عاربة ومستعربة ومعربة
يشبه أن نتشبّه به، فنعلن أننا هو، ولا نستأذنه، ثم ننسى أن نشير إليه بإصبع أو بنأمة لجار ملول يقلّب صحيفة قديمة، ويشبه، أيضًا، أشياء تركناها لكنّها تسكننا حدّ الفضيحة، وتتمرّد في ذواتنا حدّ الهلوسة، ذاك ما كان من علاقتنا بالمدينة، المدينة الأمّ، والمدينة الحلم، ففي المدينة الأمّ لم يفوّض أحدٌ أحدًا بإلغاء الآخر؛ لسبب واضح وضوح الرؤيا: الآخر مرآتي، وإن ألغيته التبس وجهي عليّ. ولم يكن ذلك خوفًا من الآخر، وإنّما كان ثقةً بالأنا، وحفاظًا عليها، وحفاظًا على إنسانيّة الإنسان، وتجاوزًا للبنيات الأوّلية التي كان عليها هذا الكائن قبل امتلاكه لغة التعارف والتواصل وقوّتهما.
للتواصل لغة لا يملكها من ينغلق على بنيته الأوّلية بوصفها آخر العالم أو آخر المطاف، كما أنّ للتعارف، بالصيغة الصرفية الدالّة على المشاركة، قوّةً مبدؤها ومبتدؤها انفتاح العقل على أفق أرحب، أفقٍ يرى فيه الرائي أنّه ليس وحده، وأنّه ليس وحدةً متكاملة، وليس وحدة مغلقة؛ لأنّ انغلاقها يهدّد بقاءها.
بمن نتشبّه نحن، ونحن هنا ليست العرب العاربة أو المستعربة أو المعرّبة، وإنما كلّ ذلك في هذه المشهديّة القاسية حد الفضيحة، بمن نتشبّه، وما الذي نقلّده، ونحن يسارا ويمينا وشرقا وغربا نختلف على كلّ شيء، ونتّفق على تلك البنية الأولى لبناء الإنسانية، البنية التي لم يكن الفصل فيها مشروعا بين الأسرة والجماعة، البنية التي إن توسّع إطار الأسرة فيها صارت جماعة، ثم تتحالف الجماعات، ولكل جماعة رأس، وهو ومزاجه، بنية العشيرة، وبنية تحالف العشائر، وبنية الأرض المتاحة لمن كانت إبله محميّة بالفرسان والعتقاء والقصراء.
كيف يفكّر من أمضى عمره يطلب الديمقراطية، كيف يفكر بتمجيد الفرد المهووس بذاته، وكيف يفكّر من يدّعي أنّه ينشد التنوير في التحزّب لصنم من تمر كلّ أسرار صموده أنّ محيطه لا يحبّ التّمر؟
ذلك القابع في غروره وصلفه هو ذاك، ولا ألومه لأنّه لا يعرف إلا هذا، ولد والعالم عبيد له، ولا يستطيع أن يفترض تغيّر هذا العالم، وسيبقى يراهن على عودة العبيد إلى الطاعة حتى لو لم يبق منهم عبد. هذا لا ألومه، ولكنّني ألوم من يدافعون عنه بوصفه الحل، استنادا إلى نقيضه المصنوع منه، مصنوع منه تماما، والاختلاف بينهما أنّ الأوّل يسير بطغيانه بتفويض من حق وراثة الأرض وما عليها، كما ربّاه أبوه، وهذا يظنّ أنّه يقوم بما يقوم به بتفويض إلهي، إن كان يستطيع أن يظنّ، وفي الأرجح أنّه لا يستطيع حتّى الظنّ، انشغالًا بما كُتب له.
اللعبة محبوكة تماما، ثمّة ما هو أسوأ منّي فعودوا إليّ!
وتمرّ اللعبة، وتصدح حناجر مَبيعة بالانتصارات الوهميّة، وتخرج البطولات الوهميّة من جحورها لتمجّد الطاغية بوصفه ذاك، ذاك الذي نتشبّه به، ونظن أنّنا نعبده.
إنّنا أمام بنية أوّليّة تماما، لم نبرحها، مصابين بعماء الزمن وصممه، مرّ زمن كثير، لكنّه لم يمرّ؛ ذلك أنّنا نعيده باجترارنا زمنًا آخر هو آخر، ونحن عليه آخر.. إنّها معضلة الرقبة التي تشوّهت عندما أدمنت الالتفات إلى الوراء، ولم تعد تعرف الأمام ولم تذق من طعمه شيئا.
كيف تقنع بالمدنيّة من جاءته قشورها، تكنولوجيا ذكية، وهو قابع في ضلاله القديم، لم يبارح بيت الطاعة لوليّ الأمر، المتشبّه بالآلهة؟
كيف تقنع بالمواطنة من يحتربون على مقدّرات الوطن بوصفها غنائم المعمعان التي لا صاحب لها؟
كيف وكيف، أسئلة تشارف اليأس إن تعاملنا معها بوصفها مسلّمات، لكنّ التاريخ لا يعود إلى الوراء، التاريخ يمضي إلى الأمام، ومن يسكنون التاريخ ولا يريدون مبارحته، أولئك سيدركون أنّهم يتضاءلون كلّما ابتعدت عنهم سفينة الحياة والحضارة والمدنية، وسوف تأتي، ولعلّها أتت، تلك النقطة من المستقبل التي لم يعد فيها أولئك مرئيّين لأحد، يقبعون في بنيتهم الأوّليّة الابتدائيّة، وينتظرون لسفينة في كل واد منها قطعة خشب أو مسمار أن تجتمع وتلتمّ وتحملهم.
وأمّا الذاهبون إلى الأمام، فلهم أن يأملوا ويأملوا ويأملوا، لأنّ الأمل والحلم أساس كل تقدّم، ومن يفقدهما يفقد كلّ شيء.
أضع أذُني على القفص الصدريّ لهذه الأمة، وأرى أنّها تتنفّس وأنّ الغد جميل جميل، ولا أعلم ماذا نعمل، نحن المحكومين بالأمل، سوى أن نبشّر به، وندل على علاماته الآتيات، وشجره الذي يتحرّك حاملا الخير والفرح، رغم كلّ شيء.