صورة على الجدار
ما الذي يجعل لحظة بعينها ماثلة أمام أعيننا طوال حياتنا، ندور حولها، ونسبر عمقها في أيامنا، ونتذكر أدّق تفاصيلها، وتنتابنا الرعدة نفسها خوفًا أو حبًّا أو حنينًا لها! تتكاثف رائحتها رغم توغلها في الزمن، وتتقاطع ظلالها فوق رؤوسنا وتنبعث من أرجائها موسيقى خاصة تظل تترددُ في فضاءِ مسائنا.
كثيرة هي اللحظات الأولى التي حفرت خريطتها الواضحة في أرواحنا وجعلتنا نكتشف مَنْ نحن ومَنْ سنكون تحديدًا ولو بعد تسعين عامًا، هذه اللحظات الأولى أبتْ أن يجرفها النسيان أو تشوشها لحظات مُتشابهات، وظلت أمام ملايين الدقائق المُتعاقبة تُكرّر بهدوء: ها أنا أمارس خلودي الخاص.
كان طلاء غرفتي الأولى المعلقة عليه صورة جمال عبدالناصر متهالكًا وضائعًا في عدة ألوان تميل جميعها إلى الاصفرار، كنت أرى على صفحة هذا الجدار كلابًا شرسة، وملوكاً تُكلل رؤوسها تيجان غريبة الشكل لم تستطع البشرية تصميمها فيما بعد، وأتابع بشغف هروب طفلة مُعفرة الجديلة تشبهني تمامًا يعدو خلفها رجل عملاق ذو لحية بيضاء، كان إخوتي الصغار يضيفون كل يوم ما يصلح لأن يكون عينَ نسر أو قمرًا مستديرًا فيزداد ثراء المَشاهد.. من غرفتي الأولى هذه، ظل أوّل ما يلفت انتباهي في أيّ غرفة جدرانها.
كانت لي على كل حال عينان متمرستان على إزاحة الأثاث أيًّا كانت ضخامته وإلقائه بعيدًا وتحرير جدار واحد على الأقل مما يعيق رؤيته.. أزحت كنبة إسطنبولي عملاقة، وصالون ماركة روميو وجولييت، وغرف نوم من موضات متعاقبة وصورًا لقطط قطيفية الملمس وراقصة الكانفاه الشهيرة التي يقعي بالقرب من ركبتيها الطبال بطاقيته الصغيرة وطفل جميل باك وآيات قرآنية مرّصعة بلمعة زاعقة تؤهلها أن تكون مرايا.
ظلّت الغرفة ماثلة دائمًا أمامي وخلفها الحقول التي رغم اخضرارها نهارًا بقيت موحشة شديدة السواد ليلاً مسكونة بكل حكايات الجن والعفاريت والقتلى والمقتولين والأطفال الرضع المرميين في لحظاتِ تخلٍ مؤلمة والخارجين من السواقي والترع بلونهم الأزرق الباهت… قليلة هي الذكريات التي أتذكرها قبل السادسة.. ربما جملة مبتورة لا أتذكر قائلها أو نصف حكاية أو مشهد غارق في عشرات المَشاهد التي تُشبهه، سمعت في هذه الأيام للمرة الأولى: أنني لست طبيعية.
تبدل الجدار المُتحرر من أثاثه والمواجه لعينيّ مرارًا، ظلّ لفترةٍ تقترب من السبعة أعوام مجرد جدار زجاجي هو محصلة نوافذ عملاقة ملتصقة ببعضها البعض تصفعها ثلوج موسكو وتتراكم على إفريزها لمدة ثلاثة أشهر كاملة، ثم تذوب بعد ذلك على مهلٍ مشكلة أضخم معرض نحت لتماثيل تعرف جيدًا أن مصيرها الوحيد هو الأفول، ثم صار جدارًا ممتلئًا بمئات الكتب التي يخرج منها كل ليلة مؤلفوها يتحاورون معي أحيانًا ويوجهون لي اللوم أحيانًا أخرى وهم يلهون بكلماتي ولكنهم دائمًا ما يربتون بحنان بالغ عند الفجر على كتفي.
مع تبدل الغرف وتبدل جدرانها ومرور السنوات اكتشفت ببساطة أننا نكاد نُولد هكذا.. على نحو ما سنكونه.. جزءٌ كبيرٌ منا ربما هو الجزء الأهم يظلّ محتفظًا بشفرة خاصة تُحدد هويتنا، فأنا ما زلت أرتعد كلما رأيت حتى على شاشة التلفزيون حشرات صغيرة زاحفة، بينما أتأمل بهدوء الوحوش الكاسرة، ما زلت أرى النخلات العاليات في باحة الدار وهي تزحف إليّ، وما زالت الحكايات والشخوص تتبدل كل ليلة.
أو ليس مدهشًا أن ما تغير في استقبالي للعالم هو سقوط بعض القشور.. ربما كانت هي القشور التي سقطت من طلاء غرفتي القديم ونمو قدرتي على إزاحة الحقول والنخلات السائرات والغرف والبيوت والجدران بجميع أشكالها لأتابعَ في فضاء افتراضي شاسعٍ شخوصًا تخرج مني كل ليلةٍ، وأطارد فيه نهاياتِ رواياتٍ من تأليفي أنا.