غبار المعركة
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتسنى لي فيها مشاهدة أسنان كاظم كاملة وهي تكاد تفر من قيود فكيه الضيقين. كانت المناسبة السعيدة يوم عرسه!
لم يستغرق وقتاً طويلاً في التحضير لحفل الزفاف لحسن الحظ؛ إذ تشاركت نساء الحيّ في تجهيز وليمة العشاء وتقديم المشروبات الباردة للضيوف، وهم سكان الحيّ من رجال وأطفال وفضوليين. كما تضمنت الأمسية عزفا عشوائيا لفريق من الموسيقيين الهواة كان استأجرهم جبار الأسمر جار كاظم وصديقه المشاكس، الذي كان يقود الفرقة الموسيقية كعادته متصدراً أفراح الحيّ الفقير يراوده حلم الشهرة والمجد.. كان جبار يمني نفسه دائماً في أن يتصادف وجود أحد المحترفين في فن الغناء الشعبي أو حتى مروره بصورة عابرة ليستمع إلى عزفه وصوته وهو يجلجل في أرجاء الحيّ، فينتشله من الزاوية الضيقة التي يعيش فيها إلى أروقة المجد الفني وأضواء الشهرة. وعلى الرغم من أن هذا لم يحدث في أي يوم من الأيام، إلا أن جبار الأسمر ما زال هو العازف الأول في جوقة الحيّ من دون منازع.. وها هو اليوم يتصدر الجميع تكاد الفرحة تطفر من عينيه مختلطة بدموع الحماس الذي لم يغادره يوماً.
لم يخلو الأمر -بالطبع- من بعض قطع الزينة الورقية والمصابيح الملونة التي تتقن الزحف على جدران الحيّ في جميع المناسبات التي تحمل طابعاً جماعياً كهذا. بذلك، لم يكن أمام كاظم سوى تجهيز بذلة العرس وكانت هذه هي بذلته العسكرية أيضاً بعد أن أزيل عنها غبار المعارك التي شارك فيها من دون جدوى؛ وهو تقليد شائع في زمن الحرب الطويلة في أن تكون البذلة العسكرية هي الزيّ المعتمد في مثل هذه المناسبات، وكان ذلك من حسن حظه مرة أخرى، إذ من أين له بثمن واحدة أخرى غير رسمية يستأجرها لقضاء ليلة العمر؟
إن كاظم لم يكن يوماً سعيد الحظ كما يبدو عليه الآن من خلال تفاصيل الحفل؛ حيث ترك أكثر من قطار للزواج خلفه في خضم صراعه مع الحياة والموت.. الجوع والشبع والحرب والسلام.. تلك الثنائيات التي أطّرت صورته منذ عقدين من الزمن فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من ملامحه، وها هو في أواخر عقده الرابع وبعد أن صبغت سمرة بشرته بعض رتوش التقدم في السن، قد وجد من ترضى به -هكذا كان يقول لأصحابه ضاحكاً- فكانت رجاء هي أمله الأخير الذي بقي في انتظاره في المحطة الأخيرة والقطار الأخير.
كانت رجاء تشبه كاظم كثيراً في علاقتها بالحظ، وفضلاً عن ذلك فقدت شقيقها الأكبر في الحرب وبعدها الأم والأب بعد أن ذابا حزناً على الولد، الذي أرسلوه شاباً وسيماً فارع الطول إلى ساحات المعارك الطاحنة ليعود إليهم جسداً مشوهاً بلا ذراعين ولا ساقين. بذلك، لم يتبق لرجاء سوى جدة ضريرة استطاعت الصمود سبعين عاماً لأنها ما زالت محتفظة بمخيلتها بصور الأرض الخضراء والخير الذي ينتصر دائماً في قصص الجنيات وابتسامات مختار الحيّ الصباحية التي توزع بالتساوي على جميع المخلوقات من دون مقابل والأخبار السعيدة القادمة من خلف الحدود، كان ذلك في الماضي البعيد.. ورغم أن الصورة اليوم أصابها كثير من التشوه، إلا أن الجدة لم تكن صاحبة مخيلة مبدعة فلم يطرأ على مشاهدها القديمة تغيير يذكر.. لهذا احتفظت بها ذاكرتها فأطبقت عليها جفنيها إلى الأبد.
بعد صلاة المغرب، بدأ الحفل الموسيقي وانشغلت النسوة بإعداد وتوزيع الطعام، فيما كان كاظم يسير راجلاً ببذلته العسكرية حتى بيت العروسة المستقر في نهاية الشارع نفسه الذي يسكن فيه، حاملاً في ذراعه اليسرى مغلفاً يحتوي على شيء ما لم تظهر من معالمه أيّ إشارة تنبئ بمحتوياته؛ كان المغلف يضم شكلاً مستطيلاً مستوياً.. إلا أن ذراعي كاظم كانتا تمسكان به بإصرار غريب حتى أنه كاد ينسى قيافته وأناقته حين تعثرت قدماه في إحدى الخطوات القليلة التي تفصله عن منزل أمل.. فكان يخيل إليه أن المغلف سيسقط من ذراعه بفعل الزحام وارتباك الخطوات. وبعد أن استرد وعيه أسرع وحمله بين ذراعيه الاثنتين مرة أخرى ولكن بإصرار أكبر وخشوع كأنه يحمل كفن طفل إلى مثواه الأخير.. فشعر بالرضا ثانية واستعاد توازنه وصار يسير مختالاً في موكب زفاف عجيب يرافقه إخوته الصغار وبعض أصدقائه وجمع من أبناء الجيران والمتطفّلين الذي لا يعرف أحد كيف وصلوا إلى المكان في الوقت المناسب تماماً. بلغت المسيرة منزل رجاء فكان في استقبالهم جيرانها وأقاربها بالأهازيج والأغاني الشعبية التي لم تخل من الهتافات الوطنية التعبوية، وكأن الحرب كانت مصرة على أن تكون حاضرة حتى في دقائق الفرح القصيرة.. ولم يفتقد هذا التجمع -طبعاً- الغرباء والفضولين من أصحاب المصالح المتشعبة، كدأب الأعراس التي تقام في مثل هذه الأحياء الفقيرة.
ارتفعت أصوات الموسيقى العشوائية التي كانت تقود مسيرة العرس، حيث بلغت أقدام المحتفلين عتبة دار العروس، كما اتسعت ابتسامة كاظم قليلاً من فرط الدهشة لأنه لم يكن ينتظر هذا اليوم أبداً بعد أن قطع دروب حياته ممزقاً بين أنياب اليأس والخوف.
وهكذا كان يستقبل تهاني الأصدقاء والجيران بامتنان وخجل وكأنه ارتكب خطأ فادحاً حين سمح لنفسه باقتناص لحظات الفرح هذه. وحين أوشكت سحابات الحزن على الهطول فوق ملامحه عاجله صديق عمره جبار الأسمر بأغنية وطنية مجلجلة شحذت الهمم وبددت جميع أنواع السحب واستبدلتها بخوف وترقب كثير الشبه بالخوف والترقب الذي يسبق سقوط القذيفة الأولى في سلسلة هجوم جوي تمهيداً لمعركة صباحية اعتاد أن يهضمها كاظم ورفاقه القدامى في جبهات القتال، بدلاً عن الفطور. ولكنه الآن في إجازة طويلة بعد أن وضعت الحرب أوزارها -على مضض- وأصبح لزاماً عليه أن يقطع ما تبقى من طريق حياته في اتجاه الضفة الأخرى الأكثر سلاماً.. من دون هتافات وأغان حماسية مثلما تسنى له قبل يومين وهو يهم بتحضير بذلة عرسه أن يزيل عنها آثار غبار المعركة الذي كان متشبثاً بخيوط البدلة بإصرار عجيب..
كاظم كان قد نجح في إزالة الغبار الرمادي عن مشهد البذلة الخارجي فعادت كدأبها خضراء بلون الأرض الغنية بكنوزها ونفطها، لكنه لم يكن واثقاً بأن الأمور ستسير بسلاسة ويسر هكذا.. حيث يستطيع أن يحافظ على شكل ابتسامته مدة أطول وكأن الماضي لم يكن!
جلس الزوار ومعهم العريس وحضرت العروسة تغطيها ابتسامة خجل وعدم تصديق، وفيما كان كاظم يبادل عروسه الابتسام لم يفارق ذراعيه الكيس الذي ضم الشكل المستطيل المستوي، وعلى الرغم من النظرات الفضولية التي غلفت الكيس لم يكن يشغل بال كاظم في تلك اللحظات سوى خشيته من أن تصاب محتويات سره الغريب بأيّ خدوش بفعل الزحام وتشابك الأيدي والأكتاف التي ما زالت مصرة على إحياء فرحته بالنيابة عنه.. لطالما حدثته نفسه -وسط أصوات الضجيج العالية هذه- عن موعد اقتراب اللحظة الحاسمة التي يستطيع التخلص فيها من كل هذه الملامح المحيطة به ليتسنى له الاختلاء بنفسه وعروسه و.. الكيس!
اتخذ صديقه جبار الأسمر القرار -مرة أخرى- نيابة عنه واختتم الحفل بمقطع غنائي عشوائي، وهكذا بدأ الجمع يتفرق وغادرت الأقدام منزل العرس على مضض.
أخيراً، هذا كاظم برفقة عروسه ومازالت ذراعاه تتشبثان بكيس الأسرار.
هل يبدو المشهد من هذه الزاوية مكتملاً؟
في بادئ الأمر، لم يشأ كاظم أن يترك الكيس ليسقط من يديه بسهولة.. أصابه بعض الهلع حين ترك بمفرده.. وشعر بالغربة مجدداً، ها هو ثانية في جبهة قتال جديدة وأمامه بالتأكيد معركة أخرى ليخوضها.. وقد ترك بمفرده.. هل طاردته ذكرى الغائبين في تلك اللحظات؟.. إنه لا يعلم بالتحديد من الغائب ومن الحاضر.
أصبح منزل العروس منذ اللحظة منزل كاظم أيضاً، هكذا كانت الفكرة بموافقة جميع الأطراف.. لم يكن لأمل سوى جدتها الضريرة التي تسكن منذ الأزل في إحدى زوايا المنزل المكون من غرفتين.. فكان معظم ما تبقى من زوايا وجدران من نصيب كاظم وعروسه. كان المحارب القديم يجيل بصره في جدران المنزل وكأنه يبحث عن إجابة لسؤال طالما حبسه في رأسه المتعب.. سؤال قد يجد صورته داخل الكيس.. هذه المرة تطوعت أمل لتكسر حاجز الصمت:
- “هل أعجبك المنزل.. أعني بعض قطع الأثاث هذه كانت لأمي و.. ثم”.
- “نعم كثيراً.. أعني بأنني لم يتسن لي الوقت ل.. سأشتري لك غرفة نوم جديدة”. تحدث جبار بسرعة وكان غائباً عن المكان.
- “لا ضرورة لذلك، يمكنك توفير المال لأمور أهم”.. كانت أمل تحدث نفسها بأن لا وجود لمثل هذا المال إلا في خياله، فالحرب جردت كاظم من كل شيء فلم عساها أن تترك له المال؟
تحرك كاظم بسرعة مفصحاُ عن الكيس الذي يبدو وكأن الوقت قد حان لدوره.. تطلعت أمل بفضول.. ترى هل يحمل لها هدية ما.. ربما.. أثمن من الغلاف الذي يبدو ممزقا في إحدى زواياه.
تحركت أنامل كاظم بسرعة أكبر وكأنه يريد أن ينهي مهمته ليرتاح ويتسنى له فيما بعد استهلال صفحة جديدة من حياته أو.. ما تفضل منها. أزال المغلف تماماً فبدا المشهد من جهته الأخرى حيث رصدته أحداق العروس الفضولية وكأنه خلفية إطار لصورة!
كان كاظم يحدق في الجهة الأخرى من الصورة حيث تسنى له النظر مباشرة إلى محتوياتها، وحين تبادل العروسان الأدوار تسنى -أيضاً- لأمل مطالعة المشهد الذي يحتويه الإطار. كانت صورة لمجموعة من الجنود بوجوه رسمت عليها أشباح ابتسامات على خلفية تلة ترابية.. مع خيال شمس صيفية حارقة.. رفاق كاظم القدامى ومعهم كاظم المحارب القديم.. وجوه كالحة وملامح قلقة، وهو كان يرتدي قيافته العسكرية ذاتها مثلما هي الآن ولكن مضافاً إليها الغبار.
لم تكن الدهشة هي الوصف المناسب لملامح أمل الجديدة؛ إنه مزيج من مرارة وخيبة أمل.. خيبة بمذاق جديد لم تعتده من قبل.. “ترى هل ستكون الأيام المقبلة على الوتيرة ذاتها وهل ستبني تلالاً جديدة من الخيبات فوق خيباتها القديمة.. هل سينتهي الأمر على هذه الشاكلة؟”.. كانت العروس تحادث نفسها وهي تواجه نظراته الواثقة باستسلام وصمت.
كان العريس يبحث عن جدار مناسب ليحمل الصورة.. تبعته نظرات العروسة الصامتة حتى استقر قراره على واجهة الجدار الأول الذي قابله، لم يتردد لحظة واحدة ولم ينتظر أن يسمع كلمة اعتراض.. أنهى مهمته بسرعة واستقرت صورة رفاق الحرب على الجدار الأكبر في منزل الزوجية.
كان الأمر يتطلب -في الأقل- بعض التوضيح. بدا كاظم في تلك اللحظة وكأنه قد أزاح حملاً طالما جثم على صدره منذ الأيام التي ترك فيها جبهة القتال، وعاد إلى منزله خالي الوفاض إلا من هذا الإطار.
- “كنا نتشارك كل شيء.. الطعام.. الشراب.. الخوف.. الفرح المكتوم.. القلق.. أعقاب السجائر ومرارة اليأس.. الأمل برؤية شروق الشمس ثانية بعد موجة قصف ليلية عنيفة.. كل شيء كنا قد تشاركناه.. لكنني خذلتهم في اللحظات الأخيرة يا عزيزتي.. لم يكن خطأي.. إذ أن شظايا الصاروخ التي طالت أجسادهم كانت ضريرة فأصابتهم ثم فقدت اتجاهي.. فنجوت.. هكذا تصوري بكل بساطة.. سقطت الأجساد الفتية في لحظات.. وبقيت أنا معلقاً بين السماء والأرض”.
- “كاظم”.
- “هل عليّ أن أتركهم الآن.. وبعد كل ما حدث.. لا، ليس بعد كل ما حدث.. بل ستبقى أجسادهم فتية هكذا على الجدار.. لن أدعها تسقط مرة أخرى.. لن تسقط مرة أخرى”.
- “كاظم”.
- “لن تسقط “.