طيف ماندلشتام
عزيزتي شادية، لقد مات غيرَ بعيد عن هنا أوسيب ماندلشتام قبل ثمانين عاما، مات بالجوع والبرد، مات بالحزن والحنق المخنوق داخل العروق. مات بقهر السلطة وجبنها. مات بالشعر أيضا.
عَصْفُكِ القلبيّ المباغت كان له مفعول حصة دياليز. طرت إلى موسكو بدم حر، مُصفى. دم لا يرى نفسه محقونا في الشرايين، ولا مسجونا داخل اﻷوردة. دم منتسب إلى القمم وموصول بالمهاوي. كأنّ به شرفاتٍ تطل منها كرياته، أو تقفز منها إلى العدم، كأنّ به كوّات تصل عبرها نغمة من أبعد من اﻷزل، لتتلاشى عند ضفافه، أو تخلدَ في هوائها إلى الأبد.
دم منقوعة فيه شموس ونجوم وثقوب سوداء. كلما أدرت عيني إلى الداخل، رأيت صوتك الحارّ، الجبار، في خفوته وهشاشته، وسمعت ابتسامتك الخفاقة، بنوتاتها التي تسطع في الدواخل.
أقلتُ غير بعيد عن هنا؟ مات في الواقع على طريق المنافي السحيقة، لكن كل منفى هو نسبيّ، في المكان وفي الزمان.
تستقبلكَ موسكو بحروف غريبة مطرّزة. متاهة مترو أنفاق المدينة تبدأ في اللغة وما بين حروفها، حتى قبل أن يبتلعك أحد أفواهه ويقذف بك داخل الدهاليز اﻷخطبوطية.
هيكل الطائرة أبيض كما يظهر من الكوّة، جناحاها بيضاوان، والغيوم من تحتها بيضاء، وهذا النبيذ الذي يقترب من شراييني أبيض أيضا. جلست في آخر صفّ، قريبا من مخبأ المضيفات، حظيت بقنينة صغيرة إضافية، فأخرى، فثالثة، قنان هن المسؤولات عن كل هذا التداعي. سأرسل لك رسائل لن تصلك إلا بعد أن أبلغ الفندق وألج شبكته، رسائل أقول لك فيها إنك روتانة زماني. أبوك عبقري، أو على اﻷقل رجل صالح، هو الذي استوحى اسمك من سماعه لأغنية على تلك القناة يوم ولادتك. راعني هذا اﻷمر في البدء، فعلى أيامي لم تكن توجد أيّ روتانا من الروتانات، راعني فارق السن بيننا إذ بدا فجأة جليا وواضحا وصدّاحا كاﻷغاني.
أنا من جيل القناة الصغيرة، وها أنت تظهرين في حياتي أصغر من القناة الصغيرة نفسها. لكنها ليست أيّ روتانا، إنها روتانا الزمن الجميل. هناك ماض ومستقبل ما يلهوان هنا ما بين عمرينا، أو يغنيان، أو يناوران.
تمثال ماندلشتام لا يبعد عن فندقي سوى بنصف ساعة مشيا. وجدت المسار بكل تفاصيله على الشبكة. لكن تلك الحروف لا تزال تبدو غريبة ومطرزة.
أحب أن أتخيّل أنكَ لن تسامحني يا ماندلشتام إن أنا زرت موسكو ولم أزرك. لكني، على سبيل الكفّارة، قد أترجم القصيدة التي بسببها أُصْليت جهنم. جهنم التي بناها ستالين وصهر فيها الحديد ذاته الذي صنع به لنفسه لقبا. لقد ترجمها الجنابي قبل سنوات لكنني سأعيد نقلها إلى العربية بصنعة يدي. ليس من أجل أن أزايد على الجنابي أو غيره، بل لأرى بنفسي في إطار تجربة خصوصية كيف يبدو الدنوّ من جهنم مرعبا وهو يعبر من لغة إلى أخرى.
دخلتَ النار بسبب قصيدة شفوية قرأتها على رفاقك ولم تدوّنها على الورق قط. أو دعني أقول إنك دخلت النار في قصيدة، على وزن “في قطة”، كما جاء في الحديث الشهير.
كان للحيطان آذان يا مندلشتام. اخترق المخبرون أكثرَ جلساتكم حميمية وسرية. أو لنقل إنّ الحدود في تلك اﻷيام كانت مبهمة بين مهن ونشاطات شتى.
ألم يكن أوسيب بريك عضوا في البوليس السري، التشيكا؟ أوسيب الذي هو زوج لِيلي، التي هي حبيبة ماياكوفسكي، وأخت إلزا، التي هي كذلك حبيبة سابقة لماياكوفسكي، وزوجة لاحقة لأراغون. بالمناسبة، أنت في نظري أفضل من ألف أراغون. لا داعي ﻷن نقلب المواجع اﻵن، لا داعي ﻷن نضع في ميزان واحد “أنشودته من أجل ستالين” التي تُدخل الجنة وصرختَك المتهكمة أنت في وجه ستالين التي تُدخل النار.
رأيتهم ذلك اليوم، رأيت أولئك الصيادين جالسين على كرسي فوق نهر موسكفا المتجمد، يحفرون ثقبا ليصطادوا سمكا ما يلبثون أن يعيدوه إلى مائه الكامن من تحت بساط الجليد.
سأترجم القصيدة وبعد ذلك أرميها في نهر موسكفا، كما يرمي الصياد في الماء سمكة اصطادها للتو. سيتكفّل ماء النهر بحمل حروفها العربية إلى أقرب نقطة من المقبرة الجماعية التي رموا فيها جثتك النحيفة، الشبيهة بهيكل عظمي.
“لا أدري إن كان لا يزال هناك معنى في أن ترسل إليّ ثيابا”، جملة من رسالة بعثت بها إلى أخيك، قبل موتك بوقت قصير. لعلك كتبتها بعظامك.
كانوا سيُصَفّونك منذ البدء لولا تدخل باسترناك وآخرين. هل حسنا فعلوا؟ وحدك تستطيع أن تجيب. أنت من ذقت العذابات وليس نحن. في نظرنا هم حسنا فعلوا، ها نحن ربحنا رسائلك من المعتقل، أو تلك التي نجت من بينها على الأقل.
ما سوف أعاينه في رحلة تالية إلى موسكو من ترميم لذاكرتك يظل دون المؤمّل. زقاق مغلق يحمل اسمك، لا يفضي إلى شيء، يبلغ طوله مئتي متر بالكاد. زقاق لا يرقى إلى يوم معاناة واحد لك إبان سنوات الحديد والنار. ألم يكن بالإمكان إطلاق اسمك على زقاق أو شارع مفتوح، أنت الذي عشت طوال حياتك محاصرا ومطاردا ومنفيا؟!
النصب التذكاري غاية في التواضع، لكنه صَوَّرك بأنف شامخ، وهذا هو الأهم. اقتنيت من مكتبة الحي مجلدا بأعمالك، تلك غنيمتي الحقيقية، أعمالك التي سوف تخلد بعد الزقاق وبعد النصب.
وأنت يا شادية، يا روتانة الزمان، هل ستكتبين مذكراتك كما فعلت ناديجدا ماندلشتام؟ هل ستحدثين العالم عني كما حدّثَتْه هي عن أوسيب؟ هل ستخبرين الناس بأني ذات يوم تهت في المترو، ومكثت أنا أيضا تحت اﻷرض دقائق طويلة، أو سنين لا تعدّ.