا خاطبنا به متكلّمينا أوردنا على أسماعهم ما لا يفهمونه إلا بعد أن نُفسّره.
… والعوامَ والطُغامَ ومن لا علمَ له بالكلام إذا سمعوا ألفاظاً لم يعهدوها ولم يقفوا على معانيها، ربما اعتقدوا في قائلها الكفر واستحلّوا دمه، ولذلك شَهِدَ بعضُ سفلة العوام على الخليل بن أحمد الفراهيدي وأصحابه بالزندقة، لمّا سمعوهم يذكرون أجناس العروض ويُقطِّعون الشعر”.
وصعوبة ألاّ يتمكّن الناسُ من فهم كلام نقّاد الأدب؛ وهم يتكلمون في كلامٍ على الكلام، واجهها قدامة بن جعفر نفسه عندما عرض كتاب “نقد النثر” على الوزير علي بن عيسى، وهو من كبار مترسّلي القرن الرابع الهجري.
قال الوزير علي بن عيسى:
” عَرَضَ عَلَيّ قُدامة كتابه ‘نقد النثر’ سنة عشرين وثلاثمئة، واختبرتُهُ فوجدتُه قد بالغ وأحسنَ، وتفرَّدَ في وصف فنون البلاغة في المنزلة الثالثة بما لم يُشرِكُه فيه أحدٌ من طريق اللفظ والمعنى.. ولقد شاكَهَ فيه الخليلَ بن أحمد في وضع العروض، ولكنني وجدتُه هجينَ اللفظ، ركيكَ البلاغة في وصف البلاغة، حتى كأنّ ما يَصِفُهُ ليس ما يعرفُه، وكأنّ ما يَدلُّ به غيرَ ما يُدِلُّ عليه”.
وكُلّ تلك المصاعب بخصوص نقد الشعر والنثر حاضرةً بقوّة في ذهن أبي حيان ساعة ابتدأ يُجيبُ الوزيرَ عن سؤاله، لذا فقد رأيناه يحتفظ لنفسه بخطّ الرجعة:
– الكلام على الكلام صعب!
فكان، كما أشرنا قبل، أن سأله الوزير بدهشة:
– ولِمَ هو صعب يا أبا حيّان؟
فأجابه أبو حيان:
– لأن الكلام على الكلام صعب أيها الوزير!
وخاطّبَه بلفظ الوزير، ولم يستخدم معه ما اعتاده الناس في مخاطباتهم للوزراء من عبارات التمجيد. ذلك أنه كان قد اشترط عليه منذ الليلة الأولى لابتداء منادمتهما أن يأذن له بكاف المخاطبة، وتاء المواجهة، ولم يرفض الوزير طلبه بل قال له:
– لَكَ ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرُك!