عقلنة التاريخ العربي
تواصل مجلة ” الجديد” وبعزم قوي الحفاظ على مبادرتها الحوارية التي أطلقتها والتزمت بها أمام قرّائها، من أجل الانفتاح على النصوص الكبيرة في الفكر البشري التي شكّلت من حيث رؤيتها خطا فاصلا بين رؤية تليدة ورؤية استشرافية ترنو إلى المستقبل، وفي مسلكها هذا تكون مجلة “الجديد” قد كرّست تقليدا رائعا، وبلغة دقيقة فإنها أعادت تنشيط هذا التقليد وإحياءه من جديد بغرض الإنصات إلى صوت وكلمة الآخر الذي يفكّر بصورة مخالفة لما هو مألوف والذي هو قادر على إحداث رجة على مستوى المفاهيم السائدة.
على هدي هذا الاعتقاد بضرورة الحوار كدرب معرفي وأفق أنطولوجي للوثب باتجاه الحضارة في صورها المشرقة، سعت “الجديد” إلى الالتقاء بأهل الفكر والثقافة الذين ينشغلون ببناء الرؤى الإدراكية للعقل العربي خاصة في مرحلته الراهنة، بحمولتها السياسية والاجتماعية والتاريخية، ومن بين المفكرين العرب الذين كان لهم الفضل في الانخراط في الخطّ المعرفي يبرز المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط، والذي يتمثل أساساً في دراسة التاريخ العربي الإسلامي اعتمادا على مناهج معاصرة وحديثة، بعد أن تبيّن أنّ الحداثة منجز تاريخي يحتاج إلى الاشتباك معه معرفيا، بعيدا عن أنواع التعاطي الأخرى مثل: الأيديولوجي، الخطابي الديني، التحليلي السطحي.. وغيرها من المنظورات التي تركن إلى السجالات العكرة.
جاء الحوار الذي أجراه حُسام الدين شاشية مع المفكر هشام جعيط في لحظة تاريخية خطيرة يمرّ بها الوطن العربي، حيث الثورات أخذت أبعادا مؤلمة، والدول تعيش مخاضا عسيرا، والأنظمة منشغلة بوجودها، والشعوب تحدق فيما هو آت من شمال الكرة الأرضية، وانفلات العنف الأعمى والدامس من عقاله، ولم يعد من الممكن ألاّ نكترث بالتاريخ ونغفل عن المستقبل ونبقى أسرى الحاضر بأسئلته السائرة إلى زوال حتمي.
لقد كانت مقدمة الحوار واعدة، خاصة عندما أجرى مقارنة بين منجز المؤرخ الفرنسي فرنان بردويل ( 24 أوت 1902 – 27 نوفمبر 1985)، ومنجز مفكرنا هشام جعيط لأنّ الأمر يتعلق بـ”عملية إصلاح تاريخي حقيقية، حيث عمل من خلال كتاباته التاريخية على أنسنة أو عقلنة التاريخ الإسلامي، هذا التاريخ المُصاغ في كلّ فتراته تقريبًا على أسُس سردية، أسطورية تعلوها هالة من القُدسية. ومن جهة ثانية قدّم هشام جعيط من خلال كتاباته الفكرية منذ السبعينات قراءة استباقية للأزمة العربية-الإسلامية المعيشة اليوم”، ولكنّنا لا نلمس هذا التحول الكبير الذي أنجزه هشام جعيط في متن الحوار، فقد قرأنا مجرد إشارات بسيطة، لم ترق إلى رتبة التحليل العميق، ونحن على علم تام بالمقدرة التحليلية العظيمة التي هي في حوزة مفكرنا.
الملاحظ كذلك هو أنّ أغلب الأسئلة التي طرحت عليه كانت على درجة عالية من الانشغال الفكري وبمستوى راق من الاحترافية، حيث احتوت على منسوب عال من التركيب والاطلاع الجيد على منجزات مفكرنا الفكرية والتاريخية، غير أنّ الإجابة المقدّمة من طرف المفكر هشام جعيط لم تكن في مستوى السؤال أو أقلّ منه، وتحتوي على قدر كبير من التسرع، وكأنّه يريد أن ينهي الحديث بإعطائه إجابة مكثفة وضاغطة، بمعنى دقيق وكأنّها موجهة إلى أهل البحث الرصين.
نلاحظ على مستوى الحوار أنّ مفكرنا قد انطلق من رؤية مفادها أنّ الحضن الذي تشكّل فيه هو الحضن الفكري وتلاه فيما بعد الحضن التاريخي، وقد تمّ التأليف عنده باللسان الفرنسي من أجل التعاطي مع جمهور يقرأ ويفكر وفق الأفق الفرنسي في أغلب البلدان المغاربية، ثم بدأ في الكتابة باللّسان العربي الذي طفق ينهض من كبوته التاريخية، وبذلك يكون صاحب رؤية تستند إلى المعطى التاريخي العلمي كنموذج في التصور العام لكتاباته، معتمدا على مقولات الأنسنة والعقلنة والعلمية، الأمر الذي يبين بصورة جلية الصرامة البحثية التي التزم بها مفكرنا في كتاباته المختلفة.
في إجابته عن سؤال مشروع الحداثة قدّم مفكرنا أطروحة تتمحور حول علاقتنا بالغرب الحداثي، حيث أشار إلى سبب نكسة الحداثة في ربوعنا وهو الانشغال بالجانب الفكري من الحداثة دون الاكتراث بالجانب الصناعي والتقني، كما أرجع سبب نجاح الحداثة في الغرب إلى علو كعب الصناعة والاقتصاد خاصة بعد عام 1800، وهي مسألة على درجة عالية من الأهمية في تغير الذهنية التقليدية، غير أنّه همّش الوعي المصاحب لهذا المنجز.
رغم هذه الملاحظات التي سجلتها على الحوار، فإننا نستطيع أن نتحدث عن لقاء رائع بين الباحث حُسام الدين شاشية وبين المفكر الكبير هشام جعيط مما يبقي العلاقة بين الشباب وكهول الفكر العربي وقياداته قائمة من أجل تشييد صرح علمي يخدم الثقافة العربية القادمة.