طبيب نفسي بقميص أزرق
1
تمنيت أن توجدَ روحي
في جسدِ صائدِ لؤلؤٍ فقير، بائعِ رباباتٍ مسنّ،
أو قطةٍ أليفة.
تمنيتُ أن أكونَ سكّينًا في يدِ حبيبتي،
أنشوطةً على شعرها الفاحم،
عقلها وأن أكونَ صرختها عندما أقسو عليها.
تمنيتُ أن تكونَ لدموعي
خفةُ ورقات الشجرِ التي ترقص ببطءٍ وهْيَ تسقط
دونَ أن تشعرَ الواقفَ بارتطامها بالأرض،
تسقطُ هكذا… بلا ضجيج أو نشيج.
أن أصطادَ كلَّ كلابِ القرية التي تنبحُ
على مقربةٍ من نهرنا الذي
ما إن يعبره المرءُ، سيجدُ بيته الأخير في انتظاره.
أصطادها وأضعها في حديقةِ منزلي اليابسة؛
كي تذكرني دائمًا بأصدقائي النائمين وراء الجبل بوداعة.
تمنيتُ أن أكون ندىً
يجيء ويذهبُ خفيفًا كساعي البريد أو يوم الجمعة.
أن يوجدَ قلبي في صدرِ جلادٍ فظ
وأن أكونَ جلادًا لقلبيَ الثائر
السائر بي، نحو ألفِ ألف هاويةْ.
تمنيتُ أن أتذكّر كيفَ تبدو
ألوان موجودات عوالمَ حلمي –بغض النظرِ عن القصة والحبكة والنهاية-
أن أكونَ بيضةَ الذبابةِ التي ستفقسُ
في فم الميتِ المبتسم ببلاهةٍ
ثم تأكلُ جسده الذي سيكون مصدرَ إزعاجٍ له
كلما حاول تحريك أيّ عضوٍ ولم يستطعْ،
وتموتُ في النهايةِ أمامَ عظامه النحيفة
من الجوع والحب والقرف!
أن أكونَ هواءً متعبًا عائدًا من حربٍ ضروس في الشمال
تعثرَ بين حبيبين في عناقٍ موغلٍ في الحزن، في زاويةٍ مظلمة.
تمنيتُ أن أكونَ هذه الزاوية عندما أجدُ حبيبين متوتّرين؛
نظرًا لعدمِ توافر مكانٍ –في الوضوح- للقبلة والبكاءْ!
أن أكونَ ضحكةً عاليةً محترمة، ليسَ لها سببٌ في جنازةٍ مهيبة.
تمنيتُ أن أرى أين تذهبُ بصماتُ يدي
بعد أن أغلق الصنبور ويغيضُ الماءُ ويختفي في الحوض.
وأين تأخذُ الريحُ أعقابَ سجائري؟
تمنيتُ أن أجدَ نفسيَ في الصباح
نباتًا متسلقًا على جدار منزلٍ مهجور،
مُسجِّلا محشوّا بالموسيقى، سماعةً في أذنِ فتاةٍ ضريرةٍ،
ساعةً خربة على معصم امرأة طاعنة في السن،
ملامحَ شخصٍ محطمٍ في بورتريه،
غشاءَ بكارةٍ مطاطيًا لفتاةٍ تتعرضُ للاغتصاب،
ضرسَ عقلٍ ملتهبًا في فمِ حاكم شرير،
جرةَ ماءٍ تنزُّ على شعر فلاحةٍ ترابيّ،
بابَ حانةٍ أو بابَ مسجدٍ،
لا يُغلقُ في وجهِ غريبٍ يائسٍ أبدًا،
قمرًا صغيرًا/دوريًّا/ فتاةً/دبابةً/
بيانو/علمَ بلادي
- رسمهم الولدُ الصغير بالجاف، دون أن يقصدَ،
على غلافِ المصحفِ؛ لأنَه لم يكبرْ بعدُ؛
ليميزَ، أو لتصبحَ بحوزته
كراسة مخصصةٌ للرسمِ والشخبطة-
تمنيتُ أن أكونَ مشهدًا جميلا يراه الإنسانُ لحظةَ فرار الروح،
بصراحةٍ تمنيت أن يظهرَ عزرائيلُ للموتى
بزهورٍ ووجهٍ لا تفارقه الابتسامة؛ هذا لن يُكلّفه كثيرًا..
ولتكن تلكَ رسالة تسامح وترحيب من مملكةِ الإله الرحيم.
تمنيتُ أمورًا لا تعدُّ ولا تحصى،
كيفَ، ومتى، ولمَ، سأكتبها كلها، وما ذنب الناسِ؟
تمنيتُ حقًا أن لا أكونَ شاعرًا.
2
كلما جاءَ مشهدٌ
يقبّلُ رجلٌ فيه امرأةً، أو يحضنها.
كانت تأمرني أمي
أن أغمضَ عينيَ؛
هي دونَ أن تأخذَ بالَها
منحتني مساحةً لا بأس بها
لأتخيلَ مشاهدَ أعظمَ وأجملَ بكثير،
لم يستطعِ الممثلُ الذي
كانت تتهمه بالفسقِ والفجور
أن يتخيّلها
حتى وإن استطاع
لن يستطيع تنفيذها أبدًا.
3
ولن ينجو من الحرب إلا كلُّ محظوظٍ وسباحٌ عظيم!
4
لا أعرفُ في حياتي
إلا حرفةً واحدة: القراءة.
الكتابةُ: أجرٌ،
كثيرًا ما يُؤكَل عليَّ، ولا أتكلم
عمّن أتكلمُ أصلًا، ومعَ من؟
لـكن عندما آخذه؛ أفرحُ،
وبسرعةٍ
قبل أن يحضرَ اللصوصُ
أتبرّعُ به للعالمِ رميًا، وأمشي؛
لأنامَ في سلام.
5
لا أحتاج لحضن دافئ
لا لقبلة ولا أفكر في القصيدة
فقط أريد أن أنام بلا روح
وأصحو بلا قلب !
6
كل رقصة
تهرب من جسد أيّ فلاحةٍ في العرس
هي أمنية وحلم
كاد يختنق ويموت
لولا تدخل الله
في الوقت المناسب…
كم هي جميلة تلك الليالي التي فيها
يصبح الرجل ذو العمامة
أكثر حكمةً، حباً، وخضارا
يخفض البندقية والفأس
ويصفق حتى تتورم يداه
ولا يكون أمامه إلا خيار واحد
أن يضحك لزوجته والجميع
ويترك للبحر والأمنيات
والحيوات المكبوتة الباب مفتوحا
قبل أن يصمت (الدي جي)
ويدخل الجميع
واحداً تلو الآخر
المقبرة من جديد
7
البحر:
طبيب نفسي بقميص أزرق
لا يرد علينا أبداً
ربما قطع القراصنة لسانه،
أو حشرت في حلقه
زجاجات معبأة برسائل مبهمة،
أو يعرف
أن الحديث المتبادل بين حزينين
هاوية ومشنقة.
8
الفراغ بين رجلٍ عاشق وامرأة
لا يسدّه إلا العناق المفاجئ.
والفراغ بين العالم وساكنيه
يسدّه الفن.
والفراغ بين حاكم ومحكوم
يسدّه الرصاص أو الثورة.
9
مهمتي:
ألا أقيم الجدار فوق الخيال
أشعل النار في سفينة الذاكرة
فلا يستطيع النسيان أخذي
ويسحبني الرماد إلى البياض
ومهمتي الصعبة:
أن أقتل أبناءَ واقعي: الحزن والأمل والخوف،
كي لا يرهقوا صمتي وإيماني
وأنا أراقب القصيدة
تولد في الفراغ.
10
يومَ القيامةِ
سيقول الله للذين لن يعبروا الصراط:
لا تخافوا؛
سوف أدخلكم الجنةَ،
ولكن انتظروا هنا
يمر يومٌ طوييييييييييل
مملٌّ كأنه، خمسون ألف سنة!
يمر يومٌ ثانٍ، ويومٌ ثالث، ورابع.
يمر عامٌ، عامان، قرنٌ يمرُّ.
وهم في وضعيةِ الانتظار،
ولا أحدَ يسأل عنهم
والمكان موحشٌ للغايةِ
ولا صدىً يصل إليهم بتاتاً
***
تقول امرأة عارية –مثل الآخرين- لشاعرٍ نحيف
يتدلى من فمها ميكروفون مشتعلٌ:
واضحٌ أننا لسنا في الجنة، ولسنا في النار،
فأين نحن الآن يا أوغاد؟
يتأمل الشاعرُ الموقفَ الذي تُرِكوا فيه:
***
ثمَّ فجأةً يصرخ:
الجحيم يا أصدقائي،
الجحيم أيتها الثرثارة السمينة,
مؤكدٌ أنَّ الجحيمَ الذي كنا نسمع عنه بلا شكٍ:
هو الانتظاااااااااااااااار!