ضياء نجمة في غابة

الثلاثاء 2019/10/01
لوحة حسين طربيه

“مَن أخطأته المنايا قيّدته الليالي والسنون”

(الخليل بن أحمد)

في الركن القصيّ من مقهى كوستا

المُضاءَ الجوانب والحوّاف، نرى النُدُل

جيئةً وذهاباً، وسط غيمةٍ خفيفةٍ

وكأنما في كهف، أشباحه ورسومه

تتموّج بفيض غموضها السحيق.

من طاولتك تنظرين إلى ركني القصي

نظرةَ عاشقة أضناها غرامُ

البحث عن ضالة جوهرها الشريد.

سرحتُ في رحاب النشوة طويلاً

تخيلتُ دموعاً وأشجاراً بريّة، عصافيرَ

وغنماً يسرح بها عذارى وعُشّاق..

لكن الاكتشاف لم يكن أليماً، حين

عرفتُ أنكِ لا تنظرين الى أحد.

***

كان هولاكو يزهو بكبريائهِ

فوق الجبال والهامات

دانت له الأممُ والممالك

أحصنتهُ تخطفُ البَرق والطيرَ

من وكناتِه

قبل انبلاج ضوءِ الصباح.

وحين حانت ساعة احتضارهِ

لم يتذكّر إلا مؤخّرة امرأة قوقازيّةٍ

تهتز بمشربٍ في الساحة العامّة

بينما الجثث تتوزّع في الجنَباتِ

والآفاق.

***

لست من العابرين ولا من المقيمين.

لستُ إلا ذلك الشبح اللامرئي

وهو يحوم فوق جثة تاريخٍ

أحالتْه الأعاصيرُ الهُوجُ

إلى أشلاءٍ وركام.

***

الراحلون في بهو الفندق، بالمناكب والأكتاف يتدافعون تدافع الموتى في قبورهم التي تبعثرت من غير شواهد ولا أشجار.

موظفة الفندق في حركةٍ عاصفة لا تفكر إلا في آخر الأسبوع وعطلةٍ هانئة.

***

من أين يأتي كل هؤلاء التائهين الحيارى والثقيلي الأحمال؟

من كل الجهات يتدفقون كهدير مياهٍ أسطوريّة.

لم يعدْ هناك مسيحٌ يُسند أرواحهم التي توشك على الاضمحلال.

***

الحقائبُ مُتخمةٌ

والقلوبُ جريحةٌ..

يا حادي العيس

ما في الهوادج من أحدٍ

والمسافات مصبوغةٌ بدماء الأحبة

والذين عادوا لم يشهدوا أثراً

لمنازلَ كانت

ظلّ مغيبٍ، رمادُ غضَى

حيث كانت الريح تهفو

والسماء تحن الى ساكنيها

حين لا فرقَ بين سماءٍ

وأرض.

ولائم آلهةٍ وبشر

في شغاف القلوب.

***

في أي بقعةٍ أو صقْعٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجّدِ الأول، بعد مغادرته الفردوس ونفيه بسبب الخطيئة الساذجة التي أسّست لمجمل الخطايا والجرائم اللاحقة على مر الأزمان وتصرّمها؟

في أي بقعة من كوكبه المنكود كأرضٍ للعقاب والنأي عن السعادة، حين قال:

(…) "تغيّرت البلادُ ومن عليها

  ووجه الأرض معْبر قبيحُ"

كأنما كان ذلك الجدُ يعرف قبلاً تلك البلاد، أرض المنفى الأخير. حسب ما توحي العبارة المنسوبة إليه، وما حاق بها من انقلابات وصدوع، أفضت إلى هذا القبح شبه المطلق، أرض غبراء كابية لا تنزل النعمة ساحتَها ولا تنزل الرأفة والحنان.

***

لو كنتُ ملكاً على مملكة شاسعة الأرجاء والنعيم والمساحات، لارتكبت في ظرف ساعات ما لا يخطر على بال طاغية من سلالة طغاةٍ عريقة القتل والمحتد… ما لا يستطيع أن يرتكبه في كامل حياته وحياة سُلالته المديدة في الزمن والبشاعة والاستباحة..

يحلم السجين بين الجلدات التي تهوي على جسمه المتداعي من سياط الجلّادين… (بعض توصيف لإنسان السلالة الآدمية).

***

لست شاعراً ولا حالماً بمجدٍ أدبي تليد.

لكن الغيومَ حين لامستْ جسدي

وأرى الأبقارَ ناعسةً

في الحقول

أتحوّل بنشوة الحلم إلى قوس قزحٍ، سماؤهُ تمطر شآبيبَ الرحمة والأخوّة والحنان.

***

مثل نجمةِ الهاوية

تلمعين في ظلام الصحراء

أو في ترّهات الغابة

غضبكِ الوحشي (غضب الشجر المبارك من أجل خلق الخضرة الأبهى)

وحلمكِ الأقحوان.

***

في هذه اللحظة، من صباح يوم غائم في بلاد الغال القدماء، حيث كانت تحتدم حروبٌ ومذابح من غير اسم ولا تاريخ..

أتذكرك يا إبراهيم الجرادي يا خيري منصور، موسى وهبة، جابر مرهون.. وبقية العقد الفريد الراحل في هذا العام وكل الأعوام. وجوهكم أراها في مارّة كُثر توزع ابتساماتها بين الغرباء والحشود.

السحب تعبر ثقيلة ملآى

الأقداح تُقرع على حافة النهر الذي يشطر البلدة الى جنائن وضفاف..

هذه اللحظة في هذا المكان البعيد الذي ألوذ به من جبروت الظلام والشمس:

أتذكركم أيها الأصدقاء أحياءً وموتى، محمولين على أجنحة النأي والكلمات..

لوحة حسين طربيه
لوحة حسين طربيه

***

غروبٌ على دير الراهبات

يسيل شبقاً على النحور والشفاه

غروبٌ على ثكنةٍ للعسْكر

غروبٌ على ضفاف الأحلام

غروبٌ على مكبّرات للصوت

تنعق بالكوابيس والوعيد

غروبٌ على الصبايا المراهقات

يتقافزن على حبال الأمنيات

غروبٌ على المقابر والجوامع والإسطبلات

غروبٌ على الشعراء والعُشّاق

على الجلادين والسجون

غروبٌ يحمل البلاد إلى حتفِها

في مقبرة السُلالات..

***

بعد قليل: تذهب الأشجار الى غروبها

تعانق الظِلالَ

والأشباح.

***

القرويّات يحملن الغروبَ

في جرار الفخّار على الرؤوسِ

والأكتاف

الحطّابون، أحلامَ الشجر المكسور

وقوداً لشتاءٍ قادم

رجال الأعمال يحملون الحقائبَ المُثقلة

بالمظالم والجروح..

***

عطر حضوركِ

يملأ آفاقي

بحكمة الوردِ وجنون الأطفال.

***

كم أنت واهبة للحياة أيتها الأشجار

أيتها الجبال والغابات

كل هذه الحيوات، ما ظهر منها، وما بطن أكثر،

ترعى وتتغذى في ظِلال مجدكِ الباسق.

كل هذه الطيور والحيوات، والجوارح

والسباع، تتناسلُ جيلاً بعد آخر في أزلكِ

الذي بلا حدود..

يبزغ نمرٌ مرقّش من زرقتكِ الحالكة.

النمر يحمل جمال الآلهة وتمرّد إبليس

ذئب يعوي على مقربةٍ من بحيرة

ذئبُ الفَقد يعوي قربَ البحيرة التي

انتحر في تخومها (لودفيك الثاني) من فرطِ

عواصِفه ورؤاه..

مزدانة بالنجوم والنيازك أنتِ

تسّاقط مع الأوراق الخُضر الأرجوانيّة

في حُضنكِ التليد

أيتها الناطقة بلسان الغيبِ

ولهيب الحواس.

***

"في كل حبّة رملٍ يمكن أن نرى العالم بأكمله…"

كم من العوالم في رمال البحار العُمانيّة الشاسعة؟!

لكنّ القوم لا يرون البحر والرمال، ولا يرون أنفسهم..

عمىً وراثيّ ومكتسب، مُستحكم وعنيد.

***

مع كلبتها (آخر ما تبقى من حطام الدنيا) تتنزّه في الحديقة ذات الأبراج والتماثيل، المرأة المُسنّة ذات المظهر الأرستقراطي. لا تتذكر مجدَ الحضارة، ولا مغامرات الجسد

والمعرفة.. الكلبة وحدَها تقفز في الحديقة والذاكرة.

***

مثلما حبّة الرمل تلخص عالماً في رحابتها اللامرئيّة، فهذا العصفور الصغير الأصهب الذي يتقافز أمامي في صباح مأهول بغيوم تطل من قسماتها شمسٌ رحيمة، يلخصُ عالمَ الطيور والغابات في حركته وصوت وحيه الرباني، يسرحُ وكأنما في حقولِ أبديةٍ خالدة..

***

الخلود يتناهى أحياناً في حيوات متناهية الصِغر. تكادُ لا تُرى على وجه البسيطة والتاريخ الصاخب بالقادة والرموز، بالحروب والاكتشافات والأساطيل الذريّة..

***

"ان الدودةَ هي الإمبراطور الوحيد والأكثر خبرةً»، بشأن التغذية، فنحن نسمّن الكثير من المخلوقات لكي تسمّننا، ولكننا نسمّن أنفسنا للديدان"..

أقرأ هذه العبارة لشكسبير التي تعيد اللحن الجنائزيّ لمآلات البشر ومصيرهم وتُذكر الأباطرة عبر التاريخ، بأنهم ليسوا أعظم من دودة الأرض، فاغرةً شدقيها بشبق انتظار زيارتهم الأخيرة. الدودة أو الديدان التي سيكونون مع حاشيتهم وجندهم في ضيافتها الأزليّة عمّا قريب.. هذه المرة هي التي ستغمرهم بكرمها ودَفق نِعمها السامية جهةُ الافتراس والتنكيل والمحو.

لكن الأباطرة لا يريدون أن يتذكروا، أن يعكّر صفوَ معيشهم وبذخه أيُّ معكّرٍ، مهما كانت بداهته وحتميته الصارمة التي لا فكاك منها. رغم كل التمائم والقصور والأسوار العالية والجيوش (… ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ) الأباطرة لا يرعون عن غِواياتهم وظلمهم الساحق لحياة البشر والحيوان والنبات، حتى تستلمهم تلك الهوام الأسطوريّة كي تذكّرهم بماضيهم المجيد، وربما النَدم ولاتَ ساعة مندم. وربما سيكونون في مكان آخر خارج الندم والغبطة والعقاب. لكن الأكيد أن الدودة-الهامة، ستكون في استقبالهم بكامل جبروتها وكامل الصفات التي كانت تزيّن حياتهم ببريقها السحري الأخّاذ..

أقرأ العبارة الشكسبيريّة على سبيل الصدفة في الحديقة العامة بهذه المدينة الويلزيّة ذات الصيف الشتوي الممطر فوق البحر وعلى قنوات الأنهار، حيث قراصنة الشمال كانوا يعبرون بلحاهم الصهباء المضرّجة بالعواصف والنبيذ والذين لم يكونوا بحاجة إلى قراءة شكسبير أو إليوت، كي يتذكروا ويدركوا صواعق الحياة والمآلات والمصير، فهم يمتطون وقائعها اليومية وأشباحها المتناسلة، في ظلمات المياه والأعماق كل لحظة وهنيهة تحملهم إلى الأبعد والأكثر خطورة ووحشية.

ألحان الكنائس في غزارة أجراسها تتوالي مجلجلةً في هذا الفضاء المدلهم البهيج..

إنه يوم أحد..

****

وأقرأ أيضا لباسكال "كل الشرّ الإنساني بسبب واحد: عدم قدرة المرء على الجلوس هادئاً في غرفة".

بعد قراءتي عبارة الفيلسوف الفرنسي التي هي من تلك العبارات أو الشذرات المكثفة بالمعاني والدلالات حد الانفجار، تبادر إلى ذهني أن قائلها يقطن بلداً مثل فرنسا طقساً واجتماعاً وحضارة، حيث الجلوس الاختياري في تلك الغرفة الموصوفة، يمكن أن يكون مختبراً يلخّص العالم، الأماكن والثقافات والطقوس. جلوس حر في غرفة تمتد لأمتار، لكنها بحجم الكون دلالة ومعنى، يمكنها أن تمتص الشر والعنف اللذين هما من طبائع البشر الأكثر عمقا وأصالة، ويتجنّب صاحبها الارتطام بالخارج حيث يسكن الشر وينتشر العنف الصامت الخبيء أو الصارخ الفصيح. اللجوء إلى الغرفة لجوء إلى سكينة الداخل وهدوئه مقابل الخارج وصخبه.

بهذا المنحى تأخذ الغرفة بعدها الرمزي وليس المكاني فحسب. لكن انطلاقاً من هذا الأخير وسماته المتجسّدة في غرفة يحتويها منزل وحيّ ومدينة أو قرية.. لكن بما أن شذرات من هذا النوع «حمالة أوجه» فهذا. (والعبارة الأدبية عامة على الأرجح كذلك) البعد الواقعي الحسي للغرفة، ينقلب دلاليا، إذا كان في بلد عربي على سبيل المثال وخليجي على الأخص، حيث اللجوء إلى الغرفة أو الأماكن المغلقة بالتكييف والهواء الصناعي ضرورة وإجباراً كهروب من جبروت الطقس وحرارته البالغة. هنا ينتفي فعل الاختيار في معظم أوقات العام، للجلوس الحُرّ في الغرفة داخل البيت، لينطلق منها الخيال المثمر إلى مناطقه الشاسعة ممتصاً عنف الخارج المدلهمّ الذي يغري عنف الداخل الخبيء بالانطلاق والانفجار. فتجسد الشر كسلوك ونمط حياة، أفراداً وجماعات ودولاً.. لكن العزلة، إذا أخذنا الغرفة كبعد رمزي للعزلة عن الحشد وقيم القطيع المهيمنة، تبقى ضرورة في كل زمان ومكان، ولا يمكن للإنسان، المبدع خاصة، أن يحقق شيئا ذا معنى إلا في ظلال نأيها العميق.

العبارة حمّالة أوجه ودلالات وربما ثمة بعد لاهوتي فباسكال بجانب صفتيه كعالم فيزياء وفيلسوف فهو لاهوتي يربط الوقائع والنظريات بأبعاد لاهوتية. وربما غير ذلك.

***

هذا الصباح في حديقة فندق (السانت بول) بمنطقة (همر سميث). هذا الفندق الذي يحمل علامة تاريخ حاسمة في التاريخ الأوروبي، كونه احتضن الاجتماع الذي سيقلب معادلة الحرب الكونيّة، بين ونستون تشرشل والرئيس الأميركي أيزنهاور، مع جنرالات الحرب. ومن أفقه ينطلق إنزال (النورماندي) الذي احتفل أحفاد المنتصرون بوقائعه منذ شهر من هذه اللحظة التي أتسلى بالكتابة في فنائه الأخضر، وقد كان سَكني فيه بمحض الصدفة فذكريات الحروب والمعارك في البرهة العربية الراهنة، لا تبعث إلا الأسى والألم، بعيدة كانت أم قريبة.

أسرّح النظر في الأشجار العتيقة الملتفّة بجذوعها وأغصانها وجذاميرها غير عابئة بحروب البشر وفَنائهم، انتصاراتهم وهزائمهم، وأنا أقرأ كتيباً يُقارب سيرة (روسو) ويختزلها، مما جعل انسجام النظر والتحديق الشارد في أشجار الغابة الصغيرة مع مقولات روسو ورؤاه التي تشبه الشطح الصوفي، حول الحضارة وقذاراتها المرضيّة والوبائيّة «إن تقدم العلوم والفنون يفضي إلى إفساد الأخلاق».. وحنينه إلى (إنسان الطبيعة) الفطري الحر المطمئن الذي لا تُحرك حياته المصالح والصراعات التي بالضرورة تفضي إلى سفك الدماء والمجزرة..

والبالغ الطرافة والمفارقة في هذا السياق، حين بعث (روسو) بمشروع كتابه (خطاب التفاوت بين البشر) إلى (فولتير) والاثنان من أبرز مفكري عصر الأنوار والعقلانية الحديثة الذي مَهد بشكل حاسم لانبعاث الحضارة الأوروبية والبشريّة. ضاق فولتير ذرعاً بمقولات زميله المتشظي بين أطاريح العقل والبناء الحضاري وإنجازاته الدستورية والمؤسسية والقانونية (العقد الاجتماعي) وبين حنينه إلى فجر بدايات الكائن على هذه الأرض والفطرة والغريزة، فكتب فولتير ردّه الساخر «لم يُسّخر أحد فكره بقدر ما سَخّرته أنت لكي تجعلنا شبيهين بالبهائم، يشتهي الإنسان حينما يقرأ خطابك أن يمشي على أربع».

لو أطلّ (روسو) راهناً من قبره سيرى ما أنجزته الحضارة من عظمة وابتكارات كان نزوعه إلى نقيضها، رغم مساهمته الفاعلة في صياغتها، لكنه يرى بشكل أكثر انسجاماً مع رؤيته وحدْسه، ذلك الجانب المظلم الوحشي الدامي في السحق والتدمير على مستوى الكوكب الذي انقرض منه شبح (الإنسان الطبيعي) واضمحل ليجد رجال الأعمال والتفاوتات الطبقيّة، بأرقامها الفلكية ومسوخات الجشع والمال.

تبدّى (روسو) أنه من ذلك الرعيل من الفلاسفة النادرين في تاريخ المعرفة ربما، أولئك الذين يغنيهم فكر التناقض ويثريهم التباين الغريب بين الواقع والحلم والحنين، فهو يعرف استحالة بعث «إنسان الطبيعة» والوقائع راهنا ومستقبلاً هي التي تؤرخ للتقدم الحضاري علماً وفناً وابتكارات لا تنتهي عند حد، لكنه احتفظ بحلم الشاعر وحدسه العميق.

روسو، الذي يتبنى أكثر الفضائل الأخلاقية سمواً وبعداً عن المنفعة والغاية بنزوعه الطبيعي لا يتورع، عن أن يرسل أطفاله السبعة إلى دور الأيتام.

أيّ متاهة من التناقضات تتلاطم في الواقع والمخيلة نظراً وسلوكاً لدى بعض أرباب الفكر الثاقب والرؤية العميقة، بحيث يحار الباحث والقارئ في سبْر هذه الأغوار المعتمة أو الترحل في تخومها المفُعَمة بالالتباس البهيمي وكذلك الإنساني السامي؟!

لوحة حسين طربيه
لوحة حسين طربيه

***

تضاريس جذوع الأشجار العملاقة وخرائطها المحفورة بمعاول السنين المتراكمة، الخصيبة منها والعجاف، شامخة بحزن، أمام الزمن والعواصف الرعديّة والمطر. كلمة الشموخ لا ينبغي أن تستعمل إلا للأشجار والجبال وتجليات الطبيعة الوحشيّة، وليس لبني البشر… كم من ملك وجنرال تنزه في ظلالها، ذهبوا إلى عدمهم الساحق من غير أن تحس بوجودهم ولا بالغياب مثل الحشرات والدواب في دوراتها الحياتيّة القصيرة. لكن هذه لا تفكر في مجد أو غزو وإنزال في خضمات هذه الحياة الفانية.

الطيور والسناجب تتقافز بفرح غامر تحت الأكمة الملتفة في دروب الحديقة. والكلب يركض وراء كرة العشب كأنما يطارد حلم أنثى قد تعود بعد قليل، بين القفزة والأخرى يطلق نباح الأمل والانتظار.

حيَوات هذه الكائنات قصيرة لكنها مفعمة بغبطة الغريزة والفرح والحريّة.

***

رجل في منتصف العمر على ما يبدو. (لكن أيّ سنة تحدد مفاصل العمر ومنتصفه؟) يجلس على كرسي الحديقة المستطيل، بحركة مرتبكة يفتح علبة البيرة التي تحدث فرقعة في هدوء الحديقة. على رغم هيئته الرثة لا يبدو عليه أنه مشرد (هوملس) مكلوم المظهر والملامح. حدست أن ميله إلى الشقارة لا يجعل منه إنكليزياً، إنه من نواحي أوروبا أو من بعض دول أميركا اللاتينية المنحدرين من أصل أوروبي خاصة الأرجنتين، بعد أن سفح عدة علب رخيصة، تحدث عبر السياج مع نادلة المقهى الذي أجلس فيه بلغة تنتمي إلى إحدى دول أوروبا الشرقية. فهؤلاء أصبحوا جيش عمالة يمد المراكز بما تطلبه في سياق بنائها وحياتها. تبدو هذه الدول التي تشكل المستوى الثاني في التطور التكنولوجي، أشبه بالهوامش بهذا المعنى، لكنها لا تقارن بالطبع بالهوامش المستنقعيّة للعالم الثالث التقليدي فهي بعد تحررها من عنف التوليتارية الشيوعية، تعبر هذا المخاض العسير من التشظي والفساد والديمقراطية الرخوة… وما زالت تتطلع إلى الحياة والمستقبل الذي يليق بمسارها التاريخي وقدراتها علماً وفناً وجمالاً.

الرجل ينهض من كرسيّه في الحديقة، بعد أن أباد كل مؤونته الخمريّة ماضياً في المدينة الكبيرة إلى مجهوله الخاص.

وهناك طيور دوري وبلابل وعقاعق طيور ماء وما يشبه القطا تتجمع في مراعي جذوع الأشجار العملاقة تنقر رزقها وتتطاير على مسافات قصيرة في سماء الحديقة الخضراء النديّة.

***

غيوم الصيف التي تتلوّى وتعبر في سمائها،

تلك هي أعمارنا والذكريات.

الأشجار المنتشرة على كوكب

اليباس

هي ما تبقى من وعد للخليقة المنذورة للهلاك

المدينة هي المدينة، بشريّة

تندفع في بريّة الدم والأرق

دخان وصليل عربات ومذابح

الأنهار تمارس أزليّتها من غير خطأ في الاتجاه.

لا شيء يعلل تحليق الطائر،

عدا علة الطيران في أفق الحرية

طيور تتكاثر على منصّات الأشجار

طيور هائمة

وديعة وأخرى تخبط الجذوع

والأغصان في نشوة سفاد

أو نذير قيامة

طيور لا تعرف المدينة إلا كمقبرة

أو صحراء غادرتها رمالها الأبديّة

طيور تدخل المقاهي والحانات فترتطم

بالجدران والزبائن بعنف مَن أضاع

طريقه ووقع في مصيدة:

المقاهي التي تعبرها كل يوم لا تعرفها

إلا عبر الفضاء الطلْق.

الغريبة المزدانة بالهواء والطيران.

***

اليوم لا أعرف ما هو اسم هذا اليوم فلم أتطلع الى الشاشة كي أعرف الأخبار، بداية من اسم هذا اليوم في نهر الزمان الذي أتركه يتدفق في جسدي وجسد الخليقة بمياهه العذبة والمرّة… ما أعرفه أن يوم عودتي من هذه البلاد الباردة يقترب، لكني أحس في هذه اللحظة من الصباح المطل على أشجار الحديقة المتماوجة بفعل ريح خفيفة، أحس بصفاء ذهني لم أعهده في أيام كثيرة تعبرني في هذا المكان أو ذاك الزقاق، صفاء لا أعرف مصدر شفافيته وحضوره الروحي الأخاذ لدرجة أنني أريد أن أفتح النافذة وأقفز إلى صحن الحديقة كطفل أو طائر منتشٍ بطيرانه في أنحاء الحقل والنجيل المخضب بندى أمطار البارحة. هذا الصفاء وهذا الانخطاف الروحي في هذا اليوم التائه في زحمة الأيام على رغم الحديث المأساوي في سهرة البارحة مع شخص تعرفت عليه حديثاً على غير عادتي، أسرني مع زوجته، باللطف والدماثة وتلك الثقافة والتجارب، من غير تكلف ولا ادعاء يصاحب عادة سلوك الكثير ممن ينتمون الى هذه الفئة «المثقفون» أو الكتاب. سرده لبعض تجاربه هو ما تبقى من تلك القرية الفلسطينية التي أضحت قصية وبعيدة من غير ذلك الاسم الذي حملته، حين كانت مأهولة بسكانها الأصليين، لقد سحقها المحو والاحتلال. تجارب فاجعة أحاقت بالصديق الجديد وزوجته، ليس في البلد المحتل الذي لا يكاد يذكره كحياة ومعيش، وإنما عبر الصدفة المشؤومة في بلاد الحضارة والقانون أودتْ بأمثاله إلى العُصاب والجنون والموت..

وقبل ليلة البارحة كان سياق صدفة الحديث دفعني إلى أن أروي لشاعرتين من عُمان والعراق، عن ذلك الحدث المأساوي، حيث أواخر الستينات حين كنت طفلاً أزور مع العائلة صهراً لنا، كان قاضياً في مدينة (نزوى) وشاهدت الحصان المُلقى على الأرض في برهة ألم أقصى واحتضار، وكانت الأحصنة حوله تصهل بنشوة، تسرح في فضاء القلعة بأفراح الحيوانات الخاصة…. تجمع مسؤولو حظائر الخيل حول الحصان المريض الكابي يتبادلون أحاديث غامضة بالنسبة إليّ في ذلك العمر المبكر، لحظات ورأيت أحدهم يطلق على الحصان عدة رصاصات أودت به في الحال مغمضاً عينيه المرهقتين الى الأبد.

سمعت لاحقاً أن تلك المقتَلة تُسمى (رصاصة الرحمة) تخليصاً له من أهوال آلام تتفاقم من غير رجاء ولا أمل.. وهو ما انتقل في العصر الحديث خاصة إلى عالم الإنسان حين يبلغ المرض العضال بالكائن درجةً لا عود منها ولا رجاء..

إذا كانت نهاراتي في الأيام الفائتة أقضيها في الحدائق الكبيرة والجنائن مبتهجا بمشاهد الطبيعة والمياه والحيوات، فالليالي الأخيرة مع بعض الأصدقاء المقيمين، على النقيض كانت سرداً مأساوياً لا ينتهي عند حد، وبمثله لا تبخل الأرض العربية خاصة في هذه البرهة من أزمنة الانحطاط الكاسر.

المهم في هذا اليوم الذي لا أعرف اسمه وأنا أتطلع الى فضاء الحديقة، أحس بهذا الصفاء وذلك الانخطاف الذي يذكرني بلحظات التحليق والشطح الصوفي.

***

الحصان المقتول برصاص الرحمة، ظل عبر المسافات والسنين الضوئية، يلاحقني صهيلهُ وأنينه الجريح حتى انطفاء العينين الكبيرتين، كما يلاحقنا تاريخ ثورات وشعوبٍ منحورة مغدورة… ولا يفتأ كذلك حتى انطفاء هذا الكائن حامل الجبال والذكريات على كتفين أضناهما ليلُ الهاجرة والرحيل والغياب.

***

لكن السؤال، ما الذي يجعلني منتشياً بصفاء روحي وصباح رائق بعد ليلتين من أحاديث دمويّة كابوسيّة، أو بالأحرى ليال على هذا النحو المحتشد بآلام البشر والحيوان. في البرهة العريبّة الراهنة، ما أن نلتقي بصديق حتى لو كان يعيش في أجمل مدن العالم، إلا وينفجر لا شعورياً حول تلك البلاد المنكوبة بكل أنواع الأوبئة والمذابح والكراهيات، ولا نفع من محاولة التخفيف أو نفعه ضئيل، من الهروب من براثن ذلك الوحش الأسطوري الذي يربض على النفوس والقلوب.

أما تلك الهنيهات من الصفاء والروقان فربما على الطريقة (الأرسطوية) في الوظيفة التطهيرية للمسرح التراجيدي.

***

البحر، أمواجُه تعلو سماءً

لوحة حسين طربيه
لوحة حسين طربيه

خفيضةً في (صور)

والبحّارة يتحدثون عن أمجاد غابرة

حين كانوا يدفعون السفن نحو الأقاصي

بأيدٍ مجدولةٍ من شغف وعزيمة

مشتبكين مع قراصنة ووحوش

بحريّة لا أسماءَ لها

بينما الأعاصير الرعديّة تزمجر في الأعماق

كان سهيلُ دليلهم

والظلام يلف الكون برداء الموت.

هل تذكّروا آخر تلويحة وداعٍ

بتلك الشواطئ والضفاف؟

تذكروا الأطفال والنساء

نشيد العودة القريبة

إلى الأهل والديار

صور التي تنام في هدير المحيط

وكتب التاريخ

سلاماً على أرواح بحارتك

في الذاكرة ما زالوا يمخرون العباب..

***

رغم أنها تدفع عربة طفلها إلا أن ضحكتها بين أشجار الحديقة، تبعث الرغبة حتى في الموتى والطيور..

***

ناصر وعزّان، ينظران إليّ من علياءِ نافذة الفندق الإنكليزي حيث أجلس في المقهى المتماهي مع الشارع الصاخب بالمارّة والمركبات..

نظرتهما لامست عمق كياني، قبل أن أغرق في أمواج الحشْد، أخذْت بيدي إلى أفق الروح البعيد، أنقذت الغريق من براثن يأسِه الدامي.

***

على طريقة السورياليين وأنسي الحاج..

يقولون: إنكم لا تكتبون شعراً، ومن قال لكم إننا نكتب هذا المسمى كذلك؟!

الشعر ذهب مع أبي مسلم البهلاني وأحمد شوقي وقبلهما أجيال وأطوار، من أفذاذٍ لا يجود الزمان بمثلهم إلا قليلاً..

إننا لا نفعل، إلا أن نمرّغ ونسحب، عبر الكلمات والصور، جنازةَ العالم إلى هاويتها الأخيرة.

رفيف النورس في الحديقة على حافة النهر، هو الشعر/لعب الأطفال مع السناجب والحيوانات هو الشعر.

صمت المقابر والضفاف على غَمْر المياه هو الشعر..

عجوز يتذكر انكسارات أيامه ولياليه هو الشعر..

نباح الكلاب ونقيق الضفادع في الليل العماني الحالك هو الشعر..

سيلان الأودية الجارف، بعد طول انقطاع ومَحلٍ هو الشعر..

الصلاة المرفوعة بإخلاص إلى بارئها

دعوة المظلوم ولعنته

ظباءٌ ترعى في ذاكرة المحبين، نورسٌ يقود البحّارة إلى جزيرة الكنز المنهوب،

حيث لم يتبق إلا طيف الذهب والحطام،

هناك يقيم الشعر..

ويسكن أيضا في عينيْ القرصان، خريطة التيه، وفي الإوزّ المهاجر.

في الموجة التي تعيد تكرار نفسها

في عبث مرآة الوجود.

طفل يلهو بإطعام الحمام والسناجب في البلاد الويلزيّة، بانخطاف فرحٍ أقصى، على رغم أجواء سماءٍ مدلهمة حيث الغداف يكرك على صغاره خوفاً من الرعد والعاصفة.

الشعر ليس إلا ذلك التحديق المذعور في صخرة الأزل..

دورات عقاب نسْر القفقاس وهو يفترس كبد سارقِ نار الآلهة.

إلا عزلة الموتى البهيجة

وحلم الفارس المكسور في حوْمةِ الوغى

ارتجافة جسدين وحّدهما، وَلهُ أبديةٍ

عابرة.

الشعر ليس أكثر من هذا المشهد، حيث أطفال الحياة يلعبون الغمّيضة مع الطيور والحيوانات وسط أشجار الغابة، وكأنما في أركاديا الإغريق حيث (إنسان الطبيعة)

في انسجامِه العميق.

الشعر أن تخرج من مخبئك وتقتل أيّ شخصٍ تصادفهُ في الطريق

أو تفتك بما تيسر من سبايا وسائحات.

الشعر أن لا تقول شعراً

أن تصمت، وتذهب إلى أعمق طبقةٍ في الكراهية والجحيم

وتباً في العصر الحديث والقديم

 (روسو) أندريه كريستون. ت: نبيه صقر.

المادة بالتنسيق مع مجلة نزوى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.