طائفية التعليم ومشاعر التطرف
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة قبل قرن من الزمان، ومناهج التعليم تحظى بأهمية بالغة من لدن الحكومات المتعاقبة لما للتعليم من دور في رقي المجتمع وتطوره.. وإذا ما درسنا ما هو متوفر عندنا من وثائق منذ الحقبة الأولى وما تلاها فيما يخص مناهج التعليم بمختلف المستويات نجد أنها مناهج حصيفة تنمّي عقل الطالب وتمنحه من المهارات والمعارف ما يساعده على رسم ملامح مستقبل شخصي زاهر.
تولت تلك المناهج زرع حب الوطن كوحدة جغرافية متكاملة تعتز بتاريخها وتقدم جرعات كافية من الوطنية إضافة إلى ما تؤمن من مختلف العلوم والمعارف.
ربما تأدلجت بعض مفردات تلك المناهج خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، مع نزوع إلى ترسيخ عبادة الفرد في عقول الطلاب، وكان المسؤولون التربويون يتبارون في تكريس تينك الحالتين لكسب رضا رأس هرم السلطة. ومع ذلك فلقد كانت هناك صرامة ملموسة في تغذية عقول الطلاب بوطنية عالية؛ وقتها لم يكن هناك تمييز بين طلاب الصف الواحد باستثناء المغادرة الاختيارية لطلاب الديانات الأخرى عندما يكون الدرس المقرر عن الديانة الإسلامية.
ومع وجود تلك الأمور السلبية إلا أن تلك المناهج أفلحت في تخريج طلاب تسلقوا مراقي العلم وصاروا رموزًا كبيرة في مجالات الاختصاص التي اختاروها؛ وكانت جامعات الغرب الراقية تحفل بآلاف الطلاب العراقيين الذين حصل عدد كبير منهم على تفوق في كلياتهم المخصصة لأبناء البلد المعني أصلاً. أما من أكمل تحصيله العلمي داخل الوطن فإن ما تدربوا عليه واكتسبوه من خبرات ومعارف ومهارات جعلت منهم رموزًا وطنية معروفة عربيًّا وعالميًّا.
لقد تغيرت الأمور عقب الاحتلال الأميركي ولا يمكن القول إنها اتجهت صوب الأفضل.. فلقد بدأ هذا العهد بتغيير أسماء كل المؤسسات التعليمية والتربوية التي تحمل أسماء عربية إلى أسماء طائفية، واللافت لنظر المراقب البسيط بل الحصيف المتعمق، أن ذلك التغيير شمل حتى أسماء المدارس المسمّاة بأسماء مدن عربية كحلب وغيرها؛ ولك أن تتصور تأثير وانعكاس ذلك التغيير على عقول الطلاب، فهل أصبحت تلك الأسماء مرفوضة ولا يجوز الإبقاء عليها؟
ولعل طبيعة المناهج هي الغاية التي نهتم بها في هذه الورقة، فالخطورة تكمن في تلافيفها وطيّاتها، ففي مؤتمر الجامعة الإسلامية العالمية في لندن (فرع العراق) والذي عقد في فبراير 2013 ميلادية، على قاعة خاتم الأنبياء داخل العتبة الحسينية والذي كان مخصصًا للشأن التربوي، اعتلى منصة المؤتمر شخص يرتدي العمامة ولا أظنه صاحب حظ في التحصيل الأكاديمي، تكلم الرجل ذامًّا المناهج القائمة، ورفع عددًا من الكتيبات التي أعدها هو لتكون بديلاً للمناهج التي ساهمت في تخريج علماء عباقرة أبدعوا في كل مجالات العلم والمعرفة وصاروا مفاخرَ يعتز بها هذا الوطن.
تكلم الرجل ذامًّا المناهج القائمة، ورفع عددًا من الكتيبات التي أعدها هو لتكون بديلاً للمناهج التي ساهمت في تخريج علماء عباقرة
لقد كان الرجل فرحًا وهو يسرد تجاربه مع مدراء تربية محافظات معينة استقبلوا مناهجه برضا وسعادة، وأن مدارس محافظة الديوانية كانت المحطة التجريبية لمناهجه وأن باقي المحافظات الأخرى ستسعى إلى تبنّيها، وعندما سأله سائل عن موقف محافظة بغداد وهي التي تضم طوائف وأديان مختلفة، فإنه أخبره أن هناك مناطق معينة ستطبق مناهجه كون مناهجه تتلاءم عقائديًّا مع أفكار الشريحة السكانية السائدة فيها.
لو أتينا على مناقشة هذا الأمر الذي أفرز أشخاصًا يبادرون إلى تغيير المناهج التعليمية، لأحسسنا أننا أمام كارثة كبرى، فمن أنت حتى تتصدى لمناهج دراسية أعدها علماء متخصصون على مدى عشرات السنين وأثبتت جدواها من خلال الكم الوافر من العلماء والأدباء والمشهورين الذين غذت تلك المناهج عقولهم وتسعى لتغييرها بمناهج من وضعك؟
ثم إن الطائفية واضحة من خلال تأكيده على أن المناهج أُعِدَّت خصيصًا لمحافظات محددة وشطر معين من بغداد، ولا شك أنها ستتناول تاريخ الإسلام بطريقة مخالفة لما دأبت أمهات الكتب التاريخية على سرده، والنتيجة أن الطالب سيمتلئ بمشاعر كراهية وتطرف للمختلف معه في مذهبه، ناهيك عن الازدواجية التي سيعيشها الطالب مستقبلاً وهو يعرض حصيلته من معلومات على كتب التاريخ العتيدة وأنه سيحرم من إكمال دراساته العليا في دول أخرى بسبب طبيعة إعداده وما يحمل من فكر.
ثم كيف سيتاح للوزارة تنظيم الامتحانات الوزارية إذا كانت هناك أنماط متباينة من المناهج، ويرتقي ذلك الإشكال إلى مسألة إعداد المعلمين والمدرسين، فهل سنلجأ إلى تأسيس معاهد وكليات تخرج معلمين ومدرسين لكل طائفة حتى يتقنوا تعليم طلابهم على وفق المناهج التي يضعها أشخاص كهذا الرجل المعمم؟
إن الخطوات تتسارع نحو حرف المناهج صوب اللاوطنية وإقحام التطرف والابتعاد عن الآخر المختلف على أعلى مستويات التعليم، فلقد صدر مؤخرًا قرار خطير أقلق بال كل عراقي وطني تمثل في رفع مفردات تاريخ العراق المعاصر من مناهج التدريس في كليات الإعلام.
فإذا كان الشيخ المبادر إلى إعداد مناهج طائفية سيغذي عقول طلاب المدارس الابتدائية والثانوية، نجد أن الوزارة المسؤولة عن الدقة والأمانة العلمية والنهج القويم تنهج نهجًا يتحفظ عليه كل مثقفي الوطن وكوادره العلمية وحتى التدريسية الجامعية. فهل صار تاريخ العراق عيبًا يجب إلغاؤه ومنع الطلاب من التعرف على تفاصيله؟
المشكلة تتفاقم أكثر عندما نلتفت صوب البيت والمجتمع، فلم يعد الأب والأم المعلمين الأولين اللذين يتلقى الابن دروسه الأولى على يديهما، فلقد انخفض المستوى الفكري عندهما حتى باتا فارغين (وهذا ينطبق على النسبة الأكبر من مجتمعنا) أما وسائل التثقيف المساعدة كالتلفزيون والإذاعة فإنها تحولت إلى مدارس تزرع الكراهية والتطرف في عقول النشء الجديد والكبار على حد سواء.
وما زاد الطين بلة هو وسائل التواصل الاجتماعي التي يلجأ إليها الشاب فلا يجد فيها غير أمرين أساسيين هما التفاهات والتطرف، فإما أن ينغمس في أمور لا قيمة لها، وإما أن ينحدر صوب التطرف وكراهية كل من يعتنق عقائد غير عقيدته.