ضياع

لوحة: هبة عيزوق

رأسي يكاد ينفجر، لا بدّ أننّي سكرت حتى نمت هكذا على الكرسي، متى غفوت؟ أكاد لا أذكر بدقة، عدت منهكاً هذا المساء، كان تيار الموّلدة الخاص مفصولاً عن غرفتي.. تيار الشبكة العامة يحييني ست ساعات، ويخنقني اثنتي عشرة ساعة أخرى.. تقنين!

 غرفتي مقفرة كالقبر، باردة، ظلمتها القاسية الموحشة تطلُّ من شدقٍ مفغور، والريح خلف الباب أرواح ثكلى، تعول، في ممر القبو الرطب المفضي إليّ.

 حدّقت في الظلام، فإذا ورائي ست وخمسون سنة تبتعد عنّي! الآن فقط أحسُّ بالضعف، يا إلهي! الأيام تفرُّ من بين أصابعي. أضأت شمعةً، ورحت أرقبها، لهب الشمعة الكسول، يضيء بوهن غرفتي المعبأة بدخان السكائر، فضضت سيكارة خامسة، وزفرت دخانها، دوائر ” منفلشة ” تزحم أخرى متلاشية. نزعت ثيابي، واغتسلت لأبرأ من تلك الرائحة النفاذة التي استباحتني طيلة النهار!

 رأسي ثقيل، ثمل، وجسدي يرتعش، لا بدّ أننّي شربت كثيراً. اعتصرت رأسي، وغصت في بحر الفوضى أمامي.. زجاجات النبيذ الفارغة، فتات الخبز وأعقاب السكائر، بقع الشاي والمشروب الدبقة، صور النساء العرايا على الحائط، بقايا منقوشة الزعتر التي تناولتها صباحاً. أنّا جائع! و.. في السادسة والخمسين! الرحمة يا رب! أنّا خائف. ضاع العمر.

 كنت رجلا، وأيّ رجل، كنت مغامراً، شجاعاً، مهرّباً، اسألوا فاطمة كيف دوّخت الدرك عندما كنت ملاحقاً. في السادسة والخمسين، صحيح، ولكننّي لستُ عجوزاً، أنا كالثور.. اليوم، لوحدي قمت بعمل يعجز عنّه خمسة رجال. في السادسة والخمسين، يا إلهي، مهما لففت ودرت، ضاع العمر.

 هذه الغرفة المعبأة بدخان السكائر، وعتمة الغبش لا تطاق، بدون كهرباء كالقبر، تخنقني. في الممر الرطب، داهمتني العتمة، وتيارات الهواء أرواح تتلوى وتعوي، لعنت الكهرباء، وهذا القبو الرطب، وخرجت.

الشوارع فارغة ومعدتي، درجات بيت الترك الاثنتا عشرة تحاذيني الآن، أصعدها درجة، درجة، يدي المرتعشة تحتضن المقبض، والأخرى تربت على المنور دقات خفيفة، صوتها يأتيني خفيضاً، أُكرة الباب تدور نصف دورة، قبل أن يغمرني قوامها الساحر. انكمشت أمامها وضمرت.

 ـ ناتا..

 إصبعها، صادر الأحرف الأخيرة، قبلته متضرعاً، ونظرت في عينيها، إيماءةً أمسكت بها، وأشارت لي، وراءها وعلى رؤوس الأصابع، تسللت إلى المطبخ. ملأت معدتي بما لذّ وطاب، ثمّ قادتني إلى المغطس، تلكأت، طمأنتني:

 ـ خبيبي، السيدة والسيد في بيروت، ولن يأتيا الليلة، والصغار ناموا مبكراً، وأنا قطة جائعة و..

 غطست في الماء الساخن الذي هيأته لي، وعيناي مغمضتان، تأوهت بعمق، فقد كان يوماً عصيباً مرهقاً، أفرغت خلاله حجرة صرف لوحدي، مقابل عشرة دولارات خبأتها لامرأة أدفع مهرها منذ خمس عشرة سنة، فارقت خلالها قريتي ومحراثي وبغلتي الحرون وأدمنت السفر إلى زحلة.. خمس عشرة سنة أمضيتها عتالاً، تكرج على ظهري وكتفي آلاف أطنان البطاطا والإسمنت والقمح والسيراميك وأطنان أخرى كثيرة.. خمس عشرة سنة من الغربة شبه المتواصلة.. أحتضن فاطمة بضع ليال كلّ مرّة، فتفاجئني بحملٍ آخر، يضطرني للرحيل!

 نظفتني جيداً ناتاشا، وسكبت فوق صدري عطور سيدها الثمينة، وعانقتني طويلاً، ولكنّي خذلتها الليلة.. ذاكرتي، تضجُّ بأنفاس امرأة أخرى، عطرها مميز، امرأة تُدعى فاطمة، تفردُ شعرها الأسود الآن هناك، وتفتح ذراعيها لرجل يأتيها كلّ ليلة في الحلم.. رجل، يسدّد مهرها الغالي منذ خمس عشرة سنة.

 الشوارع تصحو باكراً. فاطمة في الذاكرة، تحكم مغاليقها، وناتاشا تدفن رأسها وعطور سيدها في صدري دون جدوى، ناتاشا قطة تغفو على صدري..

 حلوتي، اغفري لي! فاطمة أحكمت مغاليق الذاكرة، وأخرجت كلّ القطط منها. فاطمة وحدها تعرّش بذاكرتي، تفردُ شعرها الفاحم حتى يغطي أسفل الظهر، وعطرها، ماذا أقول لك؟ عطرها مزيج من رائحة الأرض الملقحة توّاً بالمطر، والخبز الساخن، والعرق الذي يتلألأ على جبينها كلّما خبزت. ناتاشا، حلوتي، سامحيني! لا شك لك رجل هناك ينتظرك، حتماً أشقر وعيناه زرقاوان وقوامه أرشق منّي.. قطّتي أرجوك، سامحيني، انظري كيف أرتعش، وكيف وجهي أصفر، أنا عجوز خرف، صدقي! الليلة فقط عرفت.. نظرت ورائي، فإذا ورائي ست وخمسون سنة تهرب منّي.. ضاع العمر! أنا عجوز جبان، خائن! نعم، أنا خائن، قولي لا تخافي، خنت فاطمة معك، وخنتك مع سيدتك، وخنت نفسي حين بعتها مئات المرات. ناتاشا، حلوتي. آنت أيضاً خائنة! خنت الآخر معي! ومع سيدك، وابن السيد أيضاً.. يا إلهي!

 حلوتي، يكفي، لا تغضبي، نحن صغار، مجرد خونة صغار، سفلة صغار! في السادسة والخمسين، أنا خائف من وحدتي في القبو، ليس هناك من يعزيني أو يحملني إلى الفراش إذا سكرت. هذا المساء سكرت، ونمت على الكرسي. يا إلهي من يحبني هنا؟ لا أحد، أنت تحلمين بالآخر وأنت معي، وأنا أعانق فاطمة حين أضمك، وسيدك يستعيد صدر زوجته حين يلثم حلمة ثديك المرمر ويهصره بيديه. حلوتي، لا تغضبي، أنا عجوز خرف، سامحيني أرجوك. فاطمة وحدها تعرف كيف تعيدني رجلاً.

 الشوارع المتجهة جنوباً، تغشي عينيّ، فيتلألأ من الجنوب قوامها الأبيض كالحليب، يكسوه شلال من موج أسود.

 جئتك يا فاطمة، يداك بسكويت الغندور، وصدرك راحة الحلقوم، وأنفاسك زجاجة عطرٍ، أريقيها الليلة على صدري.

 مضت تسعة أشهر على سفري آخر مرّة، ولم تتغير الأشياء خلالها إلاّ قليلا.. البيدر انكمش هذا الموسم بفعل القحط، والبغلة الحرون باعتها فاطمة، والأولاد زادوا واحداً، ولكنّ فاطمة لم تتغيّر، هـي، هـي، منذ خمس عشرة سنة، نفس الرائحة، ونفس الشعر، وإن بات نصفه أبيض.

كاتب من سوريا

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.