عمل يكمل التاريخ
حين كنت أقرأ رواية ماركيز المسماة بـ”ذكريات عن عاهراتي الحزينات” قفزت إلى واجهة الذكريات فجأة تجربة غريبة ندر أن تحصل إلا في سوريا، فقد حاولت الحديث على الهاتف الأرضي، فإذا بالخط مشتبك مع خط آخر، فقلت بتهذيب شديد: وكانت المتحدثة امرأة: هل يمكن أن تخرجي عن الخط قليلًا، فلديّ مكالمة هامة، ولكنها تابعت حديثها، فخشّنت صوتي قليلًا، وأعدت الرجاء، ولكنها لم تستجب، وكرّرت الرجاء، ولمّا لم تستجب خطر لي أنها لا تسمعني أصلًا… فهي مفضوحة، فضحتها شركة الهاتف بفساد العاملين فيها، المهملين لانفضاح الخطوط على بعضها البعض، مفضوحة لدى كل من يتطفل ويسمع في هذه اللحظة، ومستورة بوجوه وأسماء المتحدثات بحرية المختليات الظانات ألاّ منصت أو متلصص.
أغلقت السماعة يائسًا، ثم بعد قليل رفعت السماعة لأكتشف أن المكالمة ما تزال دائرة، وبفضول الكاتب للتسمّع على النساء، وبم يثرثرن عند اطمئنانهن لخلوتهن. أصغيت لأكتشف أن الحوار كان بين قوادة وعاهرة شابة. وكانت القوادة ناضجة وكان هذا واضحًا من صوتها المبحوح خشنته السكائر وإرهاق المهنة. وكانت تعيد الوعظ في ميكانيكية: يا بنتي ليس في كل يوم يأتيك عريس مسامح وغنيّ كهذا العريس، وردّت الشابة التي ربما لم تصل إلى العشرين من عمرها في غرور: ليش ما بتعرفي المثل اللي بيقول “لو حطيت القحبة بالجرة بدها تطالع طيزها لبره”.
انفجرت مقهقهًا، فهي المرة الأولى التي أسمع فيها بمثل كهذا، ثم انكمشت، فلربما سمعتا القهقهة الصارخة، فأقفلتا الخط، ولكنهما كانتا مستغرقتين.. الكبرى تتحدث عن وجوب التقاط الفرصة حين تحين، والصغرى تحدثها عن متعة تبديل الرجال يوميًا، وكلهم من الشبان تنتقيهم خارجين من عالم الأحلام، وتجرّهم إلى غرفتها ساعة تشاء، شبان ما كان لها أن تحلم بأمثالهم لو استمرت تعيش في القرية، وحدثتها عن متعة العشاء كل ليلة في مطعم، وعن متعة تخيّر أفضل وأطيب الأطعمة في اطمئنان من تعرف أن شريكها على الطاولة هو من سيدفع.
كانت تتحدث بلهجة حالمة غافلة عن غدرات الزمان وعن مفاجآت العاشقين بعد السأم، ودخل واحد من الأطفال، فأغلقت السماعة آسفًا، وكنت أتمنّى لو طال بهما الحديث. بعد أيام، وكان أحدهم قد ضرب سيارتي وهي متوقفة أمام البناية، ولما كانت مؤمّنة، فقد كان من الواجب أن أحضر محضرًا من المخفر يقرّ بأن السيارة قد ضربت وهي متوقفة من مجهول، وانتظرت قليلًا في بهو المخفر، فأسمع صوت القوادة “صديقتي على الهاتف” تشكو للضابط عن الحال المايل، وعن قلّة الدخل، وعن هرب البنات الذي لم يجد المخفر له حلا، ولا بد أن رئيس مخفر المزرعة قد غرّر بهن لينتقلن إلى مملكته.
دخل إلى البهو مساعد في الشرطة يبدو أنه من عناصر المخفر، وكأنه أحسّ بأني أتسمّع على ما يجري في غرفة المعلم، فسألني في جفاء عمّ أبحث، وشرحت له موضوع السيارة، فنزل معي إلى حيث السيارة، فصّور مكان الإصابة، وسجل رقم السيارة، ورقم التأمين الخ، ورجعت إلى البيت، وعلى الطريق كنت أفكر في أن ما تابعته على الهاتف وفي بهو المخفر هو موضوع حارّ لرواية تتحدث عن الفساد الذي وصلت إليه سوريا، ولكني، وأنا مازلت في وضع اللبنات الأساسية للرواية من دراسة للشخصيات، وللزّمن الذي ولدت فيه البطلتان، ورئيس المخفر، ومساعده الذي اتّضح لي بأنه يقوم بدور الوسيط بين الممولات “العواهر” والزبائن عبر شبكة سائقي التاكسي الذين يعملون مخبرين في وقت الفراغ.. في هذا الوقت خرج الشبان في حيّ الحريقة وفي درعا يطالبون بالعدل والحرية، وأحسست أن ما كنت أحلم به لعشرات السنين. ها هم الشبّان الراضعون من بزّ أمهم يصنعونه، وأحسست بتفاهة ما أريد كتابته، فالثورة الحلم قد قامت ولن ترضى بحلول ترقيعية.. وأوقفت الماكينة عن العمل.
الرّواية ليست عملًا يستجيب لأزمة اللحظة، بل هي عمل يكمل التاريخ ونواقصه، ولو حاولت توليد التاريخ حسب مزاجك، فلن تكون خيرًا ممّن تضايق من طول مدة حضن طائره الثمين للبيضة، فقرر مساعدته على الخروج من البيضة بكسرها. إنه لو فعل هذا فلن ينجز إلا موت الفرخ الحلم، وانتظار بيض جديد، وحلم جديد. انتظار ربما كان طويلًا جدًا.