عيد ميلادي الأربعون
هل صحيح أن الحياة الفعلية تبدأ بعد الأربعين؛ كما يقول كارل يونغ؟ وإذا كان الأمر على هذا النحو، ماذا أفعل بذكريات الطفولة المتأججة؟ عليّ الاعتراف.. لقد كنتُ أنتظر هذه المرحلة من العمر من أجل انتقاء الأفضل؛ وبعبارة أخرى: من أجل التأكيد على اقتناص اللحظة والفرصة التي أحلم بها..
لن أشير إلى الخيبات والإخفاقات المتعددة التي عِشتها.. ليس لديّ أدلة على مراحل سقوطي من الهاوية.. أعرف مُسبقاً أن أعذاري تبدو لكم مبتذَلة.. ومهما حاولت الحديث عن مسيرتي في الحياة، واستعادة الذكريات المشتتة، فلن أفلح في تقديم تأويل مناسب للقسوة. ومع ذلك، ما زلتُ أتطلع إلى اللحظة التي يصبح فيها جسدي رطباً.. لقد تأكد لي، في عدة مناسبات، أني غير موجود! صورة باهتة، فيل أبيض، كائن يشبه بينوكيو (Pinocchio)، مجرد دمية خيْطُها بين يدي نجار…
كنت، في السابق، أرتاب من الناس، وأرتعد كلما حاولت الذهاب إلى الأماكن العامة، وألتمس لنفسي أعذاراً واهية، كنت أعي في وقتها فداحتها، لكني كنت أستمر في المحاولة.. الأخطاء المتعمَّدة تعني، بالنسبة إليّ، الشعور بالامتلاء، المتعة القصوى، ممارسة جَرِيئة للحرية.
لكن – من جهة أخرى – عليّ الاعتراف بأن الحياة، رغم التناقضات والقُبح اليومي، ما زالت تستحق الاحتفاء.. إن تقدير الجمال في حياتنا العادية أمرٌ مهم، يشبه مراقبة تفاصيل أرداف الحسناوات الرشيقات تماماً. وكذلك الإحباط لا يتطلب سوى التجاهل! لا.. ليس هذا هو الوصف المناسب.. إن الأمر يحتاج إلى شعور مراهق يشاهد إعلانات بذيئة على التلفاز.
في بداية حياتي – أقصدُ حينما أصبحتُ قادراً على الكلام – لم يكن يُهِمُّني اللعب كالأطفال الذين هم في سِنّي، وإنما كنت أتطلع إلى عالَم الخيال، وقد كانت السينما الهندية – أفلام أميتاب باتشان على وجه الخصوص – في طليعة اهتمامي: “كاليا الجبار”، و”نصيب”، و”خون باسينا” الذي قتل نمِرا حقيقياً في مشهد لن يتكرر في تاريخ الفن… المهمُّ أن شخصيتي تشكلت من خلال أفلام حقبة الثمانينات التي تميزت بالبطولة والمطاردة والحُب الجامح.
تخطر ببالي الأيام التي بدأتُ فيها أدْرس بالجامعة، حين تعلقتُ بالميثولوجيا اليونانية.. لقد كان الإله “ثور”، بمغامراته العاطفية وخيباته المتنوعة، هو النموذج الأمثل بالنسبة إليّ على الأقل. كنت أشعر بحلاوة الانتصار حينما يركب تلك العربة، التي تجرّها ماعِزتان، ويضرب بمِطْرَقته الجبال، ويشق الأنهار! وقد كان يمثل حقاً المحبة الصافية، والرحمة، والخصوبة… أظن أن الناس، في عصر الفايكينغ، كانوا مُحِقّين في اتخاذ مطرقة الميولنير شعارًا لهم.
في تلك المرحلة من العمر، كان الخيالُ أكثر إغراءً من الواقع، واللامبالاةُ هي الوسيلة الفضلى للتعايش. ولا أنكر – ما زلتُ حتى هذه الساعة أواجه القذارة بالخيال – أن متابعة الفن (تشكيل، سينما، رواية، شعر… إلخ) ممارسة يومية، وضرورة دائمة؛ مثل الواجبات المدرسية. أجدُ الإعجاب الذي يثيره الفن في الأعمال التي لا تقول أيّ شيء، ولكنها تعني الكثير!.. شعرية المفاجأة، السحر بوصفه إدهاشاً أبدياً، الحنين المؤثر والمقلق في آن… وأكثر ما يزعجني أولئك الذين يشوِّهون الفن بأفكار مبتذلة: المعلق الكيتشي، والمترجم الخائن… آه، تحضرني، في هذا السياق، صيحة “كونديرا”: أيها السادة المترجمون، لا تنكحونا؟…
طَوال العقود الأربعة التي عشتها، وأنا أبحث عن الانسجام المدهش، الفرح الطازج.. كنت ضمن تلك الفئة التي أسْماها “ستاندال” بـ”الأقلية السعيدة”. إن زمن الشعر لم ينتهِ، وجميع الدعاوى المرفوعة ضد الشعراء لم تؤثر في أبدية المجاز؛ فما دام هناك بشر، فسيكون هناك شعر؛ وبتعبير “أوكتافيو باث”: “إذا ما نسي الناس الشعر، فإنهم سيَنْسَوْن أنفسهم، وستكون العودة إلى حالة اللاتكون الأولى”.
إن الفن، بأنواعه المختلفة، هو إعادةُ بناءٍ للهشاشة، كشف للمستور، خلخلة، ضرورة مُلِحّة للتعايش. إن أطروحة عالِم الاجتماع “بورديو” عن سوسيولوجيا الفن كانت مُغْرِضة، وغيرَ بريئة.. ماذا يعني “تذوق الفن والثقافة الرفيعة مقصور على البورجوازية المنعمة”؟ لا شك في أن منهج الانتقاء يعرِّض صاحبه للتناقض؛ فبورديو نفسُه يعترف، بمنتهى الصراحة، بأنه من أصول متواضعة (من فلاّحِي الريف الفرنسي).. من أولئك الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية معادية للفن؛ لأنهم كانوا – حسبه – معرَّضين في طفولتهم لما يُعْرَف بـــ”الثقافة الشعبية”.
ما أقوله ليس سوى تصريح شخصيّ محْض؛ فأنا من طبقة متواضعة.. لم أعِشْ طفولة إدوارد مانيه أو غوستاف فلوبير. ومع ذلك، فإني أتذوق الفنّ في أقصى حالات الضيق، وتبدو لي صور الحياة في الفن نابضة بالحيوية؛ فهو يُعطيني قوة لمجابهة المعاناة، ويساعدني على اكتساب خبرة واسعة في الحياة، كما لو أنني عِشْت حيوات متعددة. إن وظيفة الفن ليست مجانية. ففي أغلب الأحيان، أستخدم – بشكل خاصّ – الموسيقى ضد تكلُّس الواقع، والرسمَ ضد الجنون. لقد كان “فان غوخ” يقول لصديقه ثيو قبيل انتحاره: “استعنت بالقهوة والكحول خصوصا، أنا أتقبل كل ذلك، إنما سوف يبقى صحيحا أنه لبلوغ العلامة الصفراء العليا التي بلغتها هذا الصيف، توجب عليّ تصديق الزيف بعض الشيء، إن الفنان هو في النهاية إنسان عامل، وأنه ليس قادما لقهر أول متسكع في نهاية الأمر”.. بالفعل، لقد كان انتحاره واضحا، مثلما كان منطقيا!
أعُدُّ نفسي – انطلاقاً من سِنّ معينةٍ – غيرَ مسؤول عن تراكُم الأحزان في حياتي. إن خانة الابتهاج ضئيلة جدا.. بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذا كان لها معنى. أبحث دائمًا عن العفوي والهائل والبسيط، عن الشكل الذي يقول هناك مثلاً: نوع إنساني آخر، فرح، دغدغة، نص برّاق، قصيدة شعرية، لوحة مفزعة… أثناء كتابة “هنري برغسون” مؤلَّفه الأشهر “الضحك”، تناول – على نحوٍ رائع – ما أسْماه “الغرض من الفن”، مُشيرا – منذ البداية – إلى مقولة “الإنسان حيوان يَعرف كيف يضحك”. وعلى الرغم من أهمية الدراما في إعطاء الطبيعة الفرصةَ لكي تنتقم من المجتمع، فـ”إننا نريد أن نغني في قرارة أنفسنا بنوع من الموسيقى الضاحكة أحيانا، الشاكية أكثرَ الأحيان! ولا شك في أن كل هذا قائم حولنا.. إننا في حالة انتظار داخل أعماقنا، على أُهبة زعزعة شيءٍ مَا كان ينتظر اللحظة ليرتعش!”.. أعتقد أن برغسون كشف، بصورة مذهلة، العنصرَ المأسوي في شخصيتنا. ففي الضحك يلتقي اليقين بالسذاجة، الحُب بالفظاعة.. كل شيء خارج إطار المضايقة: الأخلاق والمجتمع والدين. وإذا شئت.. إنه تدخّل عَرَضي للموت في الحياة.
ما أعرفه عن نفسي هو هذا الذي يعوم على السطح.. إنسان لا يخشى القيام ببعض الأشياء على نحْوٍ منحرف، ولا يخاف من ارتكاب بعض الأخطاء.. لا يهمّه أحد… وسأعيش على هذا النحو، ابتداءً من اليوم إلى غاية مماتي.. لا فرق بين عيد ميلادي الأربعين أو المئة…