عندما تحين الساعة تبدو الأرض بطيئة

روي كويّاس: قصائد مختارة
الثلاثاء 2021/06/01
لوحة: حسين طربيه

من مجموعة “أوروبا“

دعوةٌ للموت

حيث يتغلغل السخام داخل رائحة المدّ والجزر

ويزحفُ عند ساعة الحر،

وحيث يكون ظلّ آخر هو ظلُّ نذير شؤمٍ أو ظلّ شخصٍ يغادر مثلما تسقطُ بتلة،

وحيث يحوم الرمادُ فوق رقعةِ أراضٍ بور غائبة في الأساس

ويخلقُ فيها رداء السنوات الطويلة،

وأنّ شخصاً ما يرحّب وحده بالندى

في ضجّةٍ بعيدةٍ من العربات،

مع ميزة أنّ كلّ شيءٍ يتدفّق ويُلخّص في نقطةٍ واحدة…

ربما نستوعبُ أخيرًا، على الرغم من الغريزة أو التشابه العرضي أو التنفس الخفيف، أنّ هذه هي دعوة الموت.

ولأنّ المسار ضيّق لدرجةٍ يسير فيه طفلٌ لوحده، ولأنّ وجوهنا ستُغطّى قريباً في طقوس الجنازة بخشوع الصلوات اليائسة، نقوم بمحاذاة المشهد على مسارٍ مختلفٍ عن المسار المحدد اعتمادًا على المدى، أو العمر، أو مكان الوصول، أو حتى وقت لا يتواجد الطفل، نقوم بإضفاء اللامركزية على العالم وحظّه من عدم اليقين، مع الوقت الذي لا نملك فيه ولن يكون لدينا، شركاءٌ داخل مصيرٍ يربطنا باللامرئي، بينما روح أخرى تحتضر وتقول وداعاً.

 

أغنية فرنسا

منذُ سنواتٍ طويلةٍ

خلال الربيع، تحت أشعّة الشمس

قاتلنا في المعركة ذاتها،

واليوم

بينما تحترقُ الشموع الخافتة المتحوّلة إلى غبار

نتسلّق هذا التلّ ناظرين إلى السماء الغربيّة،

حيثُ نرى أنفسنا بصورةٍ مألوفةٍ في ضوء جديد

نعتقد، أو ربما نعتقد

أنّ ما من أحدٍ باستطاعته لمس هذا النسيان الغامض،

حيثُ تدمّر الأوهام

دون أن نهمس لها بالمعالم المدمّرة ودماء العقود،

حيثُ نغرقُ بشكلٍ غامضٍ في العزلة المضطربة للعالم.

في جوف يومها

من الصلابة المنفردة

كلّ شيءٍ يتكيّف مع شيب الشعرِ منذ الطفولة،

كلّ شيءٍ ينضبط بملاحقة ركامه

كالقبضة البيضاء لخطٍّ غير مرئي

رحمةٌ ضائعةٌ تُستدعى أمامنا

قبل أن نعيد صياغة الحزنِ غير المنطفئ

والإنصات اللطيف لوالدينا خلف ظهورنا

محتضنين الصباحات القديمة التي لا تترك أيدينا أبداً

كأغصانٍ هرمةٍ مشدودةٍ بين أحضان الحطابين

والأوراق المهترئة المبلّلة بحتميّة أسلافنا

بموتنا.

حيثما توجدُ حياةٌ

ينبض الموتى بذلك لأجل التقوى التي لا تنفصم لتلك العيون الفريدة التي تستمرّ بمتابعتنا إلى مالا نهاية

ولأجل من نُقلوا

لننتقل عبر كلماتٍ غير منطوقةٍ

طرحنا بها الأسئلة التي صيّرتنا متسامحين

مشيرين إلى العاطفة التي نحن عليها

ونعلمُ أنّنا سنكون بمن ينادي باسمنا

وباسم أوروبا لدينا

متحدّثاً إلينا بهذه الطريقة عن الخبز المتاح لدينا

مشيراً إلى القطرات الزرقاء للروافد التي، كما الحال أمام عتبة الألم المرتعشة، يدوي صداها لتغادر اليوم الذي لا يعود أبداً

ودون أن نفهمها

وحتى دون أيّ مساعدة

تبكي تحت فراش كلّ العيون المحبوبة؛

يبدأ من الروح في العالم

أو العالم غير المنكسر

خلال فترةٍ فاصلةٍ من محدودية هذه البلورة المشلولة اليوم وغدًا

تلوح بصفارات الإنذار للذاكرة التي تنعق، من الظلال القريبة والبعيدة،

في الرعد الشاحب الذي يدوسنا

فيما نشرب رماد ما كان اسمه الغرب يوماً ما.

 

من مجموعة “ترتيب العالم“

لوحة: علياء أبو قدور
لوحة: علياء أبو قدور

مباركة النعمة

في عينَي الذي يمضي ويتحرّك، دون أن تتخيّل ذلك، وسط الذاهبين إلى الحج، وآخر، شاخ قبل أوانه، يدعو إلى الهوّة التي تفصل الوداع عن السلام المنشود؛ في الخطأ المرتبط بالتخلّي وفي أنقاضه؛ في اهتزاز الطريق المؤدي إلى مكان ما؛ في الشمعة الساخنة التي تضيء الليلة التي ولدت صافية؛ ما أدقّ الضعف في وجه الموت.

وعندما تحين الساعة تبدو الأرض بطيئة لأن لا شيء يجذب الانتباه فيها، لا شيء يضجّ سوى الشائعة المشوّهة في حكاية رجلٍ عجوزٍ أو موكب الجنازة تحت جداريات بيرام، حيث يدوي صوت البوق الصاخب ثلاث مراتٍ في منتصف الرقصة التي ليست في الحقيقة واحدة. لكنّنا على الأقل نغري الضوء الذي يخيّم عليه صفاء الثلوج المغمورة في الريح على الأقل نشعر بأن الريح تتغير، تضعف مرة أخرى، ونركض بوجهها كثيرًا حتى يتغير لون شفاهنا بكل النشاط المتوقع نحو الأمام:

حتى لا نعترف بهذا الضعف وحدنا

حتى نبارك نعمتنا.

انعدام

ليس هناك أيّ من الأماكن، لم يكن حتى العتيق منها.

هناك ما نراه فيها، علامة غبار الطوب التي تُخفيها، فقط حتى نتمكّن من الوصول إليها، فقط لتذكيرنا بهدوء.

دون أيّ لمسةٍ للأعمدة الليلكيّة أو العبور على متن قارب الماندارين الشراعي، فقط نسيرُ بشكلٍ غامض، ولا نمشي أبداً في الشمس.

لا تسْوَدُّ أقدام البدو بالرمل ومياه الموانئ الصغيرة.

هذه هي أشجار الدردار التي تحمينا وليس شرفاتها. أثر الغبار يجرحنا داخل قطرةٍ باهتة، ويمكننا الحفاظ عليه هكذا بين أصابعنا فهو لا يتحجّر. لم يتغير شيءٌ منذ الشكوى الأولى: انطلقنا بأعيننا على ساحل المتوسط وأشجار الزيتون هي حدودها النهاريّة.

لا توجدُ حياةٌ أخرى

لا توجدُ حياةٌ أخرى

ولم تبدأ أيّ حياةٍ من جديد لهدفٍ محدد

والحب لن يترك بنا ابتسامةً موجعة

والماضي لم يترك ثقوباً مؤلمةً في الحاضر

ولن ألمس زماني بلطف

ولن يمسّنا الله على أرض أحد

ومن خلالها لن أمر دون استعادتي للذكريات

من خلالها لن أمر.

تُركنا بوعودٍ وآملٍ بعيد

وهالة الكتفين مستقرّة فوق الرمال الحارّة

ودون علمنا، بدا كلّ زفيرٍ هو الأخير

خافتاً لدرجة لم نراه يخرج، يبدّد أنفاسه المتردّدة ويفقد الضباب النادر المتمثّل في أنّه لم يكن سوى ظلّ يبتعد.

ما الذي سيحدثُ بحال كانت حقيقةٌ واحدةٌ هي الحقيقة التي تمارسها حياتنا فيها؟ لا شيء سوى المظهر اليقظ يقطع حركة الضوء وفراغ الحركة، يتنهّد بكلّ اسمٍ قريبٍ يُرى ويذبحُ في أيّ وقت. ما الذي سيحدث، ما الذي سيحلّ رغم أنّه ينام على الفور داخل شيءٍ آخر كتخيّل الشمس في حقلٍ من شجر الزيتون أو في النعومة الزائلة التي يتأمّلها، رغم كونه محبّاً ومستمعاً لنداءٍ بالقرب في طرف المرآة، رغم أنّ القبلة قوّة تتلخّص كالابن، ما الذي سيحدث؟

تتساقط الكروم، ببطءٍ لكنّها تتساقط، ونحنُ صامتون نتفكّر في الساعة القادمة؛ يشيرُ أبي إلى بساتين الزيتون المحميّة والمحترقة، وينتقل صوته من بعد الظهيرة إلى المساء عبر نفق

يقول أبي، والكلاب في الخلفية، إن الطريق تنتهي هنا، يكرّر إن الطريق تنتهي هنا والكلاب في الخلفية.

جميعنا نحب العالم

وما ينبع منه في كلّ لحظة

وأصل كلّ لحظةٍ منها

والمجيء

والوداع،

جميعنا نحبّ العالم المغمور

والسنبلة في القمّة

والسر،

جميعنا نخشى التنفّس الحميد

ساعة رحيلنا

والدوران الممل

والبخور

والانعطاف الذي يقترب!

يقترب مبكراً ومدوّياً.

الجزء المتّضح من السيرة الذاتية

ما الدافع الصغير الذي يمنعنا من النسيان؟

فوق أيّ أرضٍ إعجازيّةٍ نرقص مع الأمهات المعنّيات،

وأين الدموع الصادقة التي لا نراها؟

عقب سنواتٍ من الاعتكاف، من الحرائق الخافتة، من الشموع المضاءة، من وهن الأصوات المتجمّدة في الصقيع، أيّ خيرٍ تبقّى في الحدود البالية للمدن؟ أيّ نعمةٍ نعترف أنّها لامستنا بصورةٍ مؤكّدة؟

جئنا من بعيد، من عذاباتٍ لن يرويها أحد، مستحضرين أموراً ضبابيّةً وخياراتٍ غامضةً محفوظةً بصورةٍ موجعةٍ من ألم حقبةٍ متراكبةٍ على أخرى، وذلك كي نرى أخيراً العلّيات الخفيّة التي غادرناها لسنوات عديدةٍ، معظمها لا زال يبتسمُ في الأماكن، ولكي نفهم أنّ الرحلة تتمّ بفضل ما ينبع منها باستمرار، غير مسموعٍ ومتلاشٍ.

يُلغى الزمن تدريجيّاً، إنّه وقت النار على الماء، وغالباً ما ننتقل من الأطول إلى الأكثر إنصافاً، منغمسين في الضوضاء المخروطيّة لصعود السلالم، لضغط الحياة التدريجيّ حتى أبعادها النهائيّة.

هذا الجزء المتّضح تدريجيّاً من السيرة الذاتية، حيث التأمّل فقط كما هو الحال عند تسلّق درجةٍ من السلّم، هو جوهر مما فعلناه لصالحنا، هو الفرح الذي ينبعثُ عقب فترة الأسر.

الخراب

في أيّ وقت

في البداية والنهاية

حتى في مسارات الحياة الخالية من كلّ ألم

نبقى دون مستقبلٍ ودون بداية

مشوّشين داخل العمر والمسافة

معوّزين جرّاء بهتانهم

فنحن نجمع الرمل فقط في قاع فناءٍ مدرسيّ

يحاكي تميمةً ضدّ العودة المستحيلة.

لا هدنة لنا ولا يمكننا العودة، ونبتعد بلا ضوضاء حيث نسمّيها من بعيدٍ، في الهواء المتخلخل، أخيلةً مخفّفةً إلى غبارٍ أبيضَ عديم الشكل، في كثيرٍ من مظاهر الموت التي لا تعد ولا تحصى.

الخراب المتوقّع هو الانحدار النهائيّ لكلّ هذا، مدركاً تماماً لعدم اليقين كعلامةٍ مرئيّةٍ للذاكرة، الراتنج الذي يتساقط عليها أمام عينيها ويسحقُ كلّ ذرّةٍ من الوقت ضدّ إغراءاتها، ممّا يجعلنا نرفض تماماً التخلّي عن الهجر لأنّنا غير موجودين في أيّ شيء، وكلّ ما نقوم به هو رسم إشارةٍ، أو علامةٍ، إمّا للإيمان بما نعتقد أنّه لم يحدث، وإمّا لفهم القبول الدقيق لحياتنا.

 

من مجموعة “مهنة الجغرافي“

لوحة: حسين طربيه
لوحة: حسين طربيه

الوقوع في الحب

ليس صعباً على الإنسان أن يقع في الحب، وليس صعباً إيذاء منظره الهارب برماد الماضي المتلاشي.

ربّما سأقول مع نهاية هذه الحياة المشتركة “اضطربت لسنواتٍ دون تقبيلك”، والآن فات الأوان.

  … فات الأوان الآن على هذه الأرض المحاصرة. في السهول لا زال اليأس والحزن الليلكي لدى الأشخاص الذين غرقوا في صبرهم الليلي.

فقط بعد الهلع تنبح الكلاب الوفيّة على البوابات مع قدوم الصباح، فقط بعد حافّة هذه الحياة المشتركة. “قضيتُ حياتي أجري نحو فمك” وأخلط وجهك بأيّ وجهٍ كان.

ولّت الأصوات

ولّت الأصوات

أخذت رحلتها خارج الشرفة وسلّمتها للعزلة.

يخاف البشر من البكاء وحدهم

لهذا يستمعون إلى قصص بعضهم البعض، لذلك يتحمّلون الحب بخيبة أمل، الحب المنعكس على الوجوه كعناقيد العنب.

ضل الناس وظلّوا في ذهولٍ محاصرين في خوف يواجه الليل.

لن يسكنوا بعد الآن حول التعب الأبيض للشباب، يضعون في أيديهم سبحاتٍ ذهبيّة وتحت الأسقف يسمحون للنساء المارات بتبخترٍ أن يرونها. في نهاية الليل يمرضون في حرارة المدرجات، ينصتون بهدوء إلى قصائد كافافي. في هزيع الليل الأخير تقع النساء في حبّ بعضهنّ بجنونٍ ويقدّمن أرواحهنّ له لحمايتهن.

الأرض الحالمة

هذه هي الأرض الحالمة، تلك الأشنة الزرقاء عند الغروب.

سنجمعُ على أكتافنا وهج أشجار الأرز

وفي الليل يأتي ابن آوى ليلتهم طعام المسافرين ويغرس سرّاً في أعناقهم حدود الغرب.

ينتظرُ القلبُ آخر مكانٍ في العالم والفأل الحتميّ لأشهُرِ السواحل

أيّ سرٍّ يصعد الهضبة منبتاً للأشنة؟

أيّ سرٍّ ينعمُ في الحقول حيث ترعى الخيول بثبات؟

صمتنا

يحيي الموت في الأرض الحالمة

كلّ نعمةٍ

تذكّرنا ببساطة الوجوه التي أحببناها ذات يوم.

يحلّق الموتى داخل الخلنجات ويملئون هواء الجزر، فيما تتجمّع الخيول تحت أشجار الأرز المغتمّة.

جزيرتان

-1-

لئن أردتني أن أتوه

سأبحثُ عن جزيرةٍ أخرى

سأنتظر العتمة أمام عينيّ

والحدأة في وادي الأقحوان.

في المسافة الراكضة نحو أوّل انبلاجٍ للنور

سأنتظركِ

وسألوّح بيدي اليسرى

وأتقدّم نحو البحر.

تذكّري:

تعلّمت ذات يومٍ

كيف يرزقنا الله نوماً خفيفاً يعمي أبصارنا.

-2-

أرى بعيني الله

أنام نومته في مشاهدِ الطبيعة؛

وضعت الدم في الرمال بعناية

وعابراً مسار الأعوام

ظللتُ صامتاً.

سأقف خارجاً

مشاهداً الحياة في الساعات الميّتة

كشرانق

تتفتّح في المياه.

شيئاً فشيئاً

يتلاشى الزمن في الأصوات المسكينة:

إنّها أرضٌ متوقّفةٌ تتيحُ لنا اكتشافها

ويصمتُ الله في جواري

نائماً كشحرورٍ في هدوءٍ لطيف.

ترجمة: بهاء إيعالي

إشارة:

* وضعت عناوين بعض هذه القصائد من قبل المترجم نفسه، وبالاتفاق مع الشاعر.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.