عبدالمنعم تليمة زلزال تاريخي
يتميز المنهج النقدي للدكتور عبد المنعم تليمة بالعلمية التاريخية، فهو في تفسيره للظاهرة الأدبية أو الجمالية ينحاز للمنهج العلمي الموضوعي، ويرصد الظاهرة في سياقها الاجتماعي والتاريخي، فلا ينساق وراء نظرات جزئية منقوصة تفتقد الكثير من الدقة.
في كتابه «مقدمة في نظرية الأدب» يرصد تليمة عنصرين أساسين في الأدب وتاريخه: الأول يتعلق بتأصيل مصدر الأدب ومراحله تارة في اغترابه عن الواقع وتارة أخرى في اغترابه في المجتمع، متطرقًا للحديث عن التجريد والتعميم عند الإنسان وارتباطهما بالبعد الفني للغة، وراصدًا لتأثير العلاقات السحرية الأسطورية بالعالم في حضارات المجتمعات البدائية في الفلسفات المثالية والأصول الأولى للفنون، واغتراب الإنسان في المجتمع الطبقي في المجتمع الذي دفعه للوعي بجذور الاستغلال والاغتراب فكان ذاك الوعي مضمونًا أساسيًا في فن هذا الإنسان وخضوع الفنون لقوانين الاستغلال في النظم الرأسمالية.
في كتابه «مدخل إلى علم الجمال الأدبي» يتناول تليمة طبيعة الصلة الجمالية مع الواقع وصورة الانتقال من التقويم العلمي لفلسفة الفن إلى الأصول الفلسفية لعلم الفن، كاشفًا عن الصلات ما بين التعرف الجمالي والمثل الأعلى الجمالي وما بين التشكيل الجمالي وخبرة الجماعة الجمالية والتكنيكية، والعلاقة ما بين العمل الفني وحقائق التاريخ الفني، فضلًا عن مؤازرة العمل الفني للواقع رمزيًا وعلاقة ذلك بحقائق الواقع ذاتها.
بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1960، نال تليمة دبلومة عامة في التربية وعلم النفس سنة 1961، وحصل على الماجستير في الأدب العربي الحديث عام 1963، ودرجة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث عام 1966، ثم ليسانس في الآداب الكلاسيكية اليونانية واللاتينية سنة 1985 من جامعة عين شمس. وعمل كمعيد بقسم اللغة العربية في كلية الآداب حتى عام 1967، وتدرج من مدرس إلى أستاذ مساعد فأستاذ، ثم رئيس قسم منذ عام 1994 وحتى عام 1997.
قدم تليمة عبر سنوات عمله في مجال النقد الأدبي والفني، وعمله الثقافي العام الذي أسس له من خلال صالونه الثقافي ونشاطه في جمعيات ثقافية أهلية، فضلًا عن إشرافه على رسائل الماجستير والدكتوراه في مجالات النقد الأدبي والفني، الكثير من العطاءات القيّمة للساحة الثقافية المصرية بل العربية ككل، ليقدم حفرًا عميقًا في الساحة الأدبية يستحق الكثير من التأمل والوقوف عندها.
«الجديد» حاورت الدكتور عبد المنعم تليمة، في منزله الذي طالما استقبل الكثير من المثقفين والفنانين، لنقاشات دارت على مدار 60 عامًا في صالون «الخميس» الثقافي، لتقترب أكثر من مشواره الإبداعي الذي بدأ باكرًا منذ الطفولة ولا زال مستمرًا حتى اللحظة في عطاءات لا تنضب.
الجديد: سأبدأ معك من نقطة محددة لنصل سريعا إلى الوقائع العربية الراهنة ومن ثم نحاورك كناقد ومؤرخ للأدب. في تحليلك لتاريخ النضال المصري، قسّمته إلى أربعة أقسام أولها: وقفة المصريين لمواجهة الحملة الفرنسية، وثورة عرابي، وثورة 1919، وثورة يوليو.. هل من قاسم مشترك بين الأقسام الأربعة لم يقبله المصريون طوال تاريخهم؟
تليمة: العرب هم المجموعة من البشر الذين يتوسطون عالماً عتيقا، هو عالم الحضارات الكبرى الخالدة، ما بين النهرين، ووادي النيل، وأودية الأنهار العظمى في الهند والسند والصين، وعالما حديثا يجرى تشكله وسترى السنوات الآتية ملامحه ومؤسساته ومنظماته، وتحالفاته ومراكزه الأساسية في عمليتي الإنتاج والتوزيع وقضاياه الكبرى في حقائق ما هو راهن وما هو آت: الطاقة البيئة، السوق.. إلخ.
أما عرب اليوم فهم ليسوا عرقاً أو سلالة ترتد إلى دماء واحدة: إنهم ليسوا عرب شبه الجزيرة العربية الذين خرجوا يحملون ألوية الإسلام، ليسوا العرب البائدة، ولا العاربة ولا المستعربة، إنما هم كل هؤلاء متفاعلين مع الذين أبدعوا الحضارات والثقافات العتيقة. هم ورثة عتيق ومشاركون في تأسيس وليد يدرج، ولذلك فإن عرب اليوم على قاعدة كل جديد عصري: متعددون، يتسع رداؤهم لأصول وأعراق جمة: الكردي، والأمازيغي، والزنجي.. إلخ نشأت آخذاً بهذه العقيدة.
العروبة ثقافة والعرب متعددون ولهذا فإن ثورة مصر في التاريخ الحديث قد مضت تاريخياً ثقافية تعددية: على الحملة الفرنسية أول القرن 19، على الاحتلال التركي والإنكليزي، عرابي على الاحتلال الإنكليزي 1919، من أجل تحرير مصر وضد كل استعمار 1952.
ثورة مصر في التاريخ الحديث أربع مراحل اتسعت لكل الأصول والاتجاهات بل واتسعت لتحرير كافة الأوطان من كل استعمار.
صحوة جذرية
الجديد: وكيف ترى ثورات الربيع العربي بعد مرور خمس سنوات على اندلاعها، هل انحرفت عن مسارها بغير رجعة أم إن ما يحدث في الدول العربية انتكاسة ستنتهي مستقبلًا، وما المؤشرات الدالة على ذلك؟
طه حسين هو والدي المباشر ومعلّمي الخالد، فقد حمل كل أيامه لواء (العصر)، أما أنا فأجعل (المستقبل) هو رهان هذا الزمان
تليمة: ما يجرى على الساحة العربية صحوة جذرية غايتها تصفية التخلف ومحو آثار كل استبداد داخلي وخارجي. هذه الصحوة زلزال هائل تجرى عملياته وفق نواميس التاريخ وقوانينه، في هذه الصحوة تتخذ قوى التخلف من الدين ستاراً لغاياتها النفعية الضيقة وآفاقها المعرفية العاجزة.
وكل القرائن المرئية والمرصودة تدل قطعاً على هزيمة هذه القوى وبداية تراجعها، وفي هذه الصحوة لا يزال الثوار والعلمانيون يعدلون في المواقع، وسطح سبيلهم الوحيد: المجتمع المدني العصري. وعماده المؤسسية والتعددية.
الجديد: برأيك.. لماذا فشل الثوار والمثقفون العلمانيون في تطبيق مبادئهم العلمانية أو الإقناع بها، ولماذا نجحت التيارات الإسلامية في تصدر المشهد في الدول العربية؟
تليمة: الثوار والعلمانيون في محاولات مستمرة للتعديل في الواقع، لكنهم واقعون تحت تأثير الاستبداد الداخلي والخارجي، ففي تاريخ العرب الحديث تعرض العرب لأشكال عدة من الاستعمار الخارجي أما الاستبداد الداخلي فتمثل في عرقلة جهود إقامة المجتمع العصري من قبل الحكم القبلي أو العسكري أو البيروقراطي وغيرها.
ما يحدث لا يمكن أن نطلق عليه فشلًا؛ لا شيء يفنى من عمل الإنسان، الليبراليون العرب قاموا بثورتين من أمجد الثورات في وجه الاستبداد الداخلي والخارجي، وهي انتفاضة لا يمكن أن نتجاوزها بأيّ حال.
أما التيارات الإسلامية فهي لم تنجح على مستوى العالم العربي، فشلت فشلًا ذريعًا، أخذت السلطة وفشلت بشكل كامل، لم تنجح ولن تنجح. وصولها إلى السلطة لا يعدّ نجاحًا، نجاحها جماهيريًا وليس سياسيًا ومن ثم فهي غوغائية لن تنجح في السياسة بأيّ شكل من الأشكال.
مجتمع العدل
الجديد: هل تعتقد بأن الرأسمالية في الدول العربية في طريقها نحو النهاية؟ وما البديل الحتمي آنذاك؟
تليمة: في العصر الصناعي كانت الجدلية بين الرأسمالية والاشتراكية، هذا الجدال يتراجع بشكل كبير في الوقت الراهن، فينشأ مجتمع جديد يأخذ ثمرات نضال الشعوب من أجل الحرية والعدل تحت رايات الرأسمالية أو الاشتراكية بغض النظر عن التيار الذي تندرج تحته، للتأسيس لمجتمع العدل والحرية.
سأظل اشتراكيًا حتى نهاية حياتي وفي جدال مع بقايا الرأسمالية، ولكن الآتي في البشرية هو مزيج من التيارين ولكن تغلب عليه طوابع الاشتراكية في العدل والحرية.
نظرية موحدة
الجديد: هل توجد نظريات نقدية عربية حديثة أم إننا لازلنا نقتات على نظريات أجنبية وأخرى من التراث العربي، وإن كان هناك غياب فما السبب وكيف نتجاوز تلك المشكلة؟
تليمة: تصدق، في العوامل القديمة، مقولة الملامح الذاتية والخصوصية المحددة حتى للأنشطة الإنسانية الأساسية وفي صدارتها الفن. ذلك أن تلك العوالم كانت أشبه بالجزر المنعزلة لهذا يصدق علمياً القول: حضارة مصرية، حضارة هندية، صينية، فارسية، يونانية.. الفن الفرعوني، الفارسي، الصيني، الهندي.. الفلسفة المصرية القديمة، الفارسية، اليونانية.. إلخ.
أما في عالم اليوم، فإن العلماء والدارسين لديهم جملة من نتائج الدرس والنظر، صاروا يعتمدونها ويقيسون عليها ويصدرون عنها؛ فلا يمكن القول اليوم: نظرية نقدية أميركية، أو هندية، أو عربية، فضوابط الدرس واحدة: المنهج العلمي. ومعايير الإبداع واحدة: التشكيل الجمالي.
ولأن الأدب فن لغوي فإن عطاء علماء كل لغة هو مشاركة جماليات لغتهم في تأسيس علم الفن ولهذا فإننا في ثقافتنا العربية الراهنة، لا نسأل ولا نسعى إلى نظرية عربية في النقد، إنما نسأل ونسعى إلى جهد علمي عربي يحدد جماليات اللغة العربية، ويكون هذا الجهد المرموق هو المشاركة العربية في تأسيس نظرية إنسانية واحدة للفن، ومنهج علمي واحد لدراسته.
الجديد: وما هو تقييمك لحجم المشاركات العربية ودورها في تأسيس نظرية موحدة للفن؟
تليمة: بالطبع للعرب مشاركات في ذلك لكنها ليس بالقدر الكبير أو الكافي، مثلًا طه حسين له مشاركة كبيرة وواسعة، وإدوارد سعيد، وفي العالم العربي الراهن على مستوى العراق وتونس وسوريا والمغرب يوجد العديد من المشاركات لكنها ليست كافية.
النقد الانطباعي
الجديد: كثير من النقاد يهاجمون ذلك النوع من النقد الانطباعي، في حين يرى البعض أن العمل الأدبي أو الفني لا بد أن يلامس النفس أولًا ومنهم غنيمي هلال الذي آمن بضرورة الارتقاء بالجانب الانطباعي لأنه أساس ميل الناقد إلى النص وانطلاقة نحو البحث عن منهج، إلى أيّ الفريقين تميل ولماذا؟
ثورة مصر في التاريخ الحديث أربع مراحل اتسعت لكل الأصول والاتجاهات بل واتسعت لتحرير كافة الأوطان من كل استعمار
تليمة: النقد الانطباعي لا يعد نقدًا، ما تمتلئ به الصحف والمجلات من انطباعات ليس نقدًا بل يشتت الأنظار بعيدًا عن الأعمال الإبداعية الهامة، ولكن ما يتحدث عنه غنيمي هلال من ضرورة ملامسة العمل الأدبي للنفس أولًا لا بد منه لأيّ ناقد، ولا يعني أن الناقد انطباعيّ لأنه للوهلة الأولى يعرض العمل على صفحة النفس ولكن في النهاية لا بد من عقلنة الانطباعات في شكل علمي.
الجديد: في ظل الهجوم الكبير من قبل النقاد على النقد الصحافي الانطباعي وتبريرهم ذلك بأنه يرسّخ لنقد هشّ غير فعال، يبشر كُتّاب بموت الناقد بعد أن حلّ القارئ غير المتخصص محل الناقد المتخصص بسبب نزوع الأخير نحو نقد نخبوي غير مفهوم لغير المتخصصين.. هل تؤمن بتلك الفرضية؟ وما السبيل نحو التخلص من تلك الإشكالية؟
تليمة: الحديث عن نخبوية النقد يأتي بسبب غياب الفلسفة عن المجتمعات العربية ما أدّى إلى فقر الرؤية لدى الكثير من النقاد، أما ما يتعلق بموت الناقد وموت المؤلف والأب وغيرها، فهذه أفكار أقرب إلى الرومانتيكية وتسميات دخيلة على العلم، وشيوع النقد الانطباعي لا يمكن أن يؤدي إلى نهاية النقد الأدبي، فالمزدهر في الوقت الحالي هو النقد الأكاديمي الرصين، وما ينتشر في الصحف لا يعد نقدًا على أيّ حال.
النظرية الغربية
الجديد: بعض النقاد يميلون إلى تطبيق النظرية الغربية على النص العربي دون مراعاة لخصوصية ذلك النص، معتبرين أن استجابة النص لمعطيات النظرية الغربية هو الدليل الأساسي على جودته، ما رأيك في هذا الاتجاه؟
تليمة: لا توجد نظرية غربية أو شرقية أو غيرها، نؤسس علمًا منضبطًا للفن يراعي ضوابط المنهج العلمي في النقد ومبادئ التشكيل الجمالي ويُطبّق على النصوص الأدبية، نؤسس علمًا للفن يشترك فيه الجميع وهو ما يتم تطبيقه حاليًا في الدراسات الأكاديمية.
النقد الجمالي
الجديد: في كتابه «النقد الثقافي « يرى الناقد السعودي عبدالله الغذامي أن النقد الأدبي بمدارسه القديمة والحديثة بلغ سن اليأس ولم يعد قادرًا على تحقيق متطلبات التغير المعرفي العربي والعالمي واتساعه، ويطرح بدلا منه «النقد الثقافي».. هل تتفق معه في هذا الطرح؟
تليمة: كل نقد جاد للفن أطلق عليه «النقد الجمالي»، فكله ثقافي، وبالتالي التسميات ليس لها معنى، فالنظر إلى المنتج الأدبي أو الفني تكون في إطار شامل متكامل له وهو علم الجمال، فتفسير الظاهرة الفنية كان شغل البشر منذ نزولهم إلى الأرض، وتعددت العوامل التي أكّدت على ضرورة نشأة علم منضبط للفن والجمال.
وظيفة جمالية
الجديد: اللغة في الأدب وظائف تعريفية وتوجيهية وجمالية في المقام الأول، كيف تنظر إلى النص الأدبي الذي تتحقق فيه الكثير من المعايير والأهداف لكن ينقصه العنصر الجمالي، هل ينتفي عنه صفة الأدب؟
تليمة: لكل لغة جمالياتها التي هي ثمرة السياق الاجتماعي التاريخي للجماعة البشرية التي تبدع وتتعامل بهذه اللغة. ونتائج الدرس المنهجي لجماليات هذه اللغة هي المشاركة الحضارية العلمية التي تمنحها هذه اللغة للبشرية، في حركة تأسيس علم الفن وهو واحد، لذلك لا بد من توفر العنصر الجمالي في كل نص أدبي لأن الأدب لغوي محكوم في عناصره بلغته.
أساس فلسفي
الجديد: تحمل أطروحاتك النقدية مزاوجة ما بين الأدب والفلسفة، ما الذي تمنحه الفلسفة للنقد الأدبي من أبعاد ضرورية؟ وما الذي يميز منهج المادية التاريخية التي تعتمده في نقدك الأدبي؟
ما يجرى على الساحة العربية صحوة جذرية غايتها تصفية التخلف ومحو آثار كل استبداد داخلي وخارجي. هذه الصحوة زلزال هائل تجرى عملياته وفق نواميس التاريخ وقوانينه
تليمة: وراء كل نشاط إنساني أساس معرفي، فلسفة، والمادية التاريخية هي هذا الأساس المعرفي في العصر الحديث، الفن أعلى مدارج الأنشطة الإنسانية، ولذا فإن دوره في مقدمة كل الأدوار، وبالضرورة قاعدته الفلسفة.
لقد مرّت البشرية بثلاث مراحل هي: المجتمع الزراعي والمجتمع الصناعي ومجتمع ما بعد الصناعة في ظل ثورة الاتصالات؛ بدأت مرحلة الصناعة مع نشأة الطبقة الوسطى وفكرها الليبرالي والبرجوازي، وفلسفتها المادية التاريخية التي كان أقوى ظهور لها في كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، إذ كانت بمثابة التحليل العلمي المنهجي للمجتمع الصناعي، فتتيح المادية الجدلية رصدًا شاملًا للموضوع الأدبي في سياقه التاريخي برباط جدلي، ومن ثم فالفن من أحوج الأنشطة إلى قاعدة فلسفية تستند عليها.
طه حسين آمن بمقولة العصر، أمين الخولي آمن بمقولة البيئة، فالأدب المصري بيئة داخل الأدب العربي، محمد مندور جاء بمقولة المجتمع، وأنا قلت إن الفنان لا يعكس الواقع أو المجتمع ولكنه يعيد بناء واقع جديد مواز ولا ينقله.
الجديد: وما هي رؤيتك للنظرة «الوضعية المنطقية»، في ضرورة مطابقة النص للواقع بشكل تام، في تحليل النصوص الأدبية أو الفنون بصفة عامة؟
تليمة: كان آخر من يمثلها الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود، وكل تلامذته في العالم العربي غير موجودين، وتلك النظرة ليست قائمة في الوقت الراهن، جاءت من الآداب الغربية تحت مسمى «النقد الجديد» الذي قام على جثة الرومانتيكية فكانوا أكبر مناوئين لها.
ثورة نقدية
الجديد: إلام تعزو غياب فن «نقد النقد الأدبي» الذي شاع في عصور سابقة؟ وكيف ترى الحركة النقدية في العالم العربي في الوقت الراهن؟
تليمة: النقد العربي واقع تحت نفس الظروف السيئة التي تؤثر بالسلب على الثقافة ككل من حد الحريات والاستبداد الداخلي والخارجي، نعيش ثورة إبداعية وليس ثورة نقدية، لدينا الكثير من المبدعين على مستوى العالم ككل في كل المجالات سواء الشعر أو الموسيقى أو الأدب لا يوازيها نقاد على نفس الدرجة أو المستوى، أيضًا، لا يوجد في الحياة الثقافية الحديثة منظرون على وعي كامل بحركات التطور في العالم العربي، ليس لدينا حتى الآن معاهد وكليات وأكاديميات متخصصة في دراسة الفن، وهو ما نحتاجه بشكل كبير لدفع المشهد النقدي نحو التقدم.
وفيما يتعلق بغياب فن نقد النقد الأدبي فهو أيضا مرتبط بازدهار الحريات؛ فلا زالت لدينا الكثير من القيم البالية والقديمة التي تحكمنا؛ على مستوى المجتمع ككل، فعندما ينتقد أحد أطروحات ناقد كبير تتحول المسألة إلى عداء شخصي ولا توجد حالة من التقبل لاختلاف الأفكار في المجتمع.
تجليات التطور
الجديد: أثمر التجريب في الفنون الأدبية عددًا من المستحدثات مثل «قصيدة النثر» و»القصة القصيدة» وهي نوع من الكتابات أطلق عليها إدوار الخراط اسم «الكتابات عبر النوعية».. ما رأيك في تلك الأشكال الجديدة التي نجم عنها تداخل كبير بين الفنون؟
تليمة: كل فن يتسع للتطور والتجديد، بحسب التطور التكنولوجي. اختراع الراديو أثّر في الفنون الأخرى وكذلك السينما والتلفزيون، وصلنا إلى أن هناك قصة قصيرة من سطر واحد، وهي ظاهرة إيجابية جدًا، وخصوصًا قصيدة النثر فهي آخر تجلّ من تجليات تطور الشعر في العصر الحديث والتي أظهرت الكثير من المواهب الشعرية في العالم العربي، فكل فن يتسع للإضافة والتطوير.
الجديد: من خلال رؤيتك للنوع الأدبي بأنه «محكوم في نشأته وتطوره بوضع تاريخي اجتماعي محدد، ومحكوم في طبيعته ووظيفته بالوفاء باحتياجات اجتماعية معينة، يحددها ذلك الوضع التاريخي-الاجتماعي الذي أثمر هذا النوع»، كيف تنظر إلى الفنون الجديدة التي نشأت في ظل الحداثة؟
تليمة: الفنان ينظر إلى الطبيعة والبيئة من حوله ويخرج منها بمادة فنية جديدة، كل فنّ يسعى نحو التغيير الاجتماعي ويتأثر به، فتظهر فنون جديدة مع كل تطور جديد في المجتمع بلا نهاية، والكل يندرج تحت راية الإبداع، والفنون الجديدة ظاهرة صحية بلا شك لأنها ناجمة عن التطور.
الأدب المقارن
الجديد: برأيك.. هل أدى الأدب المقارن دورًا في تحقيق بعض العالمية للأدب العربي؟
تليمة: في العام 1931 ألقى طه حسين محاضرة مشهورة قال فيها إن الآداب العتيقة تنقسم إلى خمسة: أولها الأدب اليوناني ثم الأدب العربي ثم الأدب الفارسي ثم الهندي ثم اللاتيني، وبشّر بالمقارنة وقال إن الأدب العربي هو الوحيد الذي لا يدرس إلا بالمقارنة، لأنه في وسط الآداب القديمة ولا زال حيًا ومتفاعلًا ومؤثرًا في الآداب الحية ولا زال كذلك حتى الآن، ولا شك أن المقارنة حققت الكثير من الازدهار إلى الأدب العربي.
في ثقافتنا العربية الراهنة، لا نسأل ولا نسعى إلى نظرية عربية في النقد، إنما نسأل ونسعى إلى جهد علمي عربي يحدد جماليات اللغة العربية
اغتراب المبدع
الجديد: قلت إن «الفنان المغترب قد يستسلم لظروف القهر، التي تحوّل طاقته الإبداعية إلى سلعة وتحوّل حريته إلى وهم، فلا يقف ضدها، ويجد ملجأه في التجريب الشكلي العقيم».. إلى أيّ مدى ينطبق ذلك الوصف على الفنان العربي في الوقت الراهن؟
تليمة: في مجتمعات القهر والاستبداد، الفنان يُغلب على أمره بالاستبداد، فيستشعر أنه فعلًا غريب في محيطه الفكري الثقافي لأنه مجدد ومغير، وكل الظروف القاهرة والجامحة تدفع به نحو الاغتراب، وسبيله في التخلص من هذا القهر ومواجهته هو الإبداع، ومن ثم فما يحدث الآن ليس اللجوء إلى التجريب الشكلي العقيم ولكنه محاولات لمواجهة هذا القهر بالإبداع.
الكائن الفنان
الجديد: كثيرًا ما احتدم الخلاف بين المفكرين والمصلحين الاجتماعيين حول دور الفن، فشاع في تاريخ الفن اتجاه يؤمن بأن «الفن للفن» واندرجت تحته مذاهب مثل الشكلانية والبنيوية والتفكيكية وغيرها، ما الذي قدمه هذا المذهب للأدب وهل استطاعت أن تنجح في مواجهة اتجاه آخر يرسّخ لفكرة «الفن للمجتمع»؟ وهل تعتقد بهامشية دور الفن في التغيير المجتمعي الحقيقي؟
تليمة: مثل هذه الأفكار أعتقد أنها قد انتهت، الإنسان هو المنتج للجمال ومتذوّقه؛ فهو الكائن الفنان، عندما نقول «إن الله جميل يحب الجمال»، فإن الإنسان على كوكب الأرض جميل لأنه هو الكائن الفنان؛ فالفن مصاحب للإنسان سواء كان منتجًا أو متذوقًا، والحد الأدنى لإنسانية الإنسان أن يكون متذوقًا للفن، الفن يعدّ من أخطر الأمور في دفع المجتمع للتقدم؛ لأنه يقدم نموذجًا للآني والمتخيل. لقد تطور الفن من العمل منذ بدايته ولم ينفصل عنه في أيّ وقت من الأوقات عبر تاريخه، وهنا جاء تطور الجميل من النافع.
أعمال إبداعية
الجديد: تكتب رواية بعنوان «القمر على جدارها» تحمل مقتطفات من سيرتك الذاتية، ولك عمل آخر بعنوان «عرفتهم نساء ورجالا.. فهل عرفت نفسي؟».. حدثنا عنهما.
تليمة: هي أعمال قيد الكتابة لم أنته منها بعد، ومن المتوقع أن تصدر روايتي «القمر على جدارها» في الخريف المقبل، وفيها أكتب بعضا من فصول سيرتي الذاتية في أفقها الجمالي، أما «عرفتهم نساء ورجالا.. فهل عرفت نفسي؟» أضع فيها صورة من سيرتي في سير الآخرين مع مجموعة من الشخصيات التي أثّرت في تكويني مثل الناقد البارز محمد مندور والكاتب الكبير طه حسين وغيرهما.
تلخيص اليابان
الجديد: كثيرًا ما تتحدث عن دور رحلتك إلى اليابان التي استمرت عشر سنوات على اتساع أفقك، إلى الحد الذي جعلك تؤلّف كتابًا عن ذلك، هل لك أن تذكر لنا أبرز المحطات التي غيرت من تكوينك الفكري والثقافي؟ وما أبرز الأفكار هناك تعتقد بأن العالم العربي في أمس الحاجة إلى تطبيقها؟
تليمة: كانت تجربة السفر إلى اليابان بمثابة الالتقاء ما بين العتيق مع المستحدث في أهم تجربة بشرية تبدع وتعيش أصول هذه الثورة الراهنة، ثورة التوصيل والاتصال وتدفق المعلومات.. مجتمع المعرفة. كان جد النهضة الخالد رفاعة الطهطاوي قد رحل إلى الغرب في فتوة الثورة الصناعية وكتب، وعيناه على نهوض مصر «تخليص الإبريز في تلخيص باريس»، وها هو أحد أحفاده يرحل إلى الشرق مع بواكير الثورة الراهنة بقيادة اليابان فيكتب، وعيناه على نهوض مصر، «تلخيص البيان في تلخيص اليابان»، ساهمت حياتي في اليابان التي استغرقت عشر سنوات في اتساع أفقي على ديانات عدة ونموذج حضاري فريد لازلت متأثرًا به حتى اللحظة الراهنة.
بدأ عصر النهضة في اليابان عام 1868 مع حكومة ميجي، عندما أرسلت اليابان بعثاتها إلى مصر وبعض الدول الأوروبية لمعرفة سبل تكوين دولة حديثة في اليابان تحت شعار «دولة قوية وشعب غني»، فاستخلصوا تجارب الأمم في تحقيق النجاح وهو ما نحتاجه في وطننا العربي في الوقت الراهن.
ثلاث مراحل
الجديد: ما المراحل الفكرية التي مررت بها في عملك بالنقد الأدبي؟ وما أبرز القيم الثابتة التي حافظت عليها طوال عملك في مجال النقد؟
تليمة: مررت بثلاث مراحل متميزة، المرحلة الأولى بطبيعة الحال أقرب إلى الكلاسيكية، فبدأت بدراسة القرآن الكريم وتفاسيره المتعددة، ومنه إلى علوم اللغة العربية والموروثات الشعبية في كُتّاب القرية، وهي مرحلة مؤثرة جدًا؛ لأنها ساهمت في تأسيسي في علوم القرآن والعلوم الدينية وعلوم اللغة، أما المرحلة الثانية فهي الدراسة الجامعية والتي اتصلت فيها مع التكوينات الثقافية والإبداعية لليونانية واللاتينية القديمتين والحضارات الحديثة، وبعد ذلك جاء اتصالي بالإبداعات الشرقية المختلفة بعد سفري إلى اليابان، وخلصت جهودي للبحث بشكل متعمق في علم الجمال ونظريات الأدب.
ولا شك أن هناك عددًا من القيم التي حافظت عليها طوال عملي في النقد الأدبي، على رأسها الدقة المتناهية فلا أقول قولًا إلا إذا تأكدت تمامًا من صحة كل معلومة أقولها ولا أسترسل في أقوال غير دقيقة، فضلًا عن إيماني المطلق بقيمة المستقبلية فلا أعمل شيئًا إلا بالنظر في مستقبله.
معارك فكرية
الجديد: شاع في تاريخ الأدباء والمثقفين العرب خوضهم في معارك أدبية فيما بينهم كانت تصل إلى حد الخصومة، هل ثمة معارك أدبية خضتها؟
تليمة: لا أطيق هذا الأمر، لأن المعارك قبل جيلي كانت تتحول إلى معارك شخصية قوامها العراك والمنافسة بين أشخاص، ولكني خضت معارك مع أفكار أدبية أو مذاهب؛ فأخوض معركة كجمالي مادي ماركسي مع الشكلانيين على سبيل المثال، ولا أدخل في معارك شخصية قط، وأرى نتائج معاركي الفكرية في تبني الكثير من الأكاديميين الجدد لأفكاري ومذاهبي في النقد الأدبي.
نعيش ثورة إبداعية وليس ثورة نقدية، لدينا الكثير من المبدعين على مستوى العالم ككل في كل المجالات سواء الشعر أو الموسيقى أو الأدب لا يوازيها نقاد على نفس الدرجة أو المستوى
لواء المستقبل
الجديد: تتلمذت على يد طه حسين، أين يلتقي منهجك النقدي مع منهجه وأين يفترقان؟
تليمة: طه حسين هو والدي المباشر ومعلّمي الخالد، فقد حمل كل أيامه لواء (العصر)، أما أنا فأجعل (المستقبل) هو رهان هذا الزمان. يلتزم طه حسين بمقولة العصر في كل أطروحاته ولكنّي أترك العصر إلى المستقبل. هو يضع عينه على ما يجري وأنا أضع عيني على ما سيجري.
عندما كان طه حسين يُدرّس لنا المعلقات في العصر الجاهلي يتحدث عن العصر، وعندما يتحدث عن الشعراء العذريين في صدر الإسلام يتناوله من منظور العصر، وعندما يتناول المعاصرين له يركز على العصر، ولكني أعتقد أن الأهم من رصد ما يجري هو صورته في المستقبل، ولذلك كنا نعشق كلام أرسطو ونجادل به طه حسين في قوله إن علم التاريخ مرتبط بلحظتين: بما كان ويكون، أما الفن فمرتبط بأربع لحظات: بما كان وما يكون وما سيكون وما ينبغي أن يكون، ولذلك الفن أكثر فلسفة من التاريخ.
نضال سياسي
الجديد: لك باع كبير في تاريخ النضال السياسي والذي على إثره تم اعتقالك مرتين، اذكر لنا أبرز محطات هذا النضال.
تليمة: في عام 1977، وعقب ما سمّاه الرئيس الراحل أنور السادات «انتفاضة الحرامية» تم اعتقالي أربعة أشهر ونصف مع أعداد كبيرة سيقت إلى المعتقلات دفاعًا عن نظام السادات، ولكن لم أحاكم في هذه المرة لأنني وضعت في المعتقل دون ارتكاب أيّ جرم، وفي ديسمبر 1966 وحتى يناير 1987، جرى اعتقالي في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وقت مشاركة الرئيس في المؤتمر الإسلامي بالكويت، وفي محاولة منه لخدمة المشاركة المصرية في المؤتمر الإسلامي قام وزير الداخلية باعتقال مجموعة من التيار الثوري ليوصل رسالة مفادها أن مصر ضد الشيوعيين.
كان نضالي في الأساس ضد بعض سياسات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والراحل أنور السادات، ولكني أعتبر الرئيس مبارك خارج السياسة، فقد أقحمه السادات فيها عندما عيّنه نائبًا له.
في نضالنا مع عبدالناصر كنا نقول إن مقتله هو غياب الحريات الاجتماعية والشخصية والسياسية وغيرها، ومع الرئيس السادات كان مأخذنا عليه هو فتح الحريات على آخرها وسياسات الانفتاح ولكن لمن يقدر، وبالتالي كان الأغنياء هم المستفيد الأكبر وليس الفقراء.
الجديد: إذن أنت تؤيد ضرورة بقاء المثقف على يسار السلطة بشكل دائم؟
تليمة: ضروري، وإلا انتفت عنه صفة الثقافة تمامًا، فالثقافة تعني أن يرنو الإنسان إلى ما هو متقدم وما هو أكثر عدلًا ونبلًا، ولكن السياسة غير ذلك.
الضرورات الشعرية
الجديد: تشيع في مجال الشعر فكرة الضرورات الشعرية، هل من تعريف دقيق تسوقه لذلك، وهل ترى أنها مبرر لتجاوز قواعد اللغة، وإلى أيّ مدى تؤثر سلبيًا على اللغة والأدب؟
تليمة: الضرورة الشعرية تقول إن «مقتضى المقام يدعو الشاعر إلى بعض التدخل في القاعدة اللغوية إلى أن تصير قاعدة شعرية»، والكثير من الإبداعات ولدت من رحم الضرورات الشعرية وهي خاضعة لضرورات فنية، ولا مشكلة في ذلك، الضرورات الشعرية ليست دخيلة؛ فهي جزء من قواعد الفن.
اللغة خاضعة لتطوير أهلها، وعلى رأسهم المثقفون والشعراء، ومن ثم فلهم الحق الكامل في إضفاء تجديداتهم وابتكاراتهم، وعلى النقاد تقنين ما يقوله الشعراء في آخر الأمر.
اللغة العامية
الجديد: استطاع الشعر العامي أن يثبّت أقدامه بشكل كبير في الآونة الأخيرة.. ألا تعتقد بأن ذلك يشكل نوعًا من التهديد لمكانة اللغة العربية؟
تليمة: العامية المصرية ليست لهجة، إنما هي في الواقع كما في المنجز العلمي الراهن، لغة تامة كاملة من حيث الهيئات والمقررات والتراكيب والقواعد. ويستخدم العلماء والدارسون اليوم تسمية: العربية المصرية.
لقد صارت هذه العربية المصرية لغة عامة في كل الأصقاع العربية ثمرة للاتصال والتواصل وتقنيات التلقي والتعلم العصرية، ولقد نهض علم اللغة نهوضاً عميقاً شاملاً في العقود الأخيرة.
جمود المناهج
الجديد: هل تعتقد بأن اللغة العربية تعاني من الجمود في الوقت الراهن خاصة مع عدم تداولية ألفاظها ومصطلحاتها في الحياة العامة؟ وهل ترى أن رغبات مقاومة الغزو الثقافي الغربي ودعوات الحفاظ على الهوية قد أدت باللغة العربية إلى مزيد من الانغلاق؟
تليمة: اللغة العربية تعاني معاناة شديدة في طرق تدريسها، لا توجد مناهج جيدة لتدريسها لغير الناطقين بها، ولكن اللغة نفسها تتطور وتقفز قفرات كبيرة جدًا مقارنة بالماضي ولا أرى أنها تعاني من الجمود بأيّ حال من الأحوال.
ثمة خلاصات مفيدة في النظر إلى العربية ومشكلاتها الحالية وآفاق مستقبلها. لقد قفزت العربية في العصر الحديث قفزات مرصودة وملموحة في المنتج العربي، ثمرة لإبداعات رواد النهضة واجتهاداتهم، كما أن ثمة مسعى يتصدر الجهد العربي اليوم: مجمع لغوي واحد مركزي، يكون فيه المصطلح من حق صاحب الابتكار إذا كان تسمية عامة وإلا فالرأي لأهل النظر والاختصاص والدوائر العلمية.
مجمع مركزي
الجديد: تعاني ترجمة المصطلح النقدي إلى اللغة العربية من عدم الدقة ما أدى إلى ظهور تعريفات متعددة للمصطلح النقدي الواحد.. ما السبيل نحو التخلص من تلك المشكلة؟
تليمة: في الوطن العربي توجد خمسة مجامع للغة العربية، أقدمها في دمشق، يليها القاهرة ثم بغداد ثم عمان وأخيرًا الرباط، ومن هنا يحدث التفاوت، فكل مجمع يصدر ترجمة مختلفة عن المجامع الأخرى، الحل يكمن في إنشاء مجمع لغة عربية مركزي يصدر ترجمات موحدة تمثل خلاصة لجهود المجامع الخمسة.
المترجم المبدع
الجديد: تعاني الترجمة الإبداعية وخاصة ترجمة الشعر من العديد من المشكلات تتعلق بعدم جودة النص المترجم وعدم قدرته على نقل المعنى الفني المقصود في اللغة المترجم منها.. هل ترى سبلا محددة للتخلص من تلك المعضلة؟
تليمة: الترجمة باب البشرية إلى العيش المشترك مع الاعتداد بأن بعض الأنشطة، الشعر، لها ضوابطها في الترجمة، لا بد أن يكون مترجم الشعر شاعرًا متميزًا، على سبيل المثال الشاعر الإنكليزي البارز فيتسجيرالد لم يترجم أيّ أشعار سوى لعمر الخيام، أيضًا عندما أراد أحمد رامي أن يترجم الشعر بدأ بتعلم اللغة وإتقانها، نقل المواهب يحتاج إلى موهبة مماثلة.
الجديد: كانت دراساتك الأولى في مرحلتي الطفولة والمراهقة مرتكزة على حفظ القرآن ودراسة قراءاته، متى بدأ شغفك بالأدب واختيارك لدراسته في القاهرة خلال المرحلة الجامعية؟ وما أبرز المحطات التي تلت تلك الدراسة؟
تليمة: جئت إلى هذه الحياة الدنيا يوم الجمعة أول يوليو 1937. أسرتي ليست فقيرة ولا ميسورة، ولكنها في كل أطوار حياتها مستورة. جدول حياة مثل هذا الطفل من هذه الأسرة كجزء أساسي من يومه بالمدرسة الأولية حيث مبادئ الحساب واللغة والجغرافيا والتاريخ، وجزء أساسي آخر للكُتّاب حيث القرآن الكريم وعلومه كالقراءات والتجويد وحفظ النص الخالد.
تنتقل الأسرة من القرية «أوسيم» التي صارت مدينة ومركزاً فيما بعد، إلى جنوب القاهرة بحيّ مصر القديمة، كان هذا الناشئ حول العاشرة، وفي المدينة التاريخية الكبيرة جرت كبار الحوادث، وحظى فيها بنصيب وافر وفرص لم تتوفر لسواه، نحو الآفاق الأوسع والآماد الأبعد.
كانت أمّي رحمها الله تشتعل بالوطنية كما أحب الناس إليها أحد أخوالها وكان من مجاهدي ثورة عرابي المؤثّرين، وكان يحتضنها ويبثّ في روعها رحيقا، فلما انتقلت وأسرتها إلى المدينة وجدتها ساحة هائلة للعمل الوطني الجماعي.. نشطة مسؤولة في مكافحة وباء الكوليرا 1948، وزعيمة شعبية.
التحقت بالجامعة سنة تأميم القناة، وكانت أول محاضرة تلقيتها على يد طه حسين: لن تنهزم مصر، لأنها الوعاء الحافظ لكل الحضارات والثقافات البشرية، متفاعلة. وأنتم تعملون بالعلم وإن للعلم وطناً فاحموا وطنكم وحافظوا عليه لتتواصل المسيرة البشرية.
المنظمات المستقلة
الجديد: أسست صالونك الثقافي منذ 60 عامًا، حدثنا عن ظروف تأسيس الصالون، عن أبرز الإنجازات التي حققها، وأهمية تلك الصالونات.. وهل تقوم بدور فاعل وحقيقي في المشهد الثقافي أم أنها مجرد نقاشات نخبوية بعيدة عن الواقع؟
تليمة: كان الطلاب الجدد زملائي في الجامعة في حدود الخمسين، معظمهم من البلاد العربية والإسلامية، وكان من بينهم الذي له بيت في القاهرة: اتفقوا على قضاء النهار بالتدريب العسكري في الحرس الوطني، وعلى الالتقاء ليلاً في بيتي لمتابعة تطور الأمور. ولما انتهت المعارك الساخنة، اتفقوا على أن يكون اللقاء مساء كل خميس، وكان هذا اللقاء الذي بدأ عام 1956 هو الصالون الجهير الذي استمر واتسعت آماده إلى يوم الناس هذا.. العمل الثقافي متجادلاً مع العمل العام، تآزر الفنون والعلوم والأشكال الثقافية.
صار البيت مساء كل خميس محلاً لكل صاحب عطاء من المفكّرين والعلماء والمبدعين، ومقصداً لكل طالب تحدوه أشواقه الروحية وذائقته الجمالية وحاجاته المعرفية، وبعد التخرج استمرّ الصالون في نشاطه الثقافي، وناقشنا من خلاله أشكالا عدة من الإبداع سواء الأدب أو السينما أو الموسيقى، وحضرته شخصيات بارزة من النقاد والموسيقيين والشعراء.
كانت هذه التجربة قاعدة هائلة للإيمان بالعمل الجمعي الديمقراطي المستقل، وكان رواد النهضة حولنا يشدون من أزرنا وأهم ما في توجيههم أن نستقل عنهم «تعلموا منا ولا تلتزموا بنا». كان أحمد لطفي السيد يستقبلنا بمجمع اللغة الذي يرأسه، بقوله الشهير «إن أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإن أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإن أردتهما معاً فعليك بالعلم». وكان الدكتور هيكل يفرغ لنا عصر كل خميس، وكان سلامة موسى يجعل لنا كل ثلاثاء، وكان العقاد يستقبلنا صباح كل جمعة، أما طه حسين فكان معنا كل وقته.
الجديد: كنت عضواً مؤسساً لعدد من الكيانات الثقافية المستقلة مثل اتحاد الكتاب، الجمعية المصرية للأدب المقارن، الجمعية المصرية للنقد الأدبي، ما الدور الذي فعلته مثل هذه الكيانات في دفع المشهد الثقافي المصري نحو التقدم والتطور؟ هل تؤسس مثل هذه الكيانات بأحلام عظيمة سرعان ما تتكسر على صخرة الواقع؟
تليمة: كان المناخ الحيّ الثري السائد آنذاك هو الأفق الذي يؤهلنا تأهيلاً رفيعاً لخوض معارك تأسيس المجتمع الحديث.. مجتمع المنظمات الديمقراطية المستقلة، تأسيس الجماعات والجمعيات والنقابات والاتحادات، التي تتفاعل فيها كل التيارات والاتجاهات والمدارس والمذاهب.
العصر الحديث يقوم على المؤسسية، سواء مؤسسات حكومية أو أهلية، ولكن الأصل هو المؤسسات الأهلية، لأنّ من طبائع الأشياء أن البشر هم الأصل، النشاط الحكومي يأتي لما اتفق عليه الأغلبية، ومن ثم الصالونات الأدبية والجمعيات الأدبية أكثر فعالية من وزارات الثقافة لأنها متحررة من البيروقراطيات الحكومية، وهي عمل تطوعي بشكل كامل، وعطاؤها مجاني؛ فمصر الحديثة كلها ثمرة لهذه المؤسسات الأهلية، وكل شيء يمُتّ إلى المجتمع الحديث قام على أكتاف العمل الأهلي والتطوعي.
أجري الحوار في القاهرة