عندما تنتظر الإجابات أسئلتها
ولكن ذلك الاستبشار بزمن جديد لم يأت بهيئته التي توخّيناها، إذ اكتشفنا أنه كالحمل الكاذب دون أن نعي حجم الفروقات الكبيرة ما بين الوهمي والحقيقي. فمنيت شوارع عربية بمزاج قمعي حاد، وأخرى بأياد دفعت بالمسار إلى جهات تركض نحو التهلكة، وعمّت الفوضى، دون أن تفضي إلى ما كان مأمولاً، ليحيلنا ما حدث إلى تساؤل حول فهمنا الحقيقي للثورة، وهل هنالك من مرحلة حتمية لم نجتازها بعد، حتى يتسنّى لنا أن نتجاوز الأيادي التي حرفت مسارات الشعوب، وبعضها الآخر الذي كمّم الأفواه، ليعدنا إلى سؤال الجدوى فيما تمنّاه العربي ردحاً من الزمن، لتأخذه درب الحداثة إلى وعي جديد.
فرغم أن الحداثة -برأيي- كانت خروجاً فوضوياً، على عالم مُني بالفوضى بسبب الحربين الكونيتين، بما أن الموت هو السيد الكبير للفوضى، إلا أنها تعتبر خروجاً على السائد المتردي الذي لم يجنب العالم آنذاك، ذلك الانهيار في القيمة الإنسانية، وذهاباً إلى الحديث الذي يمكنه أن يعبر بالسفينة إلى برّ الأمان. ذلك الخروج الذي خلق انقلاباً لكثير من المفاهيم، وأثار عاصفة من الأسئلة حيال البناء الثقافي والفكري والوجودي، فأحدثت تلك الأسئلة إزاحات مهمة أنتجت مجتمعات طالت حريتها كل الأركان الأساسية للمكون العام للعيش. بحيث أصبحنا نرى بوضوح ذلك الفارق، ليس الحضاري والثقافي والفكري فقط، إنما الإنساني أيضاً، بيننا وبين الآخر الذي قطع مراحل في مضمار التقدم.
ولهذا -وانطلاقاً من أن الهزات الكبرى عادة ما تخلق حداثات كبيرة- تواجهني جملة من التساؤلات، خاصة حينما تلح أسئلة الثقافة والفكر العربيين، أهمها، لماذا لم يكن لنا حداثتنا العربية خاصة بعد هزيمة 67 وسقوط بغداد. مع علمنا أن الحداثة مفهوم شامل لا يقتصر فقط على النقد والأدب، بل يصيب بنزقه كل المنظومات الحضارية التي لها أن تفرز أشكالاً جديدة من الوعي والتقدم. وهل هنالك شروط أكثر قسوة عليها أن تتوفر حتى تتحقق تلك الحداثة في الثقافة والفكر العربيين؟ إذ تبدو تلك الأسئلة على درجة عالية من الأهمية، والإنسان العربي منذ زمن يتحرى التجديدات التي لا تأتي إلا بمساءلة بنيتي الثقافة والفكر العربيين، بوعي من يرنو إلى مستقبل مختلف. لكن السؤال الأهم في هذا الجانب هو متى تتم المسائلة الحقيقية؟ أيّ العناصر يجب استبعادها، وأي العناصر يجب استلهامها حتى تكون المساءلة قد حققت شروطها هي الأخرى؟ والمساءلة بالطبع، هي مساءلة نقدية، عليها أن تستهدف الفكر العربي الذي تتجاذبه أربعة تيارات، قومية وماركسية وسلفية وليبرالية رغم أن أيّ محاولة نقد لأيّ من تلك التيارات، ستشهد معارضة شديدة، فكل تيار يرى بناء على تعصبه لآرائه أنه هو الذي يملك الحقيقة بعينها.
لهذا ما كان بإمكاني تحرّي أسئلة الشارع العربي، وانتفاضاته، ومدى تأثيرها في أسئلة الثقافة والفكر العربيين، دون التسليم بأن تلك الانتفاضات هي ردة فعل على السائد، ولها أن تؤدي إلى حداثة جديدة. لكن تلك الانتفاضات برأيي لم تحقق شروطها الكاملة حتى تكون خطوة طبيعية في هذا المضمار، فتفاوت نضجها من منطقة إلى أخرى، وتفاوتت استقلاليتها بين شارع وشارع، وكأن هنالك ذهاباً متعمداً لاختراقها حتى لا تحقق شروطها، وبالتالي تجني ما جناه العالم إثر الحربين الكونيتين من فوضى، ومن ثم حداثة حادة، تؤدي إلى زمن عربي جديد.
حرف ذلك الحراك الذي كان ينشد في بداياته التغيير الحقيقي، وسرقت مضامينه، فعمت الفوضى. فمنذ اندلاع تلك الانتفاضات والسجال قائم حول تحديد ماهيتها ومراميها، والنظر إليها دون الخروج بفهم موضوعي لما حدث ويحدث، وكأن الكائن العربي أمضى عمره بمعزل عمّا يدفعه للخروج إلى الشارع. دون إنكار أن ثمة أياد تسللت خفية إلى المشهد، وحولت -كما أشرت- بوصلته إلى جهاتها التي تحقق ازدهار مصالحها، فتنامى الخطاب الطائفي، بشكل يحمل في طياته خطورة عظمى لا يمكن تجاهلها، بحيث انقسم الشارع العربي الذي ذهب لانتفاضاته وعلى جبينه مبتغى حرية كان يفترض أن تؤدي إلى عيش إنساني مشترك، لا مرجعية له سوى الإنسانية ومضامينها. إذ يقتادنا هذا، ونحن نصاب بالذهول أمام ملفات تعوم على السطح لم يكن في الحسبان تداولها، إلى أننا حتى لو ساءلنا فكرنا العربي، فقد ساءلناه ضمن الحدود النظرية التي لا يمكن أن تخلق قناة مع الأفق الثقافي الذي عادة ما يجسر الهوة ما بين النخبوي والشعبي، وساءلناه بوعي كلاسيكي يقترب من السلفية الماركسية والقومية والليبرالية والدينية.
فمُنينا بالدهشة الموجعة ونحن نعاين الشارع العربي في بدايات اشتعالاته إذ نخلص لنتيجة إلى أن صوت ذلك الشارع الذي كان يزحف نحو الحرية والعدالة، هو نفسه الذي يؤيد في هذه الأيام جزء كبير منه الخطاب والفعل الإرهابيين، بحيث نكتشف -بعيداً عن نظرية المؤامرة- أن جانباً من الشارع العربي عبر كل تلك السنين التي مضت وهو يرنو للحرية، يلقي بنفسه في مسار سلفي مبتكر، لا مهمة له إلا إعادة خلط الأوراق وإشاعة الفوضى الهدامة.
بعد كل تلك السنين مما فعله (البوعزيزي) تؤثث المشهد العربي هذه الأيام جملة من العناصر الأشد خطورة مما كنا نعتقد، إذ انفجر الخطاب الإرهابي مرة واحدة، فوجد له مؤيدين في الشارع العربي، يرون أن النحر والسبي والحرق له مسوّغات دينية، ويحلمون بصياغة نظام يتكئ على أسس سلفية لا تعترف لا بالديمقراطية ولا بالآخر ولا بما خرج الشارع العربي لأجله مطالباً بالتغيير. وتكمن الخطورة تلك في أن هذا العدد الكثير لم يكن ظاهرا للعيان، حتى ولو أنه جاء نتيجة طبيعية لحقبة من القمع وغياب العدالة والحرية في الزمن العربي. عدد كبير وخطير لا يمكننا نفي تمدده، ولو سلمنا أن تلك المنظمات الإرهابية التي شاعت مؤخراً، هي صنيعة جهات ارتأت أن تحقق مصالحها عبر ذلك النوع من التكنيك في إحداث الزعزعات الخطيرة.
وطفت أيضاً على السطح العربي النزعة الطائفية الدينية الخطيرة بمرحلتها الثانية، والتي بقيت مخبوءة لزمن دون رؤية حقيقية لاستشراف المستقبل وتلافي ما يمكن أن تؤدي إليه، فانقسم العالم العربي لأطياف متناحرة -تضاف إلى انقسام طائفي سابق- وضربت الفرقة جذورها في تربة عميقة.
في اللحظة العربية الراهنة يتصدر الدم والموت واللجوء والتشرد والبارود، المشهد. هذا المشهد الذي يجني أشد خسارات الإنسان العربي، الذي حلم بزمن جديد لم تنجح فيه أسئلة الشارع العربي، بمساءلة أسئلة الفكر والثقافة العربيين، حتى يتسنى الذهاب إلى ما حلم به.