عندما دفن جدّي الغراب
عندما دفن جدّي الغراب
تبعناهُ..
دفن أخي شبح الدرويش
ودفنتْ أختي نورَ النباتِ
وأنا مزقتُ غريباً
طويتُ ظلّهُ في الخزانةِ
أطعمتُ عينيه للقبور
ودفنتُ بقايا الغربةِ
في قصيدة..
هكذا
بدأت القصة
ونحن نمضي من مستهل النص على خطّ الدّفن الموسيقيّ والإقبار الشعريّ، حيث يدفن العالم السفليّ أعلاه، نلمحُ في مسيرة الدفن نسقاً يخالف السائد من الحكاية الأسطورية الأولى للغراب، الغُراب الأول الذي كان علامة لطقس الدّفن يحاكيها قابيل وتتبعه البشرية كلها. هنا يدفن الأب الغُراب، أبو الأسلاف.. القادم من العوالم البائدة يتولى بنفسه دفن العلامة، دفن المُرشِد، دفن سيرة القتل الأولى وإعادة ترتيب أجزائها وفق عوالم الفناء المفضية إلى ماورائيات سريّة، لا يُمكن ربطها بديهياً بما حدث على السطح.
تأسست العتبة على شيفرة وجودية مستفزة ومستحثة على فكّها، عبر إنتاج سؤال مبنيّ على المفارقة الفكرية لأولى قصص الدفن الميثولوجي وشعرية الفناء والعوالم السفلية، يحضر الغراب هنا كرمز موارٍ لترتيبات حياة سابقة، أو تهيئة لفراق عظيم، بما يحمله من ارتباط وثيق بفكرة (البيْن)، كما وُصِف عند العرب قديماً (غُراب البيْن).. فالمعنى في هذه القصيدة مفتوحاً على اكتشافات القارئ الطامحة للتأويل. وهذا ما يميز أسطرة المعنى في القصيدة ومنح موسيقى الدّفن بعداً تشوّفياً معززاً من دفق الذاكرة الأزلية للإنسان، وهي ثيمة حيوية نشطة في أغلب قصائد الشاعر الإماراتي علي المازمي، حين يفاجئنا بباكورة أعماله الشعرية بملهمات المزج الأيقوني بين الكتابة الخطيّة والرسم الذهني الآني، مؤسساً بذلك تعالقاً متناغماً ما بين سيمياء اللفظ والبصر، ومبلوراً مجال الأيقونص الخاص به.
(1)
“عندما دفن جدي الغراب” عتبة علامية يصبح معها النظر إلى ما تحتها من المعنى من موجبات النص، فاللغة في هذه الحالة معطاة لنا من الداخل لا من الخارج، ونحن أمام وعي لساني متعدد الجغرافيا، لكن هذه الجغرافيا اللغوية في الوقت نفسه تختص بما تحت الأرض من مهدٍ شعريّ، ووجود كامل، وخلوة دهرية، وحيوات ديناميكية متعددة وحالات من السلم والنور ثم حالات من الحروب والدمار، إنه وجود ملحق بما فوق الأرض، لحوق الكامل بالأكمل في الإرادة والبعث.
إن الجغرافيا قيد، والقصيدة عند علي المازمي تُخفي الأرض وتأبى الحصر في المكان التأويلي المقروء أمام الجميع، لم يوجد قصائده إلا بحركة شعرية هي حركة المفتاح، والتأويل هو عين الفتح. وهو ما نستشعره منذ العتبة الأولى “عندما دفن جدي الغراب”، من الجيد لو وُظّفت الجملة كعنوان لتكون جذر الاستكناه والتأويل لمعجم شعري، تضخّ بمفردات الدّفن والكفن والشواهد، وتختص به لغة الشاعر.
(2)
لعل ما يعزز إرادة المعنى الدقيق للزمن البدئي الذي نشطت فيه الحركة الأولى للدفن – حركة الأب الذي حفر قبراً للغراب – هي كلمة “تبِعناه” وبذلك تنقلب سيرة المرشد الأول لعملية الدفن الغريزيّ، ليكون الأب مبتدعاً للدّفن وفق غريزة تقدير الجسد الميت للكائنات. أو ربما كانت الطريقة بإيحاء ألوهيّ، وهنا تكون الطيور هي المسترشدة من تلك الطريقة مفارقة لما ألفناه من أسطورة الدّفن الأولى. الدّفن لا يقيم حدوداً بين الطير والبشر وما سواهما، يوحد الأرض في فكرة التحلل والفناء.
(3)
يتضاعف التأثير علينا كقرّاء حين نتصدى لجملة الدفن الثانية “دفن أخي شبح الدرويش”، عادة الدّفن تتوالد عبر بُعد دهريّ آخر، بُعد رمزي متصل بين البذرة الإنسانية والكون المهيب، عبر ركعة واحدة، يوحّد الدرويش بها الله، يفنى الدرويش في صدى الكون، وتبقى الركعة طوّافة وحرّة في سبحانيّة شبحيّة، إلى أن يتولى الأخ تكفينها ودفنها في أرض القصيدة.
الشعر إذن عند علي المازمي عالم يتسرّب إلى ما تحت الأرض، عُمقٌ سحيق من الأكوان دفن الجدّ فيه الغراب، ودُفن من بعده شبح الدرويش. وهناك زمن يتتابع.. ولأن الصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، يصمت الشاعر عن ذكر أحداثه كنتيجة طبيعية لطواف خياله، دالاً على فعالية ذلك الجانب الخفي من الوجود اللغوي في “نظام الفجوات” أو “البياض النفسي” الذي يذهب إليه جاك لوسيركال، فالمحو والمساحة النفسية البيضاء داخل أجواء القصيدة هي فضاء مشحون بخطاب الخفاء. ترك الشاعر هنا فجوة نفسية، ليفصح من مكان آخر عن لحظة التبدّل السريع والقفز الجذري في سلالة الدّفن الموازية في تأويلنا لمتوالية النشوء والفناء، وفق تقدير أزمنة الروح وسفر اللغة في الضوء.
(4)
فبعد زمن من تولّي الذكور لمهمة الدفن تأتي الأخت لترثها، تدفن “نور النبات” قسراً، تغلق بذلك باباً على الحدائق الداخلية وحقول الكشف والنموّ والبحث عن الحقيقة، فالنور هنا دلالة محتملة للولادات المتجليّة خارج الأرض الوالدية المطحونة بعظام التابعين، وأما النبات فهو إيماءة البشرى والتطوّر والنموّ والولادة في عصرٍ هام.
وهنا يبدأ الشاعر بإبراز اتصاله العميق بسلالة الدفن المتتابعة، بضمير المتكلم:
“وأنا.. مزّقتُ غريباً
طويتُ ظله في الخزانة”.
وبتزمين يبدو مختلفاً عمّا سبق في متوالية الدفن التي بدأت بدفن الغراب، حيث يسفر الشق الآخر من النص عن عملية اندماج مُرعب مع فكرة الموت المتوازية مع لذة التمزيق واستئصال أيديولوجيا وخرافات الأسلاف الجاثمة على الأرض، والتي بدت تطفو بغربتها وثقلها على رغبات الشاعر الجانحة لبدايات جديدة في الإشراق والتحوّل والدخول بسلام إلى القصيدة، ويبقى فضاء التأبين موالياً لفكرة تضمينية لشخص المدفون، لقد دُفِن الغراب بيد الجدّ الأكبر للسلالة، وها هو الشاعر ينتمي لسيرة الدفن بإعادة دفن غراب آخر، وقد اشتق من اسمه صفة تنتمي لحقل إنسانيّ “غريباً”، فالغراب هو الغريب نفسه، ولكن بعد الانتفاض على طريقة الدّفن الأولى/الانتفاض على التبعية ودفن بقاياها الأسطورية في مشروع شعريّ خاص، يعثر الشاعر من خلاله على ملامحه الخاصة. القصيدة وحدها من تحوّر ثقل المسلّمات والثوابت المتوارثة إلى ظنون جميلة.. وحقول سحر وخيال لا تحدها زاوية نظر أو طريقة حراثة.
تلك هي العتبة الشعرية الأولى لقبر الغُراب، الرحلة الجنينية قبل الولادة وبعد الدّفن، ضديّة خارقة في كلا الرحلتين وعند طرق الباب الأول لأن نكون بيولوجياً داخل وعاء جسديّ، أو نسافر عبر ممر برزخي نعيد في منتهاه الوعاء إلى الطين.. والامتنان إلى الدفء.
في كلا الحالتين (توليد/تدفين) وما حدث بينهما من مؤانسة وتخلّق طيني وعظامي ولحمي عبر قوة جبارة نتجت عن أعظم الشفرات الكونية الغامضة والمغامرات الوجودية العامرة بسلسلة من المصائر الضديّة الكبرى في الكون.
(5)
ولكن.. وبعد تسلسل عائلي لسيرة الدّفن داخل النص الشعري، المتصاعد من الدّافن الأول (الجدّ) ثم الأخ والأخت، يتحرر سؤال في ذهن القارئ: وأين هي الأم؟
بما أن الشاعر صاغ للأنوثة “الأخت” دورٌ في بداءة الدّفن الأمومي للنّبات، فلِمَ انعدم حضور الأم أيضاً كعنصر يقتحم عادة الدّفن ويورّثه؟ أو كرمز يحُدث مفارقة للسائد ويكسر سلسلة الطميّ والدفن والفناء بانتقاء وظيفي ينبع من كينونة الأم القابلة للإحياء والتوليد والاعتناء؟
كما ذكرتُ سلفاً، اللغة هنا معطاة لنا من الداخل، وكما يُقال “الوحدة التي لا كثرة فيها، مُحال”، لذا من الحريّ التساؤل: أين كانت الأم في النص؟
أتكون هي أرض الدّفن. الأرض الكبرى للقصيدة؟ الأرض التي احتوت وضمت عبر سلسلة من الحيوات طللاً عظيماً من ذاكرة الرفات والأكفان والمدافن.
الأم إذن تتجلى هنا في الأيقونص، مثل أصل النور في حبّة “كُن”، في اللوحة الكلية والمركزية والجغرافيا الكبرى للنص، ما بين تضافر لفظ ورسم، صورة وحرف، تبرز في شعرية الجنازة والعرس الطبيعي للأرض، والحبل السريّ المتجاوز للنهايات، في ذلك القبر المدفون في طمي القصة الرمزية، بين الحدوث والقِدَم، حين أبصر الشعر نفسه، أسفل شاهد قديم يتجدد رحمة، ويُوثّق فكرة شوق الحيّ فوق اليابسة، إلى الحيّ تحت الماء.. الماء الأموميّ البدئي العتيق.
___________________________
* عن المجموعة الشعرية "قبر الغراب" للشاعر الإماراتي علي المازمي، دار رواشن، الإمارات، 2020.