غلبة الأنثوية وتراجع الذكورية
ليس يسيرًا على الأنثوية أنَّ تقضّ مضجعَ الذكورة موقفة إياها على حقيقةِ تراجعِ هيمنتها وانهيارِ مواضعاتِ سيادتها على الأنثوية. والسبب ارتكازُ الذكورة على قاعدة متينة كانت قد شيَّدتها عبر التاريخ، لتكون الأبوية أهم سماتها التي بها شرعنت استحواذيتها وأثبتت أحقية تفردها الفحوليّ مقابل ضعف الآخر الأنثوي.
وما من سبيلٍ أمام الأنثوية لدحض تلك المواضعاتية التاريخية سوى مطاردة الذكورية ومباغتتها في عقر دارها، إشعارًا لها بانهزام فحولتها وتراجع أبويتها أمام الأنثوية التي تُنازعها على الاستحواذ والسيادة، انتقامًا لعهود طويلة من الإقصاء والمصادرة. وهذا التمكن الأنثوي من الذكورية قد يتجلى بأشكال حياتية متنوعة وممارسات كتابية شتّى؛ لكن أوضحها نهجا وأدلّها قصدا هو السرد الذي به تتمكن الكاتبة من تشييد كيان أنثوي ينافس الذكورية، محجِّما مساحة سطوتها، مجبرا إيّاها على الاعتراف للأنثوية بالسيادة، إقرارا برجحان كفة الصراع لصالح المرأة.
وهذا ما جسَّدته الروائية اللبنانية هدى بركات بشكل واضح في روايتها “بريد الليل” الصادرة عن دار الآداب ببيروت 2018، والتي تمثلت الأبعاد ما بعد الكولونيالية للسردية، وأهم مواضعاتها إقصاء كلّ ما هو مركزي واستجلاب كل ما هو طرفي، ليكون هو المركز والمحور. وواحدة من تلك الأطراف المرأة التي لم يعد وجودها هامشا في عالم الكتابة السردية؛ بل تعدته إلى أن تكون ساردة ومسرودة.
ومعلوم أن توظيف الرسائل في الكتابة الروائية وجعل كاتبها منغمسا في صيرورة الحياة كاسترجاعات وانطباعات ليس بالجديد، وتعد رواية “باميلا” للأميركي صاموئيل ريتشاردسون، والمنشورة العام 1740 أول رواية كتبت في شكل رسائل كتجريب ابتكاري حداثي آنذاك.. بيد أن الجديد هنا هو أن التجريب السردي بالرسائل كان مقصودا منه تقويض المرسل/الرجل مقابل مساندة المرسل إليها/المرأة أمّا أو أختا أو حبيبة، هذا من جهة ومن جهة أخرى مساندة المرسلة/المرأة مقابل تقويض المرسل إليه/الرجل عبر تحجيم دوره أبًا أو أخًا أو حبيبًا.
ولقد تمثلت رواية “بريد الليل” هذه المعادلة، مراهنة على الرسائل بوصفها تجريبا ناجعا يحقق المقاصد أكثر من التجريب الموظف للرحلات أو الحكايات أو المكاشفات بالوثائق والمذكرات وغيرها من أشكال الكتابة التي بها تريد الأنثوية مغالبة الذكورية والانتصار عليها بشكل تام، كشفًا لأوهامها. وهذا ما تسعى الرواية النسوية العربية اليوم إلى تمثيله، التي وإن كتبها الرجل فإن الغلبة تكون دوما للعنصر المؤنث بسبب ما تمنحه فلسفات ما بعد الحداثة من ممكناتٍ، بها تستطيع الرواية ردم الفجوة بين الذكر والأنثى، جاعلة الأخيرة منافسة للأول.
وقد سمح هذا الدعم الفلسفي للوعي الأنثوي أن يأخذ كامل حريته معترفا بأحقية المرأة في التمكين والسيادة، وكان أسلوب الرسائل خير وسيلة لإثبات هذه الأحقية التي بها أتيحت للكاتبة هدى بركات المراهنة على كتابة حبكة سردية هي أقرب إلى “السرد الكيفي” وما فيه من حرية التجريب لأنواع جديدة من المفاهيم من قبيل الواقعية الساخرة واللابطولة واللاحبكة وتعدد الأصوات السردية، فضلا عن تمثيلات أخرى تدعم مقولات التعددية الثقافية (multiculturalism) إيمانا بالتنوع والتعايش والتبادل الثقافي.
وبهذا تكون الرواية النسوية المكتوبة في شكل رسائل عبارة عن مختبر لمنظورات تتمرد فيها الأنثوية على الذكورية غير معترفة بالروابط السببية المنتظمة، ممتلكة ذاكرة ممرنة تباغت الآخر بالكمائن والفخاخ، ممررة مشروعها التنافسي مع الآخر، مؤكدة سطوتها مرسلةً ومرسلًا إليها بينما يقبع الآخر محاصرًا بالتقهقر والاندحار.
ولعل أهم تداعيات هذه السطوة الأنثوية أنها ستمكن المرأة من انتزاع الخشية من داخلها، إمّا بالمقاومة لكل مظاهر الانتقاص والتعالي والجبروت، أو بالتحلي بالمعاندة غرورا وانتقاما وتفرّدا. هكذا بالمقاومة والمعاندة تطارد المرأة السارد/المرسل الذي لا همَّ له سوى إثبات أن المرأة هي غريمته، لكن مطاردته لها لا صلادة فيها ولا استقرار، حتى أن المكان يغدو عنده هو الآخر بلا استقرار كنافذة غرفة في فندق أو ككنبة انتظار في صالة مطار.
وإذا لم يكن متاحا للذكورية الاستحواذ على الأمومة؛ فإن الأمومة هي الورقة التي بها تراهن الأنثوية على إمكانياتها في مغالبة الذكورية فكريًا كشعور غريزي أو جسديًا كاحتواء بايولوجي.
بهذا تبقى بيد الأنثوية الورقة الأخيرة الرابحة في مضمار الاستحواذ والغلبة، متملصة من براثن الذكورية ووصايتها الأبوية، معبرة عن ذاتها بمركزية وجودها فكرا وجسدا، مؤكدة قدرتها على الانتقام والشجب والاستقلال. ولقد توضح هذا التصدي الأنثوي للذكورية في السارد/المرسل بضمير الأنا الذي بدا ضعيف الحيلة وقد يهجس غلبة أمومة المسرودة/المرسل إليها، متأكدا من حقيقة استلابها له داخليا وخارجيا “تلك المرأة قصفت عمري وشردتني في بلاد الله” (ص17).
لذا يحاول السارد الاستعاضة عن هذا الاستلاب باللغة أولا، مؤديا دور الأمّ لعله يتمكن بذلك من الاستغناء عن وجود المؤنث “لم يبق سوى أن أفرد زاوية لطفل حبنا وأن أبدأ بتركيب السرير الخشبي الصغير الذي نكون اخترناه معا من كاتالوغ إيكيا” (ص17)، وثانيا بالزمان الذي رمز له بالقطار، كي يثبت أن السطوة الزمانية هي أقوى من السطوتين الأنثوية والذكورية، ومع ذلك يفشل في جعل المؤنث خارج الحياة، لا سيما بعد أن عرف أن عقله هو سر محنته، فيزداد شعوره بالاستلاب خوفا ورعبا “أطلق رغباتي من دون استعمال عقلي إذ يبدو لي أحيانا أن عقلي هو عدوي الأول” (ص9).
وعلى الرغم من استعمال ضميري الأنا وألانت؛ فإن الغلبة تظل من نصيب المخاطبة المرأة؛ بينما يقبع السارد/المرسل وحيدا أمامها وهو يريد مقاومة إغوائها مذعورا بظلّ يراقبه من خلف النافذة، ثم لا يجد بدًا من توكيد برمه بوجودها، مصورًا الأمومة بشذوذ، كأنها إغواء حيواني فيه الأمهات تأكل صغارها الذكور من شدة التعلق بهم “لا ترتوي أحشاؤها إلا بذكورته.. إنه هو نفسه ذلك الحب الذي يأكل حتى الجثث” (ص 18)، لكن محاولاته هذه تبوء بالفشل، موقعة إياه في المحذور وقد التصقت العنجهية بذكوريته فصار مثل الوعل “هكذا يلعب جمالك ضدك أحيانا.. فأقدم قرني أدق أظلافي في الأرض وأنفخ في التراب. أن أغار عليك يعني أني مغرم بك” (ص21)، وقد بدت قوة الوعل هي قوة القبضاي بجسمه المفتول العضلات وليس بعقله.
ومن أساليب تجسيد عجز الذكورة في امتلاك الأمومة داخل الرواية هو جعل السارد المرسل مستلبا بفقدان أوراقه الثبوتية، وبهذياناته الليلية، ومغامراته العاطفة الفاشلة، وضياع أحلامه، منهزما من ماض قاس، فيه كان سفاحا قاتلا وجاسوسا مأجورا ولاجئا مفلسا، لا يملك مالا للعودة إلى بلده، وعاشقا فقد الإحساس بالغيرة، وولدا عاقا لوالديه، وفردا مذعورا بخيالات ظلٍّ يراقبه من خلف النافذة.. إلى آخرها من صور العجز الذكوري التي تصب في صالح الأنوثة.
بهذا تغدو الذكورة غير لائقة بالأنوثة، ويكون الليل هو الحد الفاصل، الذي به تتحقق رغبة الأنثى في الانتقام ورغبة الذكر في الاستحواذ. والنتيجة هذيانات من جانب المرسل والمرسل إليه، واستدلالات من جانب المرسلة والمرسل إليها.
وإذا كان المذكر مستلبًا باللااستقرار المكاني، ومنهزمًا أمام الآخر، واقعا تحت سطوته رغما عنه، غير قادر على المواجهة إلا بالهرب إلى المجهول، فإنَّ في هذا الهروب جُنة وتحصنًا من فقدان رجولته، بعد أن أحكمت الأنثوية قبضتها عليه. وهذا الإحساس الذكوري بالفردية سينتهي بالوبال على المرسل والمرسل إليه، واللذين سيتركان المجال للمرأة مرسلة ومرسلًا إليها. وهذا ما يجعل مجرى السرد في الرواية يصبّ في باب التعددية الثقافية التي من صورها الجمالية تعددية الأصوات السردية، التي ستنطوي في خاتمة الرواية على مفارقة فنية، بها يسدل الستار على العنجهية الذكورية التي ستضيع بضياع الأنثوية، تماما كما ضاعت الرسائل بموت البوسطجي الذي سرد بصوت الأنا المرحلة الأخيرة التي بها استقرت الرسائل في حقيبته، ليكون آخر ذكر تقضي عليه أنثوية الترسيمة (المرسلة/الرسالة/المرسل إليها)
بهذا تنضم هدى بركات إلى فئة الكاتبات النسويات اللائي أدركن أن لا تعايش إلا بالتوافق الذي ليس فيه تابع ولا متبوع؛ وإنما هي الإنسانوية كنوع من الهدنة الفكرية بين الذكورة المستبدة والأنوثة المنتقمة. وباستيعاب إنسانوية الجنسين المذكر والمؤنث، يتخطى الواحد كراهيته للآخر، وقد نَزَعَ الذكر من رأسه فحولته وتفوقه، ورفعت الأنثى رأسها خارج إطار الجندرية والأنثوية. وعندها لن يكون لأيّ من الجنسين حضور إلا بحضور الجنس الآخر مشاركا ومكمّلا.