صورة الرجل معبّراً عن ذاته
الأدب في ذاته، في رأيي، لا ينفصل عن الواقع، واقع الفرد أو واقع الجماعة، وهذا الواقع يبقى نسبيا في تعبيره عن حقيقة الأشياء لأنّ الحقيقة متغيّرة بتغيّر زاوية النظر من جهة وبتغيّر تصوّراتنا للواقع من جهة أخرى وهي تصورّات نبنيها باعتبار خبراتنا في الحياة وتجاربنا التي تختلف ضرورة عن تجارب غيرنا، فتصورات كلّ فرد هي مشابهة لتصورات غيره إذا وُجدا في المحيط ذاته وهي مختلفة لاختلاف التجربة الفردية في علاقة بموضوع التصوّر. وحين نتحدّث عن الواقع فإنّا نتحدّث عنه باعتباره مصدرنا الأوّل للمعرفة البسيطة والمركبّة، مصدرنا الأوّل لطبيعة العلاقات وترتيب الأشياء في الكون الذي نعيشه. ونحن نخزّن معارفنا تلك التي قد تتغير جزئيا باطّلاعنا على معارف من مصادر أخرى ولكن تبقى تلك المعارف الأولى هي التي نعيد بها اكتشاف العالم حولنا وبناء تمثلات تظهر في أفكارنا وسلوكنا وعلاقاتنا وكتاباتنا. كتابات تحاول بناء الواقع من جديد. لكنّه واقع خاصّ لأنّ إدراك كلّ فرد لما حوله يختلف عن بقيّة الأفراد ولا يمكن ان نتحدّث عن تصوّر مطابق لتصوّر آخر، ومن هنا فالواقع الذي يرسمه كاتب/كاتبة هو تصوّره الخاص للواقع لا الواقع الذي يراه غيره ويعيشه. لذلك، فإنّ صورة الرّجل وتصوّر الكاتبات العربيات له، وإن بدا متشابها في كثير من الأحيان، هو مختلف نتيجة للاختلافات الجزئية في الأطر الطبيعيّة والذهنية وللتّجارب الشخصيّة في المجتمعات المنتجة لتصورات الكاتب/الكاتبة. وعليه لا أعتقد، الآن، في وجود صورة نمطيّة للرّجل الشرقي في روايات الكاتبات العربيات، بل أعتقد أنّ الرّوائيات قد عَبَرْنَ من صورة (قد تكون) نمطيّة إلى صور متغايرة لا تمثّل بالضرورة جحيم المرأة والشخصيّة المهيمنة أو المتسلّطة ولا شخصيّة “سي السيّد” التي هيمنت في مرحلة ما ولا صورة الأب الحامي أو صورة الأخ القاسي والحبيب الخائن.
اختلفت ملامح الشخصيّات أمام التغيرات الكبيرة التي شهدتها المجتمعات، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، وتراجعت سمات الشخصيّة الروائية “النمطيّة” إلى شخصيّات أكثر “إنسانية” وأقلّ سطوة. وقد يعود ذلك في جانب كبير منه إلى تنامي دور المرأة الكاتبة في مجتمعها وفي علاقتها بأسرتها وبذاتها ما جعل تصوّرها لدور الرّجل في حياتها وحياة مَن حولَها يتغيّر. وظهر ذلك جليّا في كتاباتها، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويمكن أن أذكر تونسيّا رواية “العراء” لحفيظة قارة بيبان، ورواية “حبّ ملوك” لحنان جنّان ورواية “ضمير مستتر” لبسمة الشوّالي ورواية “المصبّ” لشادية القاسمي، على سبيل الذكر لا الحصر، أعمال تجاوزت فيها شخصيّة المرأة ذاتها الصّورة النمطيّة التي كرستها كتابات الرّجل وزادت في تكريسها كتابات المرأة، وحين تحوّلت صورة المرأة في الأدب، النّسوي، تحوّلت بالتوازي معها صورة الرّجل، فالصورة النمطيّة، أيّا كانت تلك الصورة، تستدعي صورة نمطيّة مقابلة لتكمِل بناءَها. وفي الحقيقة لا يمكن أن نتحدّث عن نمطيّة لصورة الرّجل دون أن يكون ذلك في حضور صورة نمطيّة لصورة المرأة، وكلّما خرجت صورة المرأة عن الإطار المرسوم لها خرجت صورة الرّجل عن ذلك الإطار كذلك، وترجّلت لتأخذ أبعادا جديدة تكون أقرب إلى الحياة اليومية منها إلى الحياة المتخيّلة.
هل أرى أنّ صنيعي الأدبي تمكّن من الإفلات من الصّورة النمطيّة للرّجل الشرقي؟
أعتقد أنّ صورة الرّجل الشّرقي ذاتها ليست واحدة، فالشّرقي جمع، والتونسيّ تنويع في ذلك الجمع، وعليه فأنا أكتب عن الرّجل الذي أعيش معه وأعرفه، بل إنّي أكتب عن الإنسان عامّة، رجلا كان أو امرأة، والحديث عن الإنسان في ذاته هو تجريد لذلك الكائن من قيد الأنوثة والذكورة، فالإنسان في عمقه واحد تغيّره المؤثرات الخارجية والتربية الأولى والبيئة المحيطة وتجعله على حال دون أخرى يؤدّي في الوجود الخارجي، مثلما يؤدّي في الوجود الروائي، أدوارا تتناسب مع تكوينه النفسي والاجتماعي. من هذا المنطلق أقول إنّ علاقتي بصورة الرّجل في كتاباتي هي علاقتي بالإنسان في وضعياته المختلفة، في قوّته وضعفه وأحلامه وخيباته وانتصاراته التي هي انتصارات للحياة.
أحاول مع شخصياتي (الرجالية منها والنسائية) أن أجد إمكانا لبناء عالم جدير أن نحيا فيه، لذلك لا أفكّر أوان الكتابة أن تكون شخصيّة الرّجل مستجيبة إلى “انتظارات” من اعتاد على ملامح محدّدة في شخصيّة الرّجل الشرقي، أو الرّجل التونسي على وجه الخصوص، وأترك لملامح الشخصيّة فرصة التشكّل باعتبار تفاعلها مع المؤثرات المحيطة بنشأتها في أبعادها المختلفة، وقد تتشكّل شخصيّة “نمطيّة” لوجودها في بيئة لا تنتج غير تلك الشخصيّة، وقد تتشكّل شخصيّة مختلفة عن السّائد في الكتابة دون أن تكون مختلفة عن الموجود في العالم الخارجي المرجعي الذي نعيش فيه.
حبرية أم مرجعية!
شخصية الرجل في الكتابة. سأصوغ السؤال بطريقة أخرى: هل هي معبّرة عن ذاتها باعتبارها شخصيّة حِبريّة؟ أم معبّرة عن ذاتها باعتبارها شخصيّة مرجعيّة؟ أم هي معبّرة عن مواقف الكاتبة وتصوراتها؟
لا أعتقد، حقيقة، أنّنا نكتب بعيدا عن تصوراتنا ومواقفنا وأفكارنا، بل إنّنا لا نكتب بعيدا عن جملة من المقاصد، المعلنة وغير المعلنة، والمدركة جزئيّا أو كليّا وغير المدرَكة، فتحمّل عناء الكتابة في ذاته هو استجابة لجملة من الأفكار وإعادة بناء للعالم باعتبار تصوراتنا له، لذلك فالشخصيّة، أيّا كانت، هي محمل للأفكار والتصورات. هذا أوّلا.
ثانيا، لا بدّ من التمييز بين صنفين من الشخصيات، شخصيات مرجعية تاريخية، وهذه شخصيات شكّلت المجموعة جلّ ملامحها ومجال التدخّل فيها يكون بسيطا وصعبا، وشخصيات روائية لا وجود لها مرجعيّا، أو هذا ما نعتقده، يكون للكاتبة حريّة التصرّف فيها وتنزيلها المنزلة التي تراها من الأحداث والعلاقات وغيرها.
قد تبدو هاتان الشخصيّتان مختلفتين شديد الاختلاف، ولكن أوان الكتابة تسقط جلّ تلك الاختلافات، فالشخصيّة التاريخية المرجعيّة التي تكتبها روائيّة ما ليست ذاتها التي تكتبها روائية أخرى رغم أنّهما تعتمدان ذات مصادر المعرفة، ولكنّ الانطباع الذي يحدث في ذهن كلّ فرد، كاتبا كان أو غيره، هو انطباع فرديّ لا يشبه انطباعا آخر، وعليه ستنتج صورة تختلف في تفصيلاتها، في طاقاتها النفسية والحركية، في قدرتها على الإقناع من كاتب/كاتبة إلى آخر( فتصوّراتي الشخصيّة لشخصيّة فرحات حشّاد مثلا، ليست ذاتها تصورات ابنه، ولا تصوّرات خصمه ولا تصوّرات من عاش معه رغم أنّها شخصيّة تاريخيّة تكاد تكون مكتملة النمط في أذهان التونسيين جميعهم). هذا يحدث مع الشخصية التاريخية التي نعتقد أنّها اكتملت في التصوّر الجمعي، فما بالنا بشخصيّة مرجعها الأوّل النصّ الرّوائي الذي ولدت فيه، أو هكذا تُوهم؟ لماذا نقول توهم؟ لأنّنا، ولأنّني، حين نكتب، ورغم اعتقادنا أنّنا ننفصل عن الواقع الخارجي فإنّنا لا نفعل إلاّ أن نتوغّل فيه، لأنّه متوغّل في أذهاننا ومحدّد بدرجة كبيرة لتصوراتنا وأفكارنا ولا قدرة لنا على التخلّص منه ولا وجود لنا، نحن، بأفكارنا تلك، بشخصياتنا الذاتيّة التي نملك في غياب تلك التصوّرات. وعليه فمن الطّبيعي أن تكون شخصيّة الرّجل في كتاباتي هي تعبير عن أفكاري وتصوّراتي حول الرّجل، لأنّه لا وجود لصورة رجل في ذاته إلاّ من خلال تصوّرنا له ومن خلال تصوّرنا لما يمكن أن يكون. فنحن نكتب تصوّراتنا حتى عندما ندّعي إعادة تصوير الواقع لا غير، بل إنّنا عند تقديم أنفسنا إنّما نقدّم تصوّراتنا لأنفسنا وهي تصوّرات تختلف عمّا يراه الآخرون فينا.
إذن، الشخصيّة، رجلا كانت أم امرأة، هي فكرة. تأخذ هذه الفكرة ملامح معيّنة وتقوم بوظيفة في المجتمع الرّوائي الذي بُعثت وتحاول أن تكون منسجمة مع أفكارها ومحيطها وتركيبتها الجسمانية والنفسيّة وتكوينها العلمي وقريبة من صِنوها في العالم المرجعي الذي يبقى، وإن حاولنا الابتعاد عنه، محدّدا في صورة الشخصيّة.
في روايتي “مواسم الجفاف” على سبيل المثال، كانت شخصيّة خليل في هيكلها العام صورة لآلاف الشباب الحاملين لشهادة جامعية والعاطلين عن العمل، هذه الشخصيّة نصادف شبيهاتها كثيرا لكن لا نصادفها هي بالذّات، لأنّ خليل الرّواية هو ابن منطقة محدّدة (منطقة الجريد التونسي) تؤثّر في نشاطه وعاداته ومعتقداته وتجعله أنموذجا يشبه غيره ويختلف عنه، ينتظر وظيفة الدّولة التي وعدته ضمنيّا بها ثمّ أخلّت بوعدها، يحاول شأن أغلب الشباب أن يجد عملا وقتيا في انتظار الوظيفة دون أن يكفّ عن الانتظار، ونجد في المقابل مريم الشابة التي لم تنتظر وظيفة الدولة وخلقت لنفسها عملا يتلاءم مع شهادتها العلمية لتكون بذلك محفّزا لخليل، ضمن بناء روائي، ليحذو حذوها. هل كرّستُ صورة نمطيّة للرّجل الشرقي بهذه الطّريقة؟ لا أعتقد.
في روايتي الأخيرة “يحدث أن نختار”، اتّصل بي أكثر من قارئ ليقول إنّه وجد نفسه في إحدى شخصيّات الرّواية، ويسمّيها، وجد تفصيلات تخصّه، وجد نفسه أمام ذاته. فهل أقول في هذه الحال إنّي كتبتُ الرّجل في صورة معبّرة عن ذاته؟ لست أدري حقيقة. ما أعلمه أنّي أحاول أن أكون أقرب إلى الموضوعية في بناء الشخصيات وأقرب إلى الإنسان في أبعاده النفسيّة المختلفة، لا أؤمن كثيرا بمعركة بين الرّجل والمرأة. أؤمن أنّنا في عالم متغيّر يحتاج إلى كلّ طاقات الإنسان ليُعاش وشخصيّة الرّجل في كتاباتي لا تخرج عن هذا النّهج.