علامة قيامة أم نبوءة موت
فيما هي تَضُمُّ كفَّها اليُمنى على كيسِ الجواهرِ الأُرْجُوانيِّ وتخطو صوبَ الدَّرج الحجريِّ الصَّغير، أومأتْ سُلافة إليَّ أنْ أتبعها، ففعلت. وسويَّة صَعَدْنَا الدَّرجَ فَصِرنا في وسطِ الشُّرفة، فتقدَّمتْ هي خُطوةً أُخرى لتجلس على أريكة البامبو المزدوجة وتُؤشِّر إليَّ أنْ أُجاورها في الجلوس على الأريكة نفسها، ففعلتْ. وهَأنذا، وأنا أستعيدُ، الآن، بعض وقائع هذه اللَّحظة التي وَقَعَتْ قبل ما يربو على نصف قرنٍ من الزَّمان، أُسْلِمَ نفسي إلى الطِّفل الذي كُنتهُ، والذي كانَ اسمهُ في ذلك اليوم “نَصْراً”، والذي يبدو أنَّه قد أَكْمَلَ، الآن، رحلةَ صعوده من أعماقي، فَوصلَ المحطَّة التي أقف “أنا” على رصيفها في هذه اللَّحظة، لأرحّبَ به وأدعوهُ “أنتَ”.
هكذا صار بمقدورِ الطِّفلِ الَّذي كُنتُهُ أنْ يُواجهني، وأنْ يمدَّ يده الصَّغيرة لمصافحة يدي التي شارفت خطوط كفِّها الباهتة على زَوَالٍ يُعِيدُهَا إلى صَفاءِ خُطوطِ كَفِّه، وإلى وضوح تفرُّعاتها، وتشابكاتها، ومنحنياتها المتعرِّجة في تداخلٍ صميميٍّ حميم. نعم، لقد صَارَ بمقدور هذا الطِّفل الذي كُنْتُهُ، قبل ما يربو على نصف قرنٍ، أنْ يجلسَ في مكاني، الآن وهُنَا في “براتسلافا”، أمام شاشة كمبيوتر جاءت إليَّ من مُستقبله الذي كانَ ينتظرهُ، وربَّما الذي لا يزال عاكفاً على انتظاره، حتَّى هذه اللَّحظة، في مِسْقَطِ رأسهِ ورأسي “غزَّة”.
ها هو يُجالسني، ليسردَ عليَّ، وعلى من سيقرأُ أو سيسمعُ من النَّاس، ملامحَ مشهدٍ وحيدٍ من حكاية طويلةٍ سيقولها ما سيكتبُهُ بأطراف أصابعه، أو ما سيرويه بلسانه وصوته، ليُضيء تلك اللَّحظات الحارقة التي كانَ لهُ فيها أنْ يقرأ ما دُوِّن من أبياتٍ شِعْرِ أُوحِيَ بها إلى أبيه الذي هو، أيضاً، ومنذُ ما قبل لحظة الميلاد، أبي، فنطقها لسانُهُ، لِتُدَوِّنها ابنتهُ سُلافةُ، التي هي شقيقةُ مُجالسي وشقيقتي أيضاً، على ورقةٍ بيضاءَ في دفترها الصَّغير، فيما الأبُ، المُوْحَى إليهِ بِهَا، يَبُثُّهَا، عبر صوته الجهوريِّ ذي الرَّنين الجاذبِ، في أُذنيها، وفي فضاء فجر اليوم الذي كانَ هو، بحسب نُبوءة الوحي، آخر يومٍ في مَسار حياته، وأعلى ذروةٍ أدركتها خطواته الواثقة في منحنى وجوده المُحدَّد بفترة وجيزةٍ، كرفَّةِ عينٍ، في دروبِ الحياة!
***
يا إلهي .. عجِّلي يا سُلافة وأخْرِجِي وَرَقةَ النُّبُوءَةِ الغَامِضَةِ من داخل هذا الكيسِ المربوطِ إلى حَبْلٍ أُرْجُوَانِيٍّ يُطوِّق عُنقك مُزَيَّناً بِخَمْس خَرَزاتٍ من عقيقٍ أَزْرَقْ.. أَخْرجِيهَا.. وإليَّ بهَا.. إليَّ بهَا.. إليَّ بهَا لعلَّ لِمَا فِيْهَا مِنْ كلماتٍ أنْ يُطْفئ هَواجسي فَيُهَيئنِي للتَّهيُّؤ لشطحة “شمِّ النَّسيم“، أو لعلَّهُ يَجْعَلُنِي أَشْرعُ في شَمِّ هذا النَّسيم مِنَ الآن.. أو لعلَّهُ يُمَكِّنُ أُسْرَتَنا بأسرها مِنْ أنْ تَشُمَّ، كما قالتْ أُمِّي هذا الصَّباح، بعضَ النَّسِيم في هذا اليوم المُسَمَّى، منذُ أوَّلِ شهقة عبرتْ رئةَ الحياة إلى آخر زَفْرةٍ سَتَخْرجُ مِنْهَا، “يومَ شَمِّ نَسِيمْ”!
بِطَرفي إبهام كَفِّها اليُمْنى وسَبَّابَتِهَا، سَحَبَتْ سُلافةُ الورقةَ مِنْ قَلْبِ الْكِيسِ، وَشَرَعَتْ تَفْتَحُهَا وهي تَعِدُنِي أَنْ تُسْمِعَني، بِصَوتِها المسكونِ بصوتِ الوحي السَّماويِّ مَحْمُولاً على صَوتِ أبي الشَّيخ الأزهريِّ، النُّبوءَةً التي هَبَطَ بها الوحي عِنْدَ الفَجْرِ، فَجَرتْ على لسانِ أبي أبياتاً مِنْ شِعْرٍ أَمْلاها عَلَيهَا، فَدوَّنتها على ورقةٍ بيضاءَ في دفترها الصَّغير.
تَفَجَّرتْ يَنَابِيعُ عَينَي شقيقتي الواسعتين جداولَ دُمُوعٍ سَاخِنةٍ تُشَقِّقُ الرُّوحَ، وتُطْفئ مَناراتِ الضَّوءَ، وشَرعَ صَوتُها الحزينُ، الآسي، مُجَرَّحُ النَّبراتِ والرَّنين، يبثُّ في الفضاء أثيرَ كلماتِ “نبوءةَ موتٍ” جاءتْ مَحْمُولةً على جناحيِّ طائرٍ سَماويٍّ رَفْرَفَ فوقَ رأسِ أبيها عِنْدَ الْفَجْر، نازلاً بوحي يحملُ قَبَسَ صفحةٍ من كِتابِ السَّمَاءْ:
أَرَى الدَّهْرَ إنْ صَارَعْتَهُ فَهْوَ صَارِعُ
وَهَلْ يَصِلُ الإنْسَانُ واللَّهُ قَاطِعُ
أَقُولُ لِعَـينٍ لا تَمَلُّ بُكَاءَهَا
لكِ اللَّهُ مَا تُجْدِي عَلَيكِ المَدَامِعُ
ونَفْسِي أَبَتْ إلَّا مَقَاماً عَـلَى الأسَى
رُوَيْدَكَ هلْ ما فَاتَ بالحُزْنٍ رَاجِعُ
إِذَا أَمْـسِكتُ عَينِي بِفَضْلٍ مِنَ الْكَرى
تَمَنَّعَ أَمَّا سُهْدُهَا فَيُطَاوِعُ
وَمنْ عَـرَفَ الأيَّامَ مَـعْـرِفتي رَأى
مَنايَاهُ عن تلكَ المُني وهيَ وَازِعُ
تَبيَّنتُ قبْرِي في الـقُـبُـورِ ومَنْ رَأَى
بِعَـيْنِي رَأى اللَّذاتِ وَهْيَ مَصَارِعُ
ما إنْ نطقتْ سلُافةُ، والدَّمعُ ينهالُ سَخِيَّاً سَاخِناً من جَمْرتي عينيها، الجُمْلَةَ الفعليَّةَ التي تفتحُ، في اكتمالِ أركانٍ ووضوحِ مَقْصَدٍ ومَعْنَى، مطلعَ صَدْرِ البيت الأخير: “تبيَّنتُ قبري”، حتَّى شَقَّتْ صَدري شهقةُ موتٍ أَحْسَسْتُ أنَّها تُمَزِّقهُ وهي تَدْفعُ رأسيَ إلى الخَلْفِ لترطُمَهُ بحديد قفصِ شُبَّاكِ الغرفة المُطلَّة على الشُّرفة، والذي تحتهُ، بالضَّبط، يجلسُ كلانا على كنباية البامبو المزدوجة.
نَهَضَتْ سُلافةُ وأَمْسَكَتْ بيديَّ الاثنتين لتحول دوني والإقدام على أمرٍ اعْتَدْتُ ألا أجدَ مناصاً منه متى قَبَضَ على خِنَاقي ضيقٌ لا يُردُّ إلا به. فما إنْ أَيْقَنَتْ أنني قد اسْتَعَدْتُ بَعْضَ تَوازُنِيِّ النَّفسيِّ والجَسَديِّ، حتَّى راحتْ تتحسَّس مُؤَخَّر رأسي لِتَتَفَقَّدَهُ عَنْ كَثَبٍ فَتَتَيَقَّنَ أنَّهُ سَلِيمٌ وأنْ لا دمَ ينزفُ من جُرحٍ فيه، أو لتتصرَّفَ وفْقَ مُقْتَضَى الحَال. وإذْ أَدْرَكَتْ شقيقتي أنَّ ما أصابَ مُؤَخَّر رأسي لا يعدو أنْ يكونَ إلا رضَّاتٍ ستتلاشى عمَّا قريبٍ دونَ أنْ تتركَ أثراً، سألتني إنْ كانت هذه الرَّضاتُ تُؤلِمني، فأجبت نافياً، بِحَسْمٍ قَاطِعٍ، أنْ يكون ثمَّة من شيءٍ ظاهريٍّ يُؤْلِمُنِي!
ولعلِّي أُفكِّر الآن، وأنا جالسٌ لأكتب، أنَّ “شَهْقَةَ الموتِ” التي لَمْ تُمِتْنِي مُكْتَفِيَةً بِكَدْمِ مُؤَخَّر رأسي لِتُوَقِّعَ بصمتها عليه رُضُوضاً أصابتْ بها الأنسجة القابعة تحت جِلْدَتِهِ المحميَّةً بصلابة عَظْمِه، وبكثافة الشَّعر الأسود الذي يُغَطِّيهِ، قَدْ جَعَلَتْ سُلافةُ تُشْفِقُ عليَّ، أو تَشْعُرُ أَنَّهَا في حَاجةٍ لأنْ تُكَافئني على عِنادي وصَبْري وصَلابة رأسي، فَسَلَّمَتْنِي الورقةَ التي مَكَثْتُ أَبْحَثُ عَنْها، وأُلاحِقُهَا، لِأَخْذِهَا مِنْهَا، مُنْذُ مَطْلعِ الْفَجْر!
***
بين إبهام وسَبَّابة كفِّي اليُمْنَى مَفْتُوحَةٌ هي الآن، وها هي تتمدَّدُ أمام عينيَّ الدَّامِعَتينِ بِصَمْتٍ كَظِيمٍ لا يَسْكُبُ على الخَدَّينِ دَمْعَاً! وها هي تَرْتَسِمَ في مُخَيِّلَتي قِطْعَةً من قِمَاشٍ حَريريِّ شَفَّافٍ، نَاصِعِ البياض؛ قطعَةً من حرير لا يُشبهُ حريرها إلَّا ذاكَ النَّاصعِ الشَّفاف الذي كانَ الشُّيوخُ، وكبارُ المُتَصَوِّفة، يَلُفُّونهُ حولَ طربوشٍ أُرجوانيِّ اللَّونِ، لِيُشَكَّلوا، بحبٍّ لافتٍ وإتقانٍ فريد، اللَّفَّةَ الكبيرةَ البيضاءَ التي بها يُتَوَّجُونَ رأسُ أبي.
تَمَدَّدَتْ قِطْعَةُ الحَريرِ، أكْثَرَ فَأَكْثَرَ، أمامَ عينيَّ، فصَارتْ بِوسْعِ السَّماءِ واكتست لونها الأزرقُ الصَّافي. وفي وسط هذه السَّماء التي أُبْصِرُها الآن، كَمَا كُنْتُ قَدْ أَبْصَرْتُهَا في صباح السَّادس والعشرين من نيسان (أبريل) من العام خمس وستين وتسعمئه وألف، تَوَهَّجَتْ الجملةُ المفيدةُ، ذاتُ الدَّلالة الواضحة والمقصد السَّاطع والمغزى العالي: “تَبَيَّنْتُ قَبْري” وقد أحاطت بها، من كُلِّ جانبٍ، غيومٌ خضراءُ تُبرقُ بأنوارٍ تأخذُ البصرَ، وفي مُقَدَّمِ رأس كُلِّ غيمةٍ منها عبارة: “كِتَابُ السَّماءْ“! فهل هذه علامةٌ أُخْرى من علاماتِ “قيامة أبي” التي اخترقت أصواتها مسامعي وتواترَ ظهور صُورها أمام عينيَّ منذْ أصيل الأمس؟ أم إنَّها إشارةٌ سَماويَّةٌ تقولُ إنَّ أبي راحلٌ، اليَومَ، إلى مدارٍ وجوديٍّ آخرَ لا يتجلَّى وجودهُ الحقُّ إلا في رحاب فضاءاته المفتوحة على فضاءاتٍ مفتوحةٍ على الأبد؟!
شَعَرتْ شقيقتي أنني قد ذهبتُ في سَرْحةٍ بعيدةٍ تُحَاكي سِرْحَاتِ أبي، فهزَّت كتفيَّ قائلةً: هَا هِي الورقةُ في يَدِكْ، فاقْرَأْهَا، فَانْتَبَهتُ، أو لَعَلِّي أكونُ قد خرجتُ من غَفوة طالتْ دُهُوراً وتَمَدَّدَتْ في ما لا يُحْصَى من الدُّهور لتضعني في مدارات وجودٍ لا يبدأُ، ولا ينتهي، ولا يتناهى. ولَعَلِّي أَكُونُ قد أَشْفَقْتُ على نفسي، وعلى شقيقتي، في ذلك اليوم النِّيساني القاسي، الجليل والنَّبيل، إذْ امْتَنَعْتُ عن أَنْ أَردَّ على دعوتها لي بقراءة الورقة بالقول “قرأتها في كِتابِ السَّماء”، “قرأتُهَا في كِتابٍ السَّماء”، وإذْ لُذْتُ بالصَّمْتِ الجارحِ وأنا أَنْهَضُ واقفاً على قدميَّ مُكتفياً بإشارةٍ تُومئُ إلى أنني سَأَشْرعُ في القِرَاءةِ لأَحْفَظَ، عن ظَهْر قَلْبٍ، نُبُوءةَ السَّماءِ!
عاجلتني سُلافة، وأنا أنهضُ لأخطو صوب غُرفة النَّوم، بقولها “انْتَظِرْ، فَلَدَيَّ ما أبوحُ به إليكْ، ولكنْ احْلِفْ بِحَياةِ اللهِ وَحَقِّ رأسِ أَبِيكَ أَنَّكَ ستُعِيدُ الورقةَ إليَّ فَور انتهاءِ حَاجَتِكَ إلى الاحْتِفَاظِ بِهَا. أنتَ تعلمُ الآنَ أَنَّني سأحتاجها بعد قليلٍ، إذْ سيأتيني أَبُوكَ ليطلبَ مِنّي تدوين المزيد من الأبيات التي سيُعَاودُ الوحي الهبوطَ بها عليه، أو لعلَّ ذاكرتهُ منقطعةُ النَّظير قد اختزنت جميعَ الأبياتِ التي أجراها الوحي على لسانه فجرَ هذا اليوم، فأملاها عليَّ ولمْ أُدَوِّنُهَا لسببٍ سأُطلعك الآن عليه، فَلْتُعد إليَّ الورقة التي هي بحوزتك الآنَ، فور فروغك من الحاجة إليها، لأنِّي أُفضِّلُ، لأسبابَ عديدةٍ، مُتَابَعَةَ الكتابةِ على الوَرقَة نَفْسِهَا.
***
ما إنْ استجبتُ لطلبِ سُلافة وحَلَفْتُ “وِحْيَاتْ أَلَّهْ أُوْحَقْ راسْ أَبُويَهْ رَحْ أَرَحِّعْ الوَرَقَة”، حتَّى اطمأنَّتْ، وراحتْ تَبُوحُ إليَّ بما احتفظت به لنفسها لساعاتٍ طِوال “في الفجر، حينَ أملاني أبوكَ البيت السَّادسِ، والأخير من المقطوعة التي دوَّنتُها، والذي يبدأ بـ”تبيَّنتُ قبري“، أَمْسَكَ بيدي جُمُودٌ خشَّبَهَا، أو لعلَّة جَعَلَهَا قطعةً من حَديدٍ جَمْريٍّ مُسْتَعرِ اللَّهيب، فبالكاد أَكْمَلْتُ تدوينَ هذا البيت حتَّى عين قافيته “مَصَارعُ“. لقد شَعَرتُ حينها أنَّ نارَ يَدي الحديديَّة المُلتهبةِ قد رمَّدَتِ القَلَمَ الذي تَحْمِلُهُ أصابعي المحروقة، ثمَّ رمَّدتْ أصابعي، فلم أتمكَّن من الكتابة. حِينَها قُلْتُ لأبي: هَلَّا تَوَقَّفْتَ عن إملائي مِثْلَ هذا الشِّعر؟ أَتوقظني عندَ الفجر لأكتبَ في دفتري “تبيَّنتُ قبري“، وغيرها وغيرها من جملٍ وعباراتٍ تقول إِنَّني أُدوِّنُ الآنَ قصيدة “رثاء ذات“؟! أبي أنتَ أعْلَمُ العُلمَاءِ بأغراضِ الشِّعر، فَأَمْليني، بِرَبِّكَ، قصيدةً في غرضٍ آخر، في الغزلِ مثلاً، في الاعتزاز والفخر، في التَّأمُّل والتَّفَلْسفِ، في الوصفِ والمدح، في الاعتذار النبيل والصَّفْح الجميل، أو حتَّى في التَّقريعِ والهَجَاءِ، أو في الرَّثاء بإطلاق، ولكن ليسَ في “رثاءِ الذَّات“، ليس في “رثاء الذَّات” يا أبي، ليسَ في “رثاء الذَّات“، أبداً.
صَمَتَتْ سُلافةُ قليلاً لِتُمَرِّرُ إلى أَعْمَاقِ رئتيها شَهَقَاتٍ مُتَواتِرةٍ من نَسَائِمِ هَواءِ الصُّبحِ، ثمَّ تابعت: انفجرتْ جَمَراتُ عُيُوني في بُكَاءٍ حَارق، فَأَخَذَني أبي بين سَاعِدَيهِ وضمَّني إلى صدره، وراحَ يَمْسَحُ بكفِّيه دُمُوعي، ويُرَبِّتُ على كتفي، ويُقَبِّل جبيني، وهو يقول “البكاءُ لا يُجدي يا ابنتي، فأوقفيه.. والدَّمعُ لا يُجْدِي، فكفكفيه.. لكِ الله يا ابنتي.. وكَفَي اللهُ كلَّ عينٍ لا تَمَلُّ بُكاءَها”. وكي يُعيدني إلى توازني مُطْفِئاً حُرْقَةَ قلبي ومُكَفْكِفَاً دَمْعِي عبر تخفيف وقع اعتراضي على تدوين أبيات شعريَّة في “رثاء الذّات“، أوضحَ لي أبوكَ أنَّ هذا الذي أملاهُ عليَّ هو ما جادت به القريحةُ الآن، وهو ما هبطُ به الوحيُّ ليمليه على القريحة واللِّسان، وأكَّدَ لي أنني سَأَجِدُ ما يَروقني من الشِّعرَ في أبياتٍ أخرى سيمليها عليَّ، بعد قليل، شريطة أنْ أُدوِّن ما أسمعُ بدقَّة وسرعة تناسبان دقَّة الإملاء وسُرعته.
تابعت سُلافةُ وهي تَفْرُك أَصَابِعَ كفِّها اليُمْنَي كأنَّما تُهيِّئُهَا لمتابعة التَّدوين، سألتُ أبي: وهل ثمَّة من أبياتٍ كثيرةٍ ستأتي، أجابني بقوله “نعم يا لُولُوص، نَعَمْ يا سِتْ لولوص، سَأُكملها إلى مئة بيتٍ، إلى مئة بيتٍ، ولكنْ، بالطَّبع، إِذَا شَاءَ اللَّهُ؛ إِذَا شَاءَ اللهُ؛ إِذَا شَاءَ اللهْ“.
رسمة: فادي يازجي
ما إنْ نَطَقَت سُلافةُ الجملة الأخيرة: إِذَا شَاءَ اللَّهُ، حتَّى وجدتني أبْصِرُ وجه أبي يتوهَّجُ، في مُخيِّلتي، بأنوارٍ سَماويَّةٍ تُحَاكي أنوار وجدانه الإنسانيِّ الصَّافي، وعقلهِ المُتَنوِّر الرَّحب، وقلبه الواسع النَّبيل، وهو يَنْطِقُ هذه الجملة “إِذَا شَاءَ اللهُ“، ضاغطاً على كُلِّ حرفٍ فيها، وعُيُونُه تَرنو إلى أعلى أعالي السَّماء، فيما يداهُ، مفتوحتا الكفين، تَصْعدانِ فضاءَ ذلك العُلوِّ العَالي، فتُلامِسَا بأطراف الأصابع لبابَ الشَّمس، لِتَجْعَلانِي أَشْهَقُ مُنادياً “أَبِي” بصوتٍ يُحَاكِي صوت أَبِي: أبي، كفَّاكَ غَيمَتَانِ خَضْرَوانْ، وأصَابِعُكَ الخَمْسَةُ نَجْمَةٌ في لُبَابِ شَمْسْ!
***
ربَّتُ، بمودَّة لا تتناهى، على كتفِ شقيقتي، وضَمَمْتُهَا إلى صدري، فراحتْ تَمْسَحُ بكفِّها اليُمْنَى رأسي، وتُلامسُ، برهافةٍ، الرُّضوض التي ليَّنتْ، فيما حسبت، صَلابةَ قشرته إذْ خَدَشتهُ لِتُسْكِنَ في قشرته من الوجعِ ما يُشَتِّتُ الوجعَ السَّاكن في مركزه والذي لا ينبعُ من شيء سوى توالي ظهور العلامات التي تقولُ إنَّ هذا اليوم النِّيساني الأسود، هذا الاثنين الحزين، هو “يومُ قيامة أبي“!
وَضَعْتُ الورقة في جيب بيجامتي، وذَهبتُ من فوري إلى الحَمَّام، فوضعتُ رأسي أسفل الحنفية التي تتوسَّطُ الحَوضَ الرُّخاميَّ العريضَ وفتحتُها على وُسْعِهَا، فَتَدفَّقَ الماءُ سخيَّاً بارداً ومُنْعِشَاً، فأطفأ بعضَ جمراتِ الهواجسِ وأوجاعِ الرُّضُوض التي أشعلتْ وجداني وشقَّقَتْ رأسي. تَوضَّأتُ، تحسباً من أنْ يصطحبني أبي معه إلى المسجد العمري الكبير الذي سَيَؤمُّ في رحابة المُصَلِّينَ صَلاةَ الظُّهر. أَخَذْتُ مِنْشَفةً بيضاءَ من داخل خزانةٍ حديديةٍ تقعُ بجوار الحوض، وتيقَّنتُ أنني أُغادر الحمَّام بلا ماءٍ قد يَشُرُّ من أطرافي لُيبلَّل بلاطَ البيت، وأنَّ كفَّيَّ جافتان فلا تُبللان الورقة التي سَأُخْرجَها الآنَ من جيب البيحاما لأتابعَ حِفْظَ النُّبُوءة التي تحتويها عن ظهر قلب!
وَجدتُني أَتَمَشَّى في غُرفةِ النَّوم، جيئةً وذهاباً بين الأسِرَّة الحديديَّة المستلقية على جانبيها، وأنا أُكرِّر، بصوتٍ خفيضٍ، قراءةَ الأبياتِ السِّتة، عَشْرَ مرَّاتٍ لُكلِّ بيتٍ، مُركِّزاً في النِّهاية عِنْدَ حاجتي إلى حفظ توالي “الفَواتِحِ“، أي الكلمات الأُوَلْ في هذه الأبيات، كي لا يَسْقَطَ من ذاكرتي، أو من القوَّة الحافظة في عَقْلِي، بيتٌ منها. وبغية ترسيخَ الحِفِظِ للتأكُّد من أنَّ هذه الأبيات ستُرافقني على مدى العُمْرِ، وعبرَ كُلِّ مُنحنىً من مُنْحَنَياتِ الحياة، التقطتُ من الدَّرْج العلويِّ لمكتب خشبيٍّ قديمٍ قائمٍ على الجهة اليُسرى من باب الغرفة، قَلَمَ رصَاصٍ سَمِيكَ اللُّبِّ وذا لونٍ غامقٍ، فبلَّلتهُ بريقي معتقداً أنَّ هذا سيُصَعِّب إزالة ما سأكتبهُ من كلماتٍ على جِلْدٍ بَاطِنِ كَفِّيَ الْيُسْرَى.
جلستُ على ذلك الكُرسيِّ وشرعتُ أكتبُ بخطٍ يُحاولُ تقليد خطِّ شقيقتي سُلافة، ذاك الرَّشيق الأنيق، والمقروء بوضوحٍ ساطع: أرى؛ أقولُ، ونفسي، إذا، ومَنْ، تبيَّنتُ. وإذْ وجدتُ أنَّ الفَواتِح لا تكفيني لأتذكَّر بقيَّةَ صَدْرِ البيت الشِّعْرِيِّ وتَمَام عَجْزِه، ارتأيتُ إضافة بعضِ الكلمات الثَّواني، فَحَصَلْتُ على ما يُشبه بيتاً مُفكَّكاً منِ الشِّعرٍ غير أنَّهُ يَسْهُلُ عليَّ حفظه: أرى؛ أقولُ، ونفسي أبتْ، إذا أمسكتُ، (ثُمَّ) ومَنْ عَرفَ، تبيَّنتُ. وهكذا مَيَّزتُ الأربعة الأبيات الأولى ببنية إيقاعيَّة ليس لَوَقْعِها أنْ يكفَّ عن ترسيخ حضوره في نَفْسي، وأبقيت البيتين الأخيرين في بنية ذِهنيَّة تصوُّريَّة تَفْتَحُ أَقبيَة الأرض على قباب السَّماء، فلا تقولُ لي مِنْ شيءٍ سوى أنَّ أبي سَيَنْهضُ، هذا اليَومَ، إلى قيامته!
***
تَهَيَّئتُ للذَّهاب مع أبي إلى سوق الزَّاوية المُجَاورِ للمسجد العِمَريِّ الكبير وقَصْرِ البَاشَا، وجَلَستُ عند حافَّة شُرفة البيت الأماميَّة، فوقَ أعلى درجةٍ من درجاتِ الجهة اليُمْنى من الدَّرج الحجريِّ المزدوج، المُفْضِي نُزُولُ درجاته إلى “شارع النَّصر”، مُنتظراً قُدومَ أبي. وإذْ كُنتُ قيدَ انتظارٍ ذِي أَمَدٍ غَيرِ مَعْلُومٍ، رُحْتُ أُتابعُ، بوتيرة تفصحُ عن توتُّرٍ فادح، فَتْحَ كَفِّ يَدِي اليُسْرَى وقَبْضِهَا، لأُؤْخَذُ تَمَامَاً بِمَا تُطْلِقُهُ الْكَلِمَاتُ الْمَرْقُومةُ على جِلْدِهَا من هواجسَ وتَهيُّئاتٍ وصُورٍ تَغمرُ وجْدانيَ، ولا يغيبُ عن أيٍّ منها وجهُ أبي الذي أنتظرُ إطلالته لِأَمْضِي في مَعِيَّتِهِ!