طائرٌ يُشبه السَّمكة
دِكتاتُور
كانَت الرّيح الخَفيفة تهزّ جثّة الدِّكتاتُور الضَّخمة المُعلّقَة في حبل المَشنْقة المُعلّق بِدَوره في فَرع شجَرة ضَخمَة وسَط البَرّيَّة، فيتطاول ظِلّها العِملاق فَوق حُقُول القَمح، وثمَّة غُراب يقف على أحد الأغصان مُحاوِلًا أنَّ يَستجمع شجاعته لينْقضَّ على عينيّ الدِّكتاتُور، قبل أَن يأتي راع يهّش غنمَه ويَقِف فَجأةً مُتأمّلًا تلك الجثّة، “يا إلهي! كم يشبه السيِّد الرَّئيس!”، هَتف مُندهشًا، قبل أَن يتلَفّت يمينًا ويسَارًا، ثُمَّ يقترب وينزع جزمَة الدِّكتاتُور الّتي بَدَت أكبر قليلًا من قَدَمه، وعندما ابتَعد الراعي فرحًا بغنِيمته، قال الدِّكتاتُور بحزن “يا لا الراعي البائِس! كيف سأمشِّي في الجَنّة حافيًا الآن؟”.
كَرامَة
لا أحَد يَعرِف سِرّ تلك الفتاة المُتلفِّعة بالعبَاءةِ التّي تأتي إلى المَسجِد كُلَّ يَوم وتَتبرَّع بثلاث مراوح يدويَّة مصنوعة من خُوص النَّخِيل، فمُنذُ أن أقعد المَرضُ أباها، يأبى ذلك الأخير الجُلوس في المَنزل كالعَاجِز. كان يقضِي النَّهار كُلّه في حِياكَة المَراوح اليَدويَّة من خُوص نخلة في فِناء المَنزِل ويتَّخِذ من زاوِيَة في السُّوق مكانًا لبيعها للمارة. لا أحَد يَشْتري مِنهُ تلك المَراوِح في الحَقِيقَة، سِوى فَتَاة مُتلفَّعَة بعَباءتِها لا تُظْهِر سِوَى عَيْنٍ وَاحِدة.
تَرَدّد
مرّ الآن أَكثَر من سِتَّة أَشْهر، كُلَّ يَوْم في الظَّهِيرَة يحْمِلُ جَريدَته ويَمْضي إلى الحَدِيقَة العَامَّة ويجْلِسُ بعيدًا ليتأَمَّل تِلْك المرْأَة الأربعينية الَّتِي تجْلِسُ على مسْطبَةٍ بعيدَة وتَقْرأ كتابا، وفي كُلُّ مرَّة يُمَنّي النَّفس باخْتِلاق عُذْر ما ليُحدِّثها، لكن حيَاءَه يَحُول دُونَ ذَلِكَ، حَتَّى بَدَأَ الأَمْرُ يُعذِّبُه. في اللَّيْل، حينَ تَضَع تِلْكَ المَرْأَةُ كِتابها جانِبًا وتَجْلِسُ بعَصَبيَّة على الأريكة، تتسَاءَل بحيْرَة، “تُرَى ما الَّذِي يمْنَع ذَلِكَ الرَّجل الَّذِي يقْضي النَّهار بقرَاءَةِ الجَريدَة من الحَدِيث إِليها؟”، لقد بَدَأَ الأمْر يُعَذّبها.
رِيْبَة
ما إن وصَلَ مقَرَّ عمَله في الجَريدَة حتَّى راح الجَميعُ يُخْبِرُه بضرُورَة التَّوجُّه إِلى مكْتَب رئِيس التَّحْرير. اِنْتَابهُ الخَوْف، ومَا إنْ رَآه حتَّى هتَف بوَجْهه “ما الَّذِي فعَلْتَهُ أَيُّها الشُّيُوعي؟ إنَّهُمْ يطْلُبُونَك في الرّئاسَة”، فتجَمّد الدَّم في عروقِه وكادَ يَفْقِدُ وعْيه. في نقْطَة الحِرَاسَة الأُولى قُرْبَ القَصْر، كبَّلُوا يدَيْه وأَلْقَوا بهِ في غُرْفةٍ مُهْملَة، ثمَّ حَضَر اِثْنَان من الحرَس الخاصّ وجَرّاه جرًّا إِلى القَصْر. كَانا طُولَ الطَّريق يتوَعَّدانه بالوَيْل والثُّبُور لأَنَّهُ مطْلُوب في الرّئَاسَة. في المَكْتَب الفَخْم، اِبْتَسَم الرّئِيس المُخِيف بِوَجْهِه وقَال “أَعْجبَتْني مقَالَتكَ المَنْشُورة فِي الصَّفْحَة الأَخيرَة فَقَرَّرت تَكْريمَك”.
نادِلَة
لَمْ تَكنْ تضَع عِطْرًا تِلْكَ النَّادِلةُ الَّتِي مالَت على ذَلِكَ الكَهْل لتَضَع قهْوَتَه أَمامَه، على الرَّغم من أَنَّه اِسْتَنشق كتْلَتَها الصَّغيرَة، لَكِنْ رائِحَة القَهْوة كانَتْ أَمْضَى، ومع ذَلِك شعَرَ بالانْتِعاش وهو يَسْتَرق النَّظَر إِلى قوسَي نَهْديْهَا الفَتّيين المتراقصين وارتعاشة الصَّليب بيْنَهُما، بيْنَما أَطارَتْ اِبْتِسامتُها غَيْر المُتكلفَة بقايَا وعْيِه. مَضَتْ الآن سنَة كامِلَة وهُوَ يَرْتَشِفُ قَهْوَته المُرَّة كُلَّ يَوْمٍ بعد أَنْ تُذيب النَّادِلَة فيها اِبْتِسامَتها. كانَتْ تُدْركُ سِرَّ بَهْجَته في الوَاقع، لِذَلك كانَتْ تُكافِئُه في انحناءة رحِيمَة أَحْيَانًا حين يَكُون مِزاجُها رائقًا.
مقارعة
بِالنِّسبَة للعَجُوز المُصَاب بسرَطان الدِّمَاغ يَنْتظرُ المَوْت، كانَتْ اِبْتِسامَة المُمْرضَة الشَّابَّة، حِينَ تُطِلُّ عليه صَباحا بوجْهِها الدَّائِرِيّ الصَّغِير وعيْنيْها الخَضْراوَيْن، جُرْعَة يَوْميَّة كافِيَة لمقارعة المَوْت المُتَربّصُ به. وذَات يَوْم، اِنْشَغلتْ المُمَرّضَة بِمُكالمَةٍ طَوِيلةٍ مع حَبيبها، فَطلبَتْ من زميلٍ لَهَا تَفقد العَجُوز. لَمْ تدرك أَهَمّيّة اِبْتِسامَتها بالنِّسْبَة لِإِصْرارهِ على الحيَاةِ، فَمَات كَئيبًا ذَلِكَ الصَّبَاح.
تَصَابٍ
نظرَت العَجوزُ إِلى صُورَة بْرُوفَايْلهَا في الفَيْسبوك وتَنهَّدت. كَمْ كَانتْ طَريَّةً ونَاضِجَة وشَهِيَّة قَبْلَ ثَلاثِين عامًا من الآن! عَدَّلَتْ من وضْعِ شَعْرها الأَشْيَب أَمامَ المِرْآةِ وارْتَدَتْ مِعْطفَها الأَبْيَضَ وهي تَتَخيَّل صُورَة ذَلِكَ الرَّجل الافْتِراضيّ الَّذِي سَتلتَقِيه، بشَاربِه المشذّب ونَظْرَتِهِ الحَالِمَة. فِي الحَديقَةِ العَامَّة، بحَثْتْ عَنْهُ في كُلّ الزَّوايَا. كَان ثَمَّة أطْفَال يَلْعَبون الكُرَة ورَجُلٌ عَجُوز يَحْملُ بَاقةَ ورْدٍ ويَتَطلَّعُ إِلى مَدْخَل الحَدِيقَة بِلَهْفَة واضِحَة. فِي الوَاقع هو يَشْبهُ صَديقَها الافْتِراضِيّ، لكنْ أَكْبَر مِنهُ بثَلاثينَ سَنَةٍ على الأَقَلّ.
دّم
ضَبطَ الجُنْدِيُّ الصِّهْيُونيّ نَاظُور بُنْدُقيَّته الدَّقيق على تِلْكَ الفَتَاة الفلسْطينيَّة المَمْشُوقة وهي تُحاوِل رَمْي الحِجَارَة باتِّجاهه. كانَتْ المَسافَة بَعيدَةً جدًّا في الواقع، لكنَّهُ اخْتَار نقْطةً ما تَحْتَ حنكِهَا الَّذِي تَخيَّلهُ من تَحْت حِجابِها، “يا لِتلْكَ الرَّقَبَة الطَّويلة”، رَدَّدَ في سرّه، قَبْلَ أَنْ يُطْلِق رصاصَته، فتدَفَّقَ الدم بَعيدًا حتَّى انْتشرَ على وجْهِهِ المُرتجف وشَفتَيْه، ليكْتَشف أَنَّ مَذاقَه حُلْو كالعَسَل، فَتَرك البُنْدقيَّة وراح يَلْعَقُ كالمَجْنُون.
أَخ
وجَدوه أَخِيرًا، الرِّجال في المَلابِس السُّود واللِّحَى القَبِيحَة وجَدوا أَخِاها في النِّهايَة، إنه أَخُوها الجَمِيل. جَرّوه خَارِج الغُرْفَة الَّتِي كان يَخْتَبئ فِيها وسَأَلُوه عن الطَّبَق اللَّاقِط على السَّطْح. تَمَزّق قَلَّبُها وهي تَراهُمْ يَضْرِبُونَه بأَعْقَاب البَنَادق. لَمْ تَكُنْ قَادِرَة على فِعْل أَيّ شَيْء، لأَنَّهُمْ دفَعُوها إِلى الحَائِط وعَلَّقُوها هُنَاك. كانتْ عُيُون أَخِيها تتلألأ بالدُّمُوع وفَمه يَصْرخ من الأَلَم. لَمْ تَتمكَّنْ من فِعْل أَيّ شَيْء أَمَامَ جَبرُوتهِم. وعنْدما تَوقَّف الضَّرْبُ أخِيرًا، تنَهّد أَخُوها بارْتيَاح بَيْنمَا تَحَطَّمَتْ جثَّته متهاويةً على الأَرْض. نَظرَ إِلَيْها وقال “أُحبُّك كثيرًا. أَنا آسِف، أَردْت فَقَطْ إِسْعَادك بِمُشاهدَة بَرْنَامجك المُفَضَّل”. لَكِنْ الرِّجَال بالمَلَابِس السُّود واللِّحَى القَبِيحَة ركَلُوه ببساطِيلهِم على قَلْبِه مرَّةً أُخْرَى، قَبْلَ أَنْ يَخْرجوا ويَتْرُكوها تُراقِب مَوْتَه وهوَ يَبْتَسم لهَا من بَعِيد.
طَائِرٌ
لَمْ يَكنْ يتَوَقَّع أَنَّ المَاء بَارِد إِلى هَذا الحَدّ حِينَ نزلَ إِلى النَّهْر، كانَتْ سَاقَه المَبْتُورَة تَتْرُك خَيْطًا من الدم خَلْفه، وعندما نَظَر إِلى الضِّفَّة الأُخْرى، لَمْ يلَمح رفَاقه هُنَاك. في طِين الشاطئ وقَفَ ذَلِكَ الطَّائِرُ على خَشَبَةٍ يهّزها المْوَج الخَفيف. كانَ شَكْلهُ غَريبًا ويَتَطلَّعُ إِليه بِغمُوض، وعِنْدَما ابْتعَد قليلًا، شَعَر بالوَهْن، ولَاحَ الرِّجال المُلَثَّمون ينزلون الجُرْف باتِّجاهه، كمَا لوْ كانُوا ذئابا تتشمّم رائِحَة الدَّم، ثمَّ أخذوا يُطْلِقون الرَّصَاص الَّذي بدا مِثْل جَمرَات حَارِقة تَنطفِئ في الماء. كانَتْ الضِّفَّة الأُخْرى لا تزَال بَعيدةً، وسَاقهُ النَّازِفَة أَفْرَغَتْ الدَّمَ تَمَامًا من جسَدِه، وحين غَطس متجنبا الرَّصَاص، لمحَ ذَلِك الطَّائِر الغَريب يَسبحُ تَحْتَ المَاء. لَمْ يَكُنْ طَائِرًا! أو هوَ طَائِرٌ يَشْبَهُ السَّمَكَةَ ربَّمَا، يَقُودهُ إِلى الظُّلَّام في المِيَاه البَارِدَة.