عقدة اغتيال الأم
حال الكتاب (المبدع) العربي حال لغوي غريب ومتناقض ومعقد، بل يكاد يكون استثنائيا، يسحب المبدع معه وفيه وضعا لسانيا معطوبا منذ أن يكون طفلا على عتبة تعلّم الحروف الهجائية الأولى جالسا لأول مرة على كرسي مدرسي في حضرة كتاب مدرسي، فالطفل في العالم العربي حين يدخل المدرسة الموجودة على بعد بعض العشرات من الأمتار من بيته يجد نفسه أمام لغة غريبة ليست لغة أمه التي تركها باكيا هذا الصباح المدرسي الأول، لغة الصدمة، التروما اللغوية، لغة تجعل المكان غريبا والمعلمة كائنا غرائبيّا نازلا من كوكب آخر، أسماء الأشياء وصفاتها وأحجامها من حوله تتغيّر بصورة مدوخة، كل شيء يبدو جديدا، المدرسة تبدو فضاء لغويّا يحتاج يستعمل كودات غامضة لأشياء مألوفة، تتطلّب اجتهادا فكريّا لفكّها، كل ما سبق للطفل تعلّمه قبل أن يتخطّى عتبة المدرسة يجب إعادة النظر فيه، إنه مختلف وغريب عمّا يسمعه وعمّا هو مطالب بحفظه في المدرسة، فالأشياء والكائنات والحيوانات والنباتات غيّرت أسماءها، فاسم الطماطم ليست اسم الطماطم ولا أسماء الأشجار هي أسماؤها التي حفظها من الأم والأب والخال والجدّة ولا السلحفاة هي السلحفاة ولا الأرنب هي الأرنب ولا أسماء الألعاب واللعب هي نفسها، أسماء الخضر تختلف وأسماء النسب من الأعمام والأخوال والخالات تختلف والحساب يختلف؟ إنها التروما اللغوية.
هي الغربة الأولى تلك التي يعيشها الكائن اللغوي العربي، ولاحقا المبدع العربي، الشاعر والروائي، وهو ينتقل من لغة الأمومة التي رضع فيها ومعها حليب الثديين المباركين إلى لغة باردة تفرّخها المدرسة، المسافة تبتعد وتطول كثيرا أو قليلا بين لغة المعلمة ولغة أهزوجة الأم التي حفظها بشهوة ساعة النوم على صدرها الدافئ، بين لغة الطباشير والسبورة والنحو ولغة حكاية الجدة التي تفيض سحرا وحرية، مسافة ما بين قصيدة شعبية يحفظها الجد الذي لم يدخل المدرسة ويردّدها الجميع معه بحبّ وصوفية وقصيدة مرتّبة كهندام عسكري.
الغربة اللسانية الثانية والمزدوجة هي تلك التي فرضها التاريخ الحديث، بعنفه العسكري والرمزي، تاريخ الاستعمار الفرنسي، حيث ما إن نزل بأرض بلاد المغرب الكبير حتى نزلت معه لغته الفرنسية، اللغة حصان المستعمر الأول، ومفتاحه السري، واستقرّ الاستعمار ودار الزمن ومعه استقرت اللغة وبدأت تضرب جذورها في مفاصل الحياة العامة، بأوروبييها وأهاليها الأصليين، وقد ساند هذا التكريس اللساني قوة الترسانة التربوية والإعلامية والإدارية والإبداعية، ومع مرور الزمن الاستعماري وتبدّل حاله مع تبدّل المحيط العالمي والجهوي ولدت أنتلجانسيا محلية (أُتوكتونية) تخرّجت من المؤسسات الفرنسية بوعي نقدي مغاير، وشيئا فشيئا بدأت هذه الأنتلجانسيا تنتج إبداعا بهذه اللغة بحسّ محلّي، ومع زحف التاريخ وولادة الفكر الوطني بدأت تخلق مسافة بينها وبين النخب الأوروبية، وأخذت تتأسّس كصوت مغاير داخل لغة الآخر، صوت الأنا بلغة الآخر، ولكنها تظل تلك اللغة الغريبة التي تضع المبدع على مسافة بعيدة بينه وبين لغة أهزوجة الأم وحكاية الجدّة، إنها غربة أخرى، رحلة شقاء لساني آخر.
فإذا كان المبدع باللغة العربية الفصحى في البلدان المغاربية (والحال نفسه ينطبق على المبدع في البلدان العربية المشرقية) يستعمل في إبداعه لغة بينها وبين الواقع اليومي اللغوي مسافة كبيرة من الغربة والتعارض والترجمة، لغة بينها وبين جنون الناس في الشارع مسافة كبيرة، وإذا كان المبدع المغاربي باللغة الفرنسية يستعمل لغة هي الأخرى غريبة وبعيدة عن الحياة اليومية وعن المعيشي اللغوي، وإذا كان الإبداع هو “حلم” الواقع، فكيف يا ترى يحلم المبدع سواء بالعربية الفصحى أو بالفرنسية، وبأي لغة يحلم؟ أليس كثير من أعمالنا الأدبية هي امتدادات لأحلامنا وكوابيسنا الاجتماعية والنفسية والسياسية؟ أليست لغة الكتابة، في مثل هذه الحالة، عربية كانت أم فرنسية هي في نهاية المطاف عملية “اغتيال الأم”، لأن اللغة هي الأم، هي الأنثى في قدسيتها وشهوانيتها. يكتب المبدع، شاعرا كان أم روائيّا، بالعربية الفصحى أو بالفرنسية، ومهما كان مستواه الإبداعي واللغوي، ومهما كانت عبقريته، سيظل مبدعا يعيش عقدة “اغتيال الأم” في كل نص يكتبه خارج لغة أمه.