طريق دمشق
دمشق وكوباني
المكان في دمشق موح ومعتم وفنان، وبالذات في مساءات الصيف اللذيذة. أتذكر دمشق وأنا أتفرج على البنات والأولاد الأكراد في كوباني، كانوا بملابس عسكرية ورياضية رائعة وهم يدافعون عن وطنهم الصغير الذي احتلّه وحوش داعش. أتذكر صديقي الكردي القديم، الولد النحيف والطويل الذي اسمه كامل، قلت في نفسي بأسًى: لن أرى صديقي كامل مرة أخرى، كامل الذي صاحبني شابا صغيرا في دمشق خلال زيارتي لها أوائل التسعينات الميلادية، ربما هو اختفى الآن في ريف كوباني.
قال لي كامل: أنا من كوباني وأكتب الشعر بالعربي ثم أخذني إلى عمائر الروس وسط دمشق لاستئجار شقة نظيفة كما يقول، انطلقنا من ساحة الأمويين مرورا بالمزة، كان الوقت بعد المغرب حين تركنا سيارة الأجرة في مدخل حارة هادئة وخافتة النور بشكل موح وريفي عذب، دخلنا الحارة مشيا على الأقدام، كانت كل الشوارع الداخلية في دمشق بإضاءات خافتة موحية، تجاوزنا عدة عمارات أليفة ونحن نلمح في مداخلها حدائق صغيرة وملاعب للأطفال ومقاعد خشبية للعائلات، فجأة توقف كامل، ثم رأيته يقف تحت إحدى النوافذ الواطئة ثم ينادي، تفتح الشباك امرأة ترحب بكامل وتسأله عن أمه، يقول لها كامل: بخير تسلم عليك، ثم يسألها عن عبود، تقول له إنه في الدكان، يودّعها ونذهب للدكان، كان الدكان مكان اجتماع لشباب الحي والأطفال، دخل كامل وتحدث مع عبود، ثم واصلنا المشوار إلى الشقة، أدخلني كامل شقة بسيطة ونظيفة وعرّفني على خالته وأسرتها، جلسنا في الصالة نشرب الشاي.
قال لي زوج خالته إنه يعمل في سيارة أجرة بين دمشق وبيروت، وقالت لي خالته: اعتبر البيت بيتك يا ولدي، ثم قالت وهي تنهض مبتسمة: كامل مثل ابني وهو طيب، قلت لها: أعرف، قالت: كلكم مثل أولادي، ثم خرجت مع أولادها وزوجها إلى بيت شقيقها المجاور، كانت تحمل كيسا فيه بعض أشيائها، وأنا سكنت في شقتهم وسط دمشق.
تعرفت على كامل في فندق بسيط قريب من ساحة الأموين ليلة وصولي دمشق، كان يعمل في الفندق منذ سنوات قليلة كما يقول لكنه يريد العودة إلى كوباني لأن والدته تحتاجه بعد وفاة والده، ظل كامل يزورني يوميا في الشقة بعد أن تنتهي نوبة عمله في الفندق، ندور سوية في شوارع دمشق نهارا وفي المساء يتركني ويذهب إلى بيته أو إلى الفندق، سألت كامل: هل تريد أن نزور كوباني، قال لي إنها بعيدة هناك على حدود تركيا، قلت إذن نزور بيروت، قال: ممكن، ثم سألني ماذا أكتب، قلت له: عن أشياء صغيرة في حياة كبيرة يا كامل، ضحك كامل، فأهديته كتاب “إذعان صغير”.
في وسط دمشق صادفت مكتبة واسعة جدا فيها كتب ومجلات قديمة وأشرطة قديمة لفيروز وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ ووديع الصافي وفهد بلان، اشتريت أعدادا من الكرمل وإبداع والمسرح العربي وأشرطة منوعة، ومن إحدى المكتبات أخذت بعض كتب كافكا ورواية “باولا” لإيزابيلا الليندي ثم صعدنا جبل قاسيون نتفرج على دمشق من علوّ يكشف ميادينها وبناياتها الجميلة، أذكر أنني كنت أقرأ كل ظهيرة صفحات من رواية “باولا” لإيزابيل الليندي لحين وصول كامل، أسمع صوت جرس الباب فأغلق الكتاب فورا ونخرج إلى رحاب دمشق السارحة في متعة الحياة. الآن أتذكر فتختلط الذكريات مع الحلم والخيال، لكني لن أرى صديقي كامل مرة أخرى، رقم الهاتف في دمشق لا يرن، وكوباني التي رقصت بعد تحررها من عصابات داعش لازالت بعيدة.
وصديقي كامل معهم بالتأكيد، يحارب ويرقص ويكتب الشعر العربي. لكن مزاج الحكاية بدأ يميل نحو شاعرية الشارع، ربما رقص وغناء على حالنا التي لا تسرّ، مزاج الكتابة يميل نحو حكاية شاعرية جديدة ربما ممتعة ولذيذة عن تفاصيل حياة انتقلت نوعيا إلى منطقة أخرى جديدة بعد حروب وثورات، قصيدة الحكاية حين تركت وقتي القديم يرعى مثل خروف في ذلك الشارع الغامض الواسع بين دمشق والقاهرة، ثم يرسل لي ذكريات جديدة، كي أنام على حكاياتها وموسيقاها، أقرأ قصصي على المارة مثل بائع متجول أعرض عليهم كل شيء عاريا مثل مسرحية صغيرة، قصة تبدأ بفتح صندوق أسراري وتنتهي بإغلاق صندوق أحلامي، أشعر معها أن روحي تفيض أحيانا على ضفاف أخرى تتناثر على شكل شظايا، تنشدّ لحياة هادئة مثل حديقة فارغة هجرها الجيران وذهبوا للتسوق أو الحرب أو الإرهاب، حياة مثل خلية نائمة لا تريد قواعد اشتباك مع أحد، أو حياة لا تصعدني مثل سلم نحو مآربها السخيفة.
وقعت الواقعة
كانت الرحلة من الرياض إلى دمشق ثم القاهرة ثم العودة إلى الرياض، أوائل التسعينات كنت أرتّب لحياة في مهب ريح موحية ركضت وراءها أوقفتها في تقاطع شارع غامض ما بين دمشق والقاهرة، جلسنا على كرسي خشبي، قصصت عليها رؤيتي، كنت أدلك بجميع أصابع يدي اليمنى تلك المنطقة الصغيرة التي بين لحيتي وشفتي السفلى حين قلت لها بهدوء وبأسًى عميق: وقعت الواقعة. كانت بجانبي شبه مستلقية نهضت بنصف جسدها وقالت بخوف: يا ساتر، قلت: لم أكن أتصوّر أن يحدث هذا، قالت لي إن توتّر حركة أصابع يدك لا تبشر بخير، وأنا خفت فعلا من ملاحظتها، سألتني: ما الذي وقع، قلت لها: الواقعة التي لم أتصور أن تقع، قالت: تكلم لو سمحت، قلت لها: لأول مرة في حياتي منذ ولدت أحلم أني أزهد في الحياة وأتمنى انتهاء هذه المسرحية، استرخت ثم قالت بهدوء واستغراب وسخرية: وما سبب هذه الرغبة، قلت: دون سبب واضح، مالت بوجهها وجسدها عني بصمت فشعرت أنها استهانت بكلامي فحزنت حزنا عظيما ونمت مثل شيء كئيب.
موسيقى سلمية.. سلمية
في المساء كنت أغني في الظلام دون بهجة، ومصحوبا بخوف شفيف، لم أكن أستطيع التخلص من تلك الحالة الموسيقية، لذلك قلت لها أريد أن أحبك هكذا بكل بساطة، بكلمات لم تقل حتى الآن، وبنار لم تشتعل حتى الآن، وبرسالة لم تصل من أحد. ثم أنني غنيّت بكلمات غامضة. الظلام يلف الغرفة، لا يهم إذا كان الظلام ظلامي أو ظلام الأغنية أو ظلام الخوف القديم الذي يربض في صدري. لكنّ الحجرة، هكذا بلا مقدمات، سقطت بجدرانها الورقية على كلمات الأغنية، في مشهد سينمائي مؤثر، وأنا استسلمت لنوم أبدي، موت مبكر، محروماً من كل ذكرياتي، ومنذ ذلك الوقت تركت عادة الغناء في الظلام. قررت الإفصاح عن مشاعري دائماً في الهواء الطلق، بطريقة سلميّة، أمام الناس، حتى لا أموت مرة أخرى ميتة مجانية، بلا جماهير، فلماذا أحبس أنفاسي وخوفي في صدري، وأنا أشعر أن الكرة الأرضية، تسكن في صدري.