غرقى جبليون
هناك أسطورة رائجة تقول إنّ قلب الشّاعر مفتوح ليتلبّس بكلّ الكائنات الجريحة المهزومة حتّى يصير هو نفسه هذه الكائنات، ومن ثمّ يتشقّق من داخله صوتها المكتوم في شكل كلمات وقصائد. ثمّ إنّ هذه الكلمات قد لا تغيّر العالم. لكنّه سيكون أكثر فظاعة من دونها. وهي تنجحُ في النّهاية في تغيير نظرة إنسان مّا وإنقاذه من الغرق. هذه الأسطورة حقيقيّة إلى أبعد حدّ. وبإمكانك أن تراها مثلا في “غرقى جبليّون”، الدّيوان الشّعريّ الجديد للشّاعر التّونسيّ محمّد النّاصر المولهي الصّادر عن دار نقوش عربيّة بتونس.
يأتي هذا الكتاب بعد ديوان سابق له موسوم بـ”مثل كلّ شيء تنتهي” (منشورات بيت الشّعر، تونس، 2013). وهو في الحقيقة، دليل عينيّ على أنّه لا شيء ينتهي حقّا. بل تتّخذ الأشياء صيرورة جديدة وتتطوّر في حال كانت حيّة وحقيقيّة. لقد انتقل الشّاعر من الموقع الذي بحث عنه في كتابه الأوّل، موقعه من هذا العالم وفيه، إلى النّظر إليه انطلاقا من هذا الموقع. وانطلاقا منه تحديدا، تلتقط عينه غرقى جبليّين في كلّ مكان، في ذاكرته البعيدة وفي ذاكرة من يحبّ من أصدقائه وفي الأفق الذي ترقبه عينه ولا ترتدّ منه إلاّ بالألم.
وفي أعماق ذاته يتعتّقُ كلّ ذلك. “لم ير أحد فردة الحذاء/التي لفظها البحر/لم يضعها أحدٌ في أذنيه/لينصت إلى غناء الأعماق” (قصيدة ‘رجل حافية’). تمّحي الفروق بين ما يراه من صفوف المهزومين والمظلومين والمهمّشين في كلّ مكان وبين أعماقه التي تصدر منها إيقاعات قصائده. تصبحُ ذات الشّاعر في الآن ذاته طفلا سوريّا حطّمت الحرب طفولته وزهرة داسها الجنودُ وأشباههم دون أن يذكر أحد اسمها.
لقد قسّم محمّد النّاصر كتابه ثلاثة أقسام استنادا إلى هذه الرّؤية المركزيّة التي تنتظم الكتاب. وعناوين هذه الأقسام جاءت كالآتي: “لا نهر في الزّقاق”، “الهروب إلى الدّاخل”، “على دفعات يأتي الخريف”. وأقام بين هذه الأقسام لعبة ضمائر مخصوصة. قصيدتان فقط تشكّلان استهلال الكتاب تستندان إلى ضمير المتكلّم المفرد. فيما يلي ذلك، تأتي ضمائر المخاطبة.
ثمّ تسودُ ضمائر الغائب في مجمل الدّيوان، كأنّ ذات الشّاعر تصل تجربتها هذه بسابقتها. تتحرّك شيئا فشيئا من البوح والاعتراف إلى التّلبّس بأصوات الغائبين المنسييّن، مقتولين كانوا أم مفقودين أم مهجورين… إنّ الغياب هو ما يقول غرقى وحيدين لا أحد ينتصر لهم سوى طفل شاعر، طفل يتذكّر جيّدا كيف كان يرى العالم من قبل -لأنّه لم يتوقّف عن كونه طفلا- ثمّ يقابل ذلك بمشهده كما يتجلّى الآن. لعلّ العالم لم يتغيّر أبدا. لكنّ عين الشّاعر هي التي تغيّرت، وانغرزت عميقا في المرأى. “أصرخ/ وحنجرتي في يد غريبة/وما بدا لي صوتي/لم يكن سوى ذكرى خاطئة/لأوّل كائن مقتول/حركة غريبة/لأوّل ريشة نازفة على جلد غزال” (قصيدة ‘ذكرى خاطئة’).
“لكنّك لا تنتهي أيّها الماضي”:
تشترك أقسام الكتاب الثّلاثة في الانشداد إلى زمنين: الماضي والحاضر. فنّيّا، تقوم القصائدُ إمّا على فكرة تنبني داخل النّصّ ويضيئها ختام القصيدة، حتّى يشعر القارئ بالحاجة إلى إعادة قراءة النّصّ من جديد في ضوء تلك الفكرة المتكشّفة، وإمّا على نفس سرديّ طاغ أو مقاطع تنفصل وتتّصل لتشكّل وحدات مترابطة ضمن وحدة أكبر هي القصيدة. وعلى اختلاف هذه الأنحاء التقنيّة في الكتابة، تظلّ الذّات التي تتلفّظ الشّعر مترسّخة في تاريخيّتين: الأولى نقيّة طفوليّة تحدّها آفاق ورديّة والأخرى تاريخيّة اللّحظة الرّاهنة، المتجلّيّة مثلا في تكرار لفظة “الآن”. وهي تاريخيّة تكسر آفاق الأولى وتقلب ورديّها رمادا يعقب الحرائق والانفجارات وتعرّي كم كان ظنّ الطّفل مغاليا في تفاؤله بهذا العالم.
“هو أمام نفسه الآن/منحدر عار وخفيض” (قصيدة ‘منحدر يعلو وينخفض’)، “هو في الحقيقة ساحة حرب/تحملها قدمان وقميص قديم/(…) والآن بينما هو بقعة من السّكينة تطفح بينكم/لا تستغربوا/لقد انهزم كلا الجيشين/وها هو ريشة باردة بينكم/إنّه الآن/قتال غربان مشلولة/على سفح من الجثث” (قصيدة ‘ساحة حرب’).
إنّ موقع الشّاعر هنا هو النّحو الذي يكون وفقه وفيّا لمنابعه الأولى، طفلا لا يؤمن إلاّ بالإنسانيّ. وإذ يُشير إلى حروب كثيرة على اختلافها، فإنّه يصرخ بأنّ الجميع خاسر، الجميع الذين هم الإنسان. يذكّرنا “غرقى جبليّون” على هذا النّحو بكلمة غونتر غراس عند تلقّيه لجائزة نوبل للآداب، ومفادها أنّ الشّعر وقوف عنيد في صفوف الخاسرين والمهزومين، أولئك الوحيدين الذي لا يذكرهم أحد إلاّ من خلال عدسات بعيدة تطلّ من الأعلى. هنا يتكلّم الشّاعر من أرواحهم التي تصير امتدادا لروحه هو. غرقاهُ طفلة امّحت فجأة بحادث عبثيّ وشاعر صديق هو أخ للطّفلة ذاتها يخوض حروبه الخاسرة في العاصمة وأطفال آخرون يفرّون من القصف وطفل آخر يغرق في داخله. “بالعصيّ والحجارة/وأكتافنا الفارغة من الدّماء/كسرنا باب المسجد في الظّلام/كنّا هاربين من القصف/ينهشنا بكاء أطفالنا” (قصيدة ‘عظام سوداء’).
تقيم قصائد الغرقى في هذا الكتاب استرسالا بين الماضي والحاضر. تضعُ عينا تخترقهما كليهما. وتكشف المفارقة المؤلمة بينهما في قلب كلّ واحد منّا. ثمّة ألمٌ جليّ في هذا النّظر. لكنّ الشّاعر يختار ألاّ يحوّله إلى صراخ مباشر واستعطاف، وإنّما يحوّل هذا الألم إلى إيقاع قصائده وشكلها. إنّه إيقاع متراخ لذات تغرق في أزقّتها الجوّانيّة المتّصلة بما يحدث في الخارج اتّصالا جوهريّا. الألم الذي يطفح من هذه الذّات يجعلها تتفادى الصّراخ الذي لن يسمعه أحد، وإنّما توقّع كلاما خافتا يخبّئ صرخات مكبوتة إلى ما لا نهاية له، قبل أن تعترف لذاتها: “ها قد أصبح ما ضاع منك هو الأجمل والأكثر/حضورا وألما” (قصيدة ‘زوبعة صغيرة’).