صورة المراهق في أعمال الفنانين المصريين
يبدو أن البحث عن صورة المراهق وحضوره في أعمال الفنانين المصريين ليس أمرا يسيرا. وأعني هنا بصورة المراهق ذلك الحضور المباشر والمثير للتساؤلات، إذ لا يكاد المراهق يبين داخل الإطار التصويري أو النحتي، أو غيرها من المعالجات البصرية الأخرى، وكأنه مجرد كيان عابر في الزمان والمكان، لا يثير حضوره الفضول أو الانتباه.
ربما لا يكون الأمر قاصرا على الفنانين المصريين وحدهم، فبالمقارنة مع الحضور البصري للمستويات العمرية للرجل أو المرأة في تجارب الكثير من الفنانين من خارج الوطن العربي يتراجع حضور المراهق في الخلفية، ككيان ليس له قوام أو ملامح مستقرة تدعو للتأمل في ما يخص الممارسات الكلاسيكية والحديثة، أو تدعو للبحث والنقاش وطرح التساؤلات على مستوى الممارسات المعاصرة.
في هذه المساحة سوف نتناول ثلاث تجارب سلطت الضوء على المراهق بشكل مباشر وعميق. أولها صورة المراهقة الحالمة في أعمال الفنانة زينب السجيني، أما الثانية فصورة المراهقة كبورتريه شخصي عند الفنان صبري منصور، في لوحته “الفتى الأسمر”، ثم صورتها الرمزية عند الفنان أشرف رسلان في عمله “الفتى يناير”.
المراهقة الحالمة
تعد الفنانة زينب السجيني واحدة من الفنانات المصريات المتميزات. تمتد مسيرتها الفنية من منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وهي لا تزال إلى اليوم أحد الوجوه البارزة في حركة التشكيل المصري الحديث.
تنحدر السجيني من عائلة فنية تضم أسماء بارزة في الحركة التشكيلية المصرية، فعمها المثال جمال السجيني أحد رواد النحت الحديث في مصر، وزوجها الفنان الكبير عبدالرحمن النشار أحد رواد التجريدية المصرية. معالجات زينب السجيني التصويرية تتسم بالتعبيرية الهادئة والمُحكمة لمكونات اللوحة. لوحاتها تبدو أشبه بنافذة تطل منها على عالم كالحلم، عالم يغلفه الحس الأنثوي، ونعومة المعالجة اللونية. تتسم أعمال زينب السجيني بالبناء السهل والمحكم في آن، فكل خط وكل مساحة على سطح العمل توضع بحساب وروية. هي تضع الكثير من الرسوم التحضيرية قبل الشروع في الرسم، حتى تخرج اللوحة في النهاية كما تريد لها.
تحمل أعمال الفنانة زينب السجيني عدة تأثيرات متباينة، فوضعيات الشخوص وطريقة اختيارها لدرجات اللون تقترب من الرسوم الفرعونية على جدران المعابد، كما يذكرك اعتناؤها بالزخارف والتفاصيل الصغيرة بما تركه فنانو المنمنمات الإسلامية.
ولا تخلو أعمالها كذلك من تأثيرات الفن الشعبي، في اهتمامها بالتفاصيل والكتابات العفوية. ولعل دراستها العميقة للرسوم الفرعونية ومنمنمات الواسطي في رسالتيها اللتين نالت عنهما درجتي الماجستير والدكتوراه كان لها بالغ الأثر على طريقتها في بناء اللوحة، فجاءت أعمالها تحمل مزيجا فنيا متعدد الرؤى، لا يتوقف عند مجرد التقليد السطحي للشكل، بل يتعداه إلى مستويات أخرى أكثر عمقا ودراية بما وراء هذه الأشكال والزخارف.
وإلى جانب تلك التأثيرات ثمة تأثير آخر أهم وأكثر وضوحا، وهو طغيان الحس الأنثوي على معظم أعمالها. والأمر لا يعدو مجرد مزاج فني ليس أكثر، ولا ينبع- كما تقول هي- من موقف سلبي تتخذه تجاه الرجل أو تعصب لبني جنسها، بل على العكس تماما، فقد كان الرجل هو الحلقة المضيئة التي أنارت لها طريقها منذ البداية كما تقول، وكان ارتباطها بزوجها الفنان عبدالرحمن النشار- على سبيل المثال- عاملا هاما في سياق تجربتها الإبداعية ونضوجها الإبداعي، والأكثر لفتا للانتباه، هو طغيان الحس الأنثوي على معظم أعمالها ونضوجها الفني. أما عمها المثال جمال السجيني، فقد كان أستاذها ومعلمها الأول، فهو الرجل الذي أحبت على يديه الفن وتعلقت بمفرداته وأدواته منذ أن كانت طفلة تزوره في محترفه، وتنظر إلى ما يفعله بالكثير من الدهشة والإعجاب.
ولعل الميزة الأبرز في تجربة زينب السجيني أن معظم شخوصها الأنثوية لا يخرجن من دائرة الطفولة والمراهقة، وهو سلوك مسيطر على تجربتها التصويرية، تكاد تستأثر به وحدها دون غيرها من الفنانين المصريين.
تمتلىء لوحات السجيني بصبايا مستديرات الوجه ذوات عيون واسعة، يتحركن في مساحة اللوحة، ويمارسن نشاطهن اليومي في البيت، والشارع، والحديقة، بلا منغصات. هذا السلوك يبدو لافتا، غير أن له ما يبرره، فقد اختارت السجيني أن تحيط عالمها التصويري بمسحة حالمة ونموذجية منذ البداية، وفي سبيلها لتصوير ملامح هذا العالم الحالم لم تجد أفضل من فترة الطفولة والمراهقة على ما يبدو، سكان هذا العالم الذي تصوره السجيني تحيطهم البهجة، لا إشارات حزينة، أو علامات بائسة، هم مجرد أطفال ومراهقين يلهون مع طيورهم وحيواناتهم الأليفة، تحيطهم الخضرة أو زرقة البحر وما يرتبط به من عناصر أخرى، لا شيء سوى السكينة والهدوء المحيط. هم أشبه بالملائكة، وقريبو الشبه من صورة كيوبيد في لوحات المصورين الغربيين.
الفتى الأسمر
بينما تناولت الفنانة زينب السجيني صورة المراهقة الحالمة، نرى فنانا آخر مثل صبري منصور يبحث عن صورتها الواقعية، هذه الصورة التي تعكس ألم الحياة وقسوتها. لوحة “الفتى الأسمر”، هي واحدة من بين الأعمال المميزة للفنان المصري صبري منصور. تأتي هذه الوحة ضمن مجموعة البورتريهات القليلة التي رسمها الفنان عبر تجربته التصويرية الممتدة منذ نهاية الستينات من القرن الماضي. رسم صبري منصور نفسه، كما رسم ابنته وزوجته وأصدقاءه القريبين. تبدو صورة هذا الفتى المرسومة في بداية السبعينات غريبة وسط هؤلاء، فهو ليس واحدا من أقربائه، هو مجرد صبي كان يعمل بالأجرة في كلية الفنون الجميلة في القاهرة حيث يقوم الفنان بالتدريس. لفت وجه الفتى انتباه الفنان صبري منصور بسمته البائس، وملامحه البريئة، فقرر أن يرسمه، وليمنحه أيضا إطلالة دائمة على هواة الفن وطلابه، فاللوحة تستقر حاليا بين مقتنيات متحف الفن المصري الحديث في القاهرة.
ذلك الوجه المستدير ذو النظرات الهزيلة كأنما ينظر من مكانه داخل اللوحة إلى العالم بأسره.. هذا الفتى الأسمر حيادي الملامح يمكن أن ينتمي إلى أي مكان على الأرض، يمكنه أن ينتمي أيضا إلى أي زمان أو تاريخ. تتماهى ملامحه البريئة مع ملامح أطفال العالم كافة. قد يكون واحدا من بين الآلاف، بل من بين الملايين من الأطفال المُشردين حول العالم. هو مجرد صبي يجلس في مكانه كي يُرسم في مقابل أجر، صبي يكد بمفرده من أجل لقمة العيش، قد يكون قريبا لي أو لك أو لأي أحد من الناس على هذا الكوكب. يجلس الفتى وحيدا أمام خلفية رمادية، لا تستطيع على وجه التحديد أن تميز طبيعة تلك النظرة في عينيه، لكنك تتعاطف معه منذ الوهلة الأولى التي تنظر فيها إلى عينيه المؤرقتين. صور الوجوه الطبيعية التي يرسمها صبري منصور تشبه ملامح شخوصه داخل اللوحات، تحمل سمتها الخاص، كأنما ينتقيها من بين الآلاف من الوجوه. تتخذ شخوصه فور رسمها ذلك السمت المميز لمدينته الملونة، ويصبحون جزءا من سكانها الصامتين المنحوتين من حجر.
لا تحتل تجربة البورتريه الشخصي في مسيرة صبري منصور الإبداعية حيزا كبيرا، فلا يمكن أن نصفه برسام بورتريه، غير أن العدد القليل من أعماله المندرجة تحت هذا المسمى تكاد أن تتحول إلى أيقونات بصرية، ربما كان مرد ذلك إلى بحثه الدؤوب في كل وجه من وجوهه المرسومة عن أسطورته الخاصة. لهذا قد تجد وشائج من قربى بين تلك الوجوه الشخصية التي رسمها ووجوه الناس التي تتحرك في لوحاته، خاصة في مراحله الأولى، حين كان أميل إلى المعالجات الأكاديمية للمشهد، وقبل الدخول في تجربة القرية، تلك التجربة الأثيرة التي مهدت لتجارب لاحقة طبعت أعماله وتجربته ككل بنوع من الغموض والخيال.
الفتى يناير
قد يرى البعض أن ثمة صعوبة ما في التعبير بصريا عن الربيع العربي، إذ كيف يمكن التعبير عن حدث مازال بعد في حالة سيولة وتغير في مجرياته. فنانون كثر خاضوا غمار هذه التجربة، رسما وتصويرا، أو عن طريق وسائط أخرى. من بين هؤلاء يأتي الفنان أشرف رسلان. اختصر أشرف رسلان فعل الثورة في لوحة واحدة رسم فيها مراهقا عاري الجسد، يقف بكل تحد ليجسد ما تعنيه المراهقة من تمرد على السلطة الأبوية.. نعم، ألم تكن الثورة تحديا لتلك السلطة؟
ألم تكن خروجا عما استقر وما وقر في العقول والأفئدة من أفكار. يقف المراهق المتمرد هنا على حدود هذه السلطة معلنا تمرده واستهزاءه بكل رموزها ومقوماتها. يقف “الفتى يناير” كما أطلق عليه رسلان، مفتول العضلات، لا تخفي نظرته ذلك الحلم وتلك الرغبة العارمة في التغيير. وكي تكتمل هذه الرمزية التي يمثلها ذلك المراهق العنيد أحاطه الفنان باللون الأحمر في الخلفية، الأحمر هو لون الدم، ولون الثورة، ولون للتمرد، كما أنه لون لعنفوان المراهقة وفورتها.
حين تُستدعى تلك المشاهد الأولى للثورة من الذاكرة بعد مرور هذه السنوات وتعاقب الحوادث الكثيرة، يبدو الأمر أشبه بالحلم، أو ربما كان هكذا منذ البداية. كانت ليلة الاحتجاج الأولى فى عمر الثورة، الميدان مشتعل بالحماس والهتاف، صوت واحد، وهدف مشترك. العشرات من الشباب والفتيات يفترشون الأرض استعدادا للمبيت. ورغم برودة الجو، كان الجميع يستدفئون بالفكرة، ويُحوّطون عليها. لخص أشرف رسلان كل ذلك في عيون ذلك الفتى العاري الذي لا يأبه بشىء. وجه مراهق يترنح بين الطفولة والشباب.
لم يتوقف الفنان أشرف رسلان منذ اندلاع أحداث يناير عن رسم هذه الوجوه.. وجوه قد لا تتشابه ملامحها مع ذواتنا، لكنها قريبة منا على نحو ما. وجوه تمتلك الطهر والبصيرة الكافية للنفاذ إلى مشاعرنا، تدفعنا حين نتأملها إلى أن نلوذ بالصمت، لا ندرى من منا يتطلع إلى الآخر ويراقبه. وجوه شاخصة، بملامح رائقة وعيون واسعة، تحمل نظرة لانهائية، وحلما مضيئا لا تخبو شعلته للأبد. يختصر وجه الفتى يناير كل هذه الشخوص، كأسطورة تتردد بلا انتهاء، تذكرنا والأجيال القادمة بهؤلاء الذين واجهوا الخوف ذات يوم وهم مرفوعو الرأس، حالمين بعالم أفضل.