غزال تبريز
غيّب الموت خلال الأيام الماضية الشاعر والروائي والناقد الأذري البارز رضا براهني وهو الأديب المؤسس للنقد الحديث في اللغة الفارسية، ومن المشاركين الأوائل في تأسيس اتحاد الكتاب الإيرانيين في عام 1968. ولد براهني في عام 1935 في تبريز عاصمة إقليم أذربيجان في إيران وتوفي في 25 – 3 – 2022 في تورنتو بكندا.
وقد وصفته في نص لي بالفارسية بـ”غزال تبريز” و”كوكب الزُهرة” في غابة الوحش الإيراني. لماذا؟ لأن رضا براهني لم يكن فارسيا وهو تركي – أذري لمع في الوسط الأدبي الإيراني في طهران في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أي في عهد الشاه واستمر في عطائه حتى عام 1995 حين غادر البلاد خشية الاغتيال على يد الاستخبارات الإسلامية الإيرانية التي اغتالت في عهد الرئيسين رفسنجاني وخاتمي العديد من الكتاب والمثقفين والسياسيين المعارضين منهم زميلينا في الاتحاد، محمد جعفر بويندة ومحمد مختاري.
في بداية عهدي بالنشاط الأدبي كنت أخشى ممّا أصفه بـ”غابة الوحش” أي الوسط الأدبي الفارسي المشفوع – معظمه – بالعنصرية وخاصة معاداة العرب والترك. كان رضا براهني بوصلتي في تلك الغابة وكنت أقتفي أثره ومعاركه الأدبية والإثنية لأتعلم كيف أتعامل مع وسط ومجتمع غريبين عني وعن ثقافتي.
في العام 1945 أقام الحزب الديمقراطي الأذري سلطة حكم ذاتي في إقليم أذربيجان الإيراني، غير أنه، وبعد عام واحد فقط، هاجمت القوات العسكرية الشاهنشاهية تبريز عاصمة الإقليم وأحرقت الكتب التركية – الأذرية وأعدمت وقتلت المئات من النشطاء والمتعاونين مع سلطة الحكم الذاتي. كان صديقنا رضا براهني آنذاك تلميذا في الصف الرابع الابتدائي. قال، مرة، في مقابلة مع مجلة إيرانية إنه وبعد تدمير سلطة الحكم الذاتي ومنع التلاميذ من التعلم بلغتهم الأم “كتبت مقالا باللغة التركية – الأذرية في مادة الإنشاء عندما كنت في الصف السادس الابتدائي، غير أن المعلم أجبرني أن أبتلع ورقة الإنشاء تلك، وبذلك ابتلعت لغة أمي”.
في أوائل الستينات من القرن العشرين أصبح براهني أستاذا في كلية الآداب في جامعة طهران. وفي العام 1973اعتقله الأمن الشاهنشاهي – السافاك – لمدة ثلاثة أشهر، اضطر بعدها إلى مغادرة إيران ولم يعد إليها إلا بعد قيام الثورة في 1979 تاركا منصبه كأستاذ كرسي الأدب الفارسي في جامعة ميريلاند. بعد عامين فقط من عودته طردته السلطة الدينية الوليدة بقيادة الخميني من التدريس في جامعة طهران، والسبب مواقفه السياسية اليسارية ودفاعه عن حقوق القومية التركية – الأذرية وسائر القوميات التي تتشكل منها إيران، وجرى اعتقاله في العام 1987 لمدة ستة أشهر للأسباب نفسها، ولم يفرج عنه إلا بعد مناشدات واحتجاجات للكتاب في داخل إيران وخارجها.
مع التضييق المستمر على الثقافات غير الفارسية ومنع النظام الملكي إصدار أيّ كتاب باللغة التركية في إيران اضطر براهني كغيره من الكتاب المتحدرين من خلفية أذرية أن يكتب بالفارسية فقط، واستمر على هذا النهج في العهد الجمهوري، لكنه صوّر في رواياته، شخصيات ورموزاً تمثل مسقط رأسه أذربيجان، بل وفي أوائل هذا القرن أصبح رئيسا لرابطة القلم لجنوب أذربيجان التي تشكلت خارج إيران.
حاول شعراء بارزون من ذوي الانتماء الفارسي مثل نادر نادربور وأحمد شاملو ومحمد رضا شفيعي كدكني وآخرين غيرهم إهماله بسبب قوميته التركية ودفاعه المعلن عنها وعن والقوميات المضطهدة الأخرى في إيران، غير أن إبعاده عن الساحة الأدبية كان صعباً لمكانته الأدبية البارزة، وتبحّره في اللغة الفارسية وآدابها من جهة، وطرحه قضايا حداثية في مجال النقد الأدبي والشعر والرواية الفارسية.
وخلال النشاط العلني لاتحاد الكتاب الإيرانيين بعد الثورة وفي ظلّ إثر مساندته وبعض الكتاب التقدميين في اتحاد الكتاب الإيرانيين، حاضرت هناك في العام 1980 عن الشعب العربي الأحوازي وأدبه وتراثه، وكتبت عن ذلك في مجلة الاتحاد واسمها “أنديشة نو”، أي الفكر الحديث.
انتخب رضا براهني رئيسا لرابطة القلم الكندية في الفترة 2001 – 2003، وله فضل عليّ فقد كان وراء إبلاغ رابطة القلم العالمية (بن أينترناشنال) ورابطة القلم البريطانية (إنغليش بن) باعتقالي عام 2005 على إثر انتفاضة الشعب الأحوازي، وساندني على هروبي من إيران في 2008 عندما كنت لاجئا في تركيا، إلى أن حصلت على دعم رابطة القلم البريطانية في يناير 2009 باللجوء إلى لندن والانتماء إلى هذه الرابطة.
وبراهني عمل في الولايات المتخدة مع نعوم تشومسكي وآرثر ميللر وكورت فونيغوت وألين جينسبيرغ والعديد من الشعراء والكتاب والناشطين البارزين الآخرين لتعزيز حقوق الإنسان في العالم ، وخاصة إيران. ألف أكثر من ستين كتابًا في الشعر والخيال، والنقد الأدبي، والترجمات الأدبية والقضايا الاجتماعية، قبل رحيله كان يعمل أستاذًا للآداب المنفية وما بعد الحداثة في مركز الأدب المقارن بجامعة تورنتو. والبراهيني حائز على العديد من الجوائز الأدبية وحقوق الإنسان من الولايات المتحدة وكندا وبلدان أخرى في العالم.
يمكن أن نعتبر ما كتبه رضا براهني وغلام حسين ساعدي وصمد بهرنجي وبهروز دهقاني – وكلهم كتاب أتراك – أذريون كتبوا بالفارسية – استثناء في قاعدة الخطاب الأدبي الفارسي المعاصر المعادي للعرب.
ولهذا كنت أراه غزالا في غابة الوحش المعادي للعرب والأتراك في الأوساط الأدبية الفارسية. وفي السنوات الأخيرة كنت ألتقيه عندما يزور لندن وألتقيه عندما كنت أسافر إلى كندا، وكان لذبح لغتينا العربية والتركية وطمس ثقافتينا في إيران دور هام في تقاربنا وصداقتنا نحن الاثنين. وسيبقى ذكر هذا الكاتب النبيل حياً في وجدان الإيرانيين لمواقفه الشجاعة ولما له، أولا وأخيراً، من فضل لا يمكن إنكاره على الثقافة الإيرانية الحديثة.