طعم النوم
كيف نامت ابنتي ولم تستيقظ؟ لا أستطيع التحديد. ثمة أسئلة بديهية تتحوّل بمرور الوقت إلى أسئلة بلا إجابات، غير أنني أملك رداً واحداً، يصعب أن أترجمه لكلمات، ذلك أنه ردٌّ على المرء حين يقوله ألا ينطقه: إنني أقتل.
يحدّق فيها العجوز المحتضر وقد أثارت كلمة قتل لمعة عينيه. غير أن البريق ما يلبث أن يخمد، بينما تكمل: إنها، ربما، إجابة لسؤالي وليس لسؤالها، لكنّ الأشخاص المقتربين من الموت، مثلي، يعرفون بعد فوات الأوان أن المهنة الوحيدة التي خُلِقت اليد لتمارسها، ليس أن تكتب (مع الكلمة الأخيرة تشهر كتابه بينما تنظر ليده، كأنها تناديها بالاسم، ثم تنظر ليدها، قبل أن ترفعها أمام عينيها كأنها تتعرف على عضو في جسدها لم تره من قبل)، وتكمل: المهنة التي خلقت اليد لتمارسها، أن تُواري شخصاً آخر التراب.
إنه الرجل الذي تسبب في كل ذلك لابنتها، الذي جعلها تنام، منذ سبعة أشهر، رافضةً الموت والحياة معاً. كان يجب أن تكون ثمة نهاية، نهاية يمثلها موتها ودفنها أو عودتها للاستيقاظ.. وها هي تصل إليه الآن، بعد أن قتلت جميع عجائز منزل الجميلات النائمات الذين كانوا ما يزالون أحياء. قتلتهم داخل غرفهم، ومنحت كلاً منهم جزءاً من حكاية. البعض قتلته في المرة الأولى، والبعض اضطرت معه لتأجيل التنفيذ بسبب طارئٍ ما.
إنها تصدق أن موت شخصٍ ما يمكن أن يعيد الحياة لشخصٍ آخر. هكذا أقنعت نفسها أن مع كل رجل تقتله سيعود لابنتها جزء من وجودها في الواقع. “لكم في القصاص حياة”، ردّدتها بوجدان المتوضئ في صلاة وهي تُفسِّرها لنفسها حرفياً رغم أنها طالما كرهت من يتعاملون بالطريقة نفسها مع أكاذيبها. بعد ذلك، ومع كل قتيل، ستعود لتراقب ابنتها، مدفونةً في ثرى أحلامها وهي تستعيد كل القصص التي لم تعشها، كأن لا شيء بوسعه إيقاظ فتاة نائمة في سبات عميق، سوى دم رجل.
كان يجب أن توزع مدام شهرزاد الحكاية على العجائز الذين قررت أن تقتلهم أو كُلِّفت بأن تقتلهم (لا يهم الآن إن كان ما تفعل نابعاً من شخصٍ آخر أم من داخلها). ستبدأ الحكاية مع العجوز الأول وتنتهي مع العجوز الأخير. محظوظان: من يحظى بأول أيّ حكاية قبل الآخرين ومن يعرف نهاية أيّ حكاية دون الآخرين. وقد رتبت مدام شهرزاد الحكاية بحيث تحكي لكل عجوز مقطعاً منها بينما يحتضر، في المسافة بين تلقيه الحقنة القاتلة وتمدد السم في دمه. هذه المسافة كانت كل شيء، فلا يجب أن يموت قبل أن تُنهي المقطع المعد له، يجب أن يتزامن موته مع آخر كلمة. يجب أن تقتله كلماتُها لا السم. ففي ذلك فقط يكمن ليس فقط نجاحها، لكن نجاتها الشخصية من حكايتها.
لا بد أن يحصل كل عجوز على جرعة من الحكي مساوية للآخرين، لكن دون أن يشترك اثنان في الجزء نفسه من الحكاية. سيقتلهم الشغف واحداً واحداً، من يريد أن يعرف ما فاته ومن يموت فضولاً ليعرف ما سيحدث. بين ماضي الحكاية ومستقبلها، لن يحصل واحدٌ إلا على نصيبه من الحاضر، ذلك الذي لا يعني شيئاً، ذلك الذي كان يعني كل شيء لشهرزاد حتى بدأت المهمة. سينتهي للأبد منزل الجميلات النائمات، وستكتمل الحكاية أخيراً، كأنّ لا وجود لحكايةٍ مكتملةٍ دون موت جميع أبطالها.
بملابس “الحكيمة” تصعد الطابق المتفق عليه. جميع هؤلاء العجائز كانوا مرضاها ذات يوم قبل أن يصبحوا ضحاياها في هذه المهمة، مهمة حياتها الأخيرة كما حدست وكما راح الواقع يؤكد حدسها كأنه يجاهد لكي يصبح تقليداً لخيالها. ربما لذلك وقع اختيار الرأس المدبر عليها دون غيرها. لقد مدَّدت حيواتهم قبل ذلك بإبرة، ولا بأس أن تجرّدهم منها لمرة واحدة بنفس الإبرة.
ليست هناك كلمات قادرة على وصف وجه رجلٍ يحتضر بينما يتحرّق شوقاً ليعرف نهاية حكاية. نهاية الحكاية الأهم من نهاية حياته. ترويها ممرضة لها وجدان خادمة، يكفيها أن تفتح يدٌ الباب لها لينتهي كلُّ شيء.
لكن هذا العجوز المؤلِّف محظوظ، سيسمع الحكاية كاملة، سيُكافأ بالقتل والحكاية معاً من حيث جاءت لتعاقبه بكليهما.
أرجأته للنهاية (أرجأه الرأس المدبر)، يجب أن يكون هو الأخير إن أرادت لما تفعله أن يكتمل، أن يصبح ذا مغزى كحكاية. إنها تقتلهم بحثاً عنه. وهو من يجب أن تنتهي به الحكاية. هل تبحث شهرزاد عمّا يصلح كحكاية أم عن حق ابنتها؟
هاهي تخبره أنها جاءت لتقتله. لكنها أيضاً لا تعرف إن كانت ستقتله أم لا، وإن فعلت، فهل سيكون ذلك هنا؟ على الأرجح لا. فهناك مهمة أخيرة عليه أن يقوم هو بها، سواء نجا بعدها أو لا، ولم تكن شهرزاد على استعداد للتضحية بهذه المهمة. إنها، ولأول مرة، تحكي لرجلٍ دون أن تكون قررت مصيره.
لكن، وحتى يحدث ذلك، فلديها من الحكايات ما يفيض بالتأكيد عن ليلة. كانت شهرزاد قادرةً في هذه اللحظة أن تحكي له هو نفسه حكايته، وأن تذكّره بكل ما صار مستحيلاً أن يتذكره. فكرت أن تسأله “تحب تجرب؟”.
لم تكن شهرزاد تكتفي بتذكر ما عاشه الآخرون، بل كانت تضع نفسها مكان من تتذكر له، إلى أن تصير في لحظة هو. وقد جربت ذلك الآن. ودون أن تسأل العجوز المؤلف عن سر غياب “دميانة”، قررت أن تستدعي اللحظة التي غادرت فيها الخادمة البائسة هذا المنزل مقررةً ألا تعود ثانيةً.
كان البيتُ أكثر قدماً منه. بدا فيه طارئاً كمن زجّ بجسده في زمنٍ آخر. أغمضت عينيها واستحضرت المشهد، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تجرب فيها التذكر نيابةً عن رجل: دخلت خادمته “دميانة” لآخر مرة. كانت معها باقة ورد. كان هو يجلس وحيداً، منهمكاً في إتمام مخطوطه، والذي يحكي فيه قصة حبّه لفتاة تصغره بأكثر من سبعين عاماً، كانت ابنتها.
كان ضوء أول الشتاء يقطع الشقة الواسعة التي ورثها عن أبويه، والتي تزداد اتساعاً كلما باع واحدة جديدة من المقتنيات التي ورثها ليتمكن من العيش في أثاث قليل هو ما تبقى من ميراث بيع بالتدريج لسداد أقساط البقاء على قيد الحياة. كان يكتب على آلة كاتبة عتيقة، لم يعد أحد يستخدمها منذ زمن طويل، لكنها كانت أحدث ما يستطيع التعامل معه من تكنولوجيا ما بعد الكتابة بخط اليد. ومن جرامافون عتيق كانت تغمره سيمفونية تخدشها أصوات شارع فؤاد. عندما انفتح باب الشقة، ودخلت دميانة، خادمته المخلصة، والشخص الوحيد الذي يملك نسخة من مفتاح الشقة، مفسحة الطريق لهواء العالم كي يدخل معها، مع قدرٍ من الضّوء والصوت، ذلك القدر الذي يسمح لكاتب بأن يكون جزءاً من العالم دون أن يموت. إنه يبدو في هذا المشهد مثل شخصيةٍ تؤدّي دوراً في فيلم، شخصية ستنهض فور أن ينتهي المشهد وتخلع ملابس الدور وتعود شخصاً آخر. ما تزال خادمته عذراء، رغم أنها أكثر امرأة ضاجعها في حياته، وقد دخلت الشقة في تلك المرة الأخيرة ليس بوصفها خادمته، بل عاشقته.
_ كانت “دميانة” قد فهمت أنك وقعت في الحب وأنت لم تعرف أبداً أن تلك الخادمة ظلت تحبك وما من سبب لتحتمل ما احتملته، بما في ذلك مضاجعاتك الشاذة لها، سوى ذلك الحب الأكثر صمتاً ويأساً. في هذه اللحظة فقط قررت أن تخرج من حياتك، صامتة كما كانت دائماً وهي تنظف البيت، وتطهو طعامك، وتئن مهانة ومحرجة من طريقتك في انتهاكها كلما انحنت لتمسح البلاط.. بالمناسبة هل “دميانة” هو اسمها الحقيقي أم أنه اسم مستعار؟ تبدو عند نطقك اسمها كأنها لا تملكه، تستدير لك بعد لحظة إدراك أنها المقصودة بالنداء.. هذا لا يحدث عندما يُنادى شخص باسمه الحقيقي.
لا يجيب، وتفكر شهرزاد أن تشوّهه هذا ما هو إلا ملابس دورٍ آخر، دور لم ينج منه، دور التهمت فيه نيرانٌ غير حقيقية البطل في ذروة شعوره بالأمان.
_ فكرتَ أنت (هنا يلتفت. إنها لا تتذكر فقط المشهد بدقة. إنها تعرف فيم فكَّر يومها) أن تضاجعها لمرةٍ أخيرة. الرجال يحدث معهم ذلك. يهيجون في لحظة الوداع فجأة.
تصمت. لقد عرف ذلك الرجل الآن أن تلك المرأة تعرف حياته خيراً منه، فهي لا تتذكّرها باعتبارها وقعت ذات يوم، بل كحياة تقع الآن ولا سبيل للذاكرة كي تحرفها أو تُبقي منها ما يحلو لها.
بينما كان العجوز يفكّر في مضاجعةٍ أخيرة لخادمته المتجهة نحو باب الشقة لآخر مرة، حيث لن تعود، شعرت شهرزاد وهي داخل المشهد بالنيابة عنه أنها تنتصب. أيقظتها حرقة ذكره متمددةً بين فخذيها، وارتعبت لفكرة أنها قادرة على ذلك الشعور المتجسد والمكتمل بانتصاب رجل.
تصمت، كأنّما تمنح ذاكرتها وقتاً لتهدأ، أو لتعود امرأة.
تنظر إليه. إنه يبحث عن حكاية. كأنه يقول لها هذه ليست حكاية. ليست هذه الحكاية التي جئتِ من أجلها. يشبه شخصاً شاخ في لحظة مختصراً جميع الأزمنة التي يضطرّ آخرون ليقطعوها لكي يموتوا حيث ينبغي للمرء أن يموت، ظل عجوزاً بعد ذلك كأنه شاخ لمرة واحدة واستطاع تثبيت الزمن عند شيخوخةٍ يائسة غير قابلة للتقدم خطوة جديدة للأمام، وكأن اليأس الكامل هو الطريقة الوحيدة لتثبيت الزمن في مكانه.
ستحكي له ما مر بها خلال الشهور السبعة الفائتة. المهم أنها تملك الآن حكاية مكتملة تستطيع أن ترويها، مثلما أكمل هو كتاباً موجوداً الآن. تملك حكاية هي بطلتها، حتى أنها بدت بينما تتصفّح كتابه، كأنها على وشك أن تقرأ حياتها منه، كأن حياتها هي أيّ سطرٍ في هذا الكتاب.
كانت تريد أن تقول له إنها ابنةً لجميع الكلمات، مثلما كانت ابنتها طفلةً لجميع العجائز، وقد صار جميعُ الموتى آباءً لها. لذلك حكاية، لن ترويها شهرزاد للعجوز. ستحكيها لنفسها. كانت الطفلة قد بدأت تلحّ في زيارة مقبرة أبيها الذي لم تره أبداً. في هذه اللحظات فقط كانت شهرزاد تتعرّف على نفسها كأمّ، وقد تركت أثراً إجبارياً من أمومتها في طفولة شخص آخر: تلك التعاسة التي لا تحتاج عيناً مدربةً كي تُرى. المشهد كان ينقصه رجل، أيّ رجل تسميه الطفلةُ أباً، لكنه لم يكن موجوداً، ولم تكن شهرزاد تملك إجابة. ربما لو رأته الطفلة ما صدقت. كان عجوزاً جداً بالنسبة إليها حتى أنه، بافتراض وجوده، لم يكن ليصلح أباً. لا أحد يعرف اليتم أكثر من شخصٍ وُلِد لأبٍ يحتضر. لا مجال حتى لتخبر طفلتها عن مهنة أبيها، يكفي أنه كان عجوزاً، ففي لحظةٍ ما، تصبح الشيخوخة هي المهنة الوحيدة لأصحابها.
بعد تهربٍ متكرر بحجج واهية، انصاعت شهرزاد أخيراً. ذهبت بها ذات صباح، ببساطة، لمقبرةٍ ما، أيّ مقبرة، وأخبرتها أن خلف بابها ذاك، تحت ترابها ذاك، يرقد أبوها. بدت الطفلة سعيدة وكأنها رأته. كرّرت الطلب، وكانت شهرزاد قد نسيت مكان المقبرة، فذهبت بها لمقبرةٍ أخرى، كانت أيضاً أيّ مقبرة، لم تلحظ الطفلة الاختلافات الواضحة بين المكانين. وقفت بالخشوع نفسه، بالطمأنينة ذاتها، أمام المقبرة الجديدة، وقرأت “الفاتحة” بصوتها المرتعش الذي لم يعرف معاني الكلمات بعد. مرةً بعد مرة، وكأنهما تواطأتا، لم تعد شهرزاد تجزع من أن تكتشف الطفلة الخدعة، ولم تلحظ الطفلة يوماً، (أو لم تصرّح أنها لاحظت)، أنها لم تزُر مقبرةً واحدة مرتين.
ذات يوم، انقطعت الطفلة عن طلبها بزيارة أبيها، بادرت شهرزاد، التي أراحها نسيان طفلتها لكنه أشعل فضولها، بسؤالها عن السبب. نظرت لها الطفلة، تلك النظرة التي لن تنساها أبداً، حتى أنها اعتقدت أنها ستواجهها بكشف كذبتها، لكن الطفلة قالت لها: “علشان خلاص مات”. لم تفهم ما تقصده، هل كان حياً في المرات الفائتة؟ في ذلك اليوم كان شيئاً قد انطفأ في عينيها، شيئاً رأت شهرزاد في انعكاسه شخصاً مات بداخلها، خمّنت أنه ذلك الأب الذي دفنته الطفلة الآن، في مقبرةٍ بعيدة لا وجود لها إلا في نقطة عميقة منها، مقبرة تملك على الأقل ميزة أنها ثابتة ولا يمكن لأحد أن يغيّر مكانها. من بعدها، لم تعد ابنتها أبداً للسؤال عن ذلك الرجل المجهول الذي كانت تناديه باسمه في المقابر لأنها لم تعرف أبداً كيف يجب على طفلٍ أن ينادي أباه، كأنه كان وجبتها الوحيدة التي زهدتها فجأة لفرط ما ظلت تتناولها. وكان أكثر ما أرادت نسيانه بعد ذلك هو من تكون، لكن أكثر ما أرادت الحصول عليه، وبنفس القوة، أب زائف.
الشيء الوحيدُ الذي تستطيع شهرزاد تأكيده الآن، وقد صارت مستمعةً وحيدةً لحكايتها، هو أنه كان ينتمي لنوعية الرجال الذين ستترك ابنتها جسدها لهم بعد ذلك. أيكون فعل؟ هل يمكن أن يكونا التقيا كرجل وامرأة في ذلك البيت الغريب والذي يقولون إن صوت البحر كان يُسمع داخله بوضوح؟ ربما ذهبت الفتاة إلى ذلك المنزل بحثاً عنه، وربما عثرت عليه.
تتنهد شهرزاد، مقررةً أن تبدأ حكايتها للعجوز بعد أن أنهت حكايةً لنفسها، لكنّها قبل ذلك تتأمل بعينٍ جديدة الوجه المضبّب للرجل الممدد، كأنها تبحث عن شيءٍ من ابنتها في بقايا ملامحه. هل يمكن أن يكون هذا الرجل أباً لتلك الفتاة؟ لا تتذكر أنها ضاجعته. وحتى وهي تستعيد ذاكرتها في مهمتها الأخيرة هذه، لا تتذكر.
هنا، ولأول مرة، ينظر إليها حقاً، لا، ينظر داخلها، حتى أنها ترى العينين البعيدتين، تعودان، وتضعان نفسهما دون استئذان في عينيها.
تغمض عينيها، كأنها تشيح بهما عن شمسٍ طارئة في الغرفة، بينما تتذكر ما حدث للفتاة في منزل الجميلات النائمات، وتبدأ على مهل في بعث حياتها لترويها كأنها بطلتها وباعتبارها تحدث الآن. تبحث عن عبارةٍ مناسبةٍ تبدأ بها حكايتها. كانت عباراتٌ كثيرةٍ مرشحة تتزاحم وتتصارع وتتخبط في هواء ذاكرتها، حتى أنها راحت تهشها بظهر كفيها كذبابات. وكمن ضبط مؤشر مذياعه على نغمةٍ صافيةٍ ونقية، بدا أنها عثرت على العبارة الملائمة، لتبدأ التذكر نيابةً عن ابنتها وقد وضعت جسدها في سريرها.
أخيراً تقول: أنا حلم شخصٍ آخر..
• مجتزأ من رواية جديدة بنفس العنوان، تصدر قريباً عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة.