غياب الرواية البوليسية العربية
حازت الرواية البوليسية على مكانة مرموقة في الأدب النثري العالمي، وأصبح لها معجبون كثر نظرا لتنوعها وارتكازها على التشويق والإثارة.
وترجع جذورها الحقيقة إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت الروايات قائمة على موضوعات الجريمة والفزع واللصوص، غير أننا نجد إرهاصاتها في بعض قصص ألف ليلة وليلة، كما أن الأدب الصيني في القرن الثامن عشر تضمن بعض القصص التي يمكن اعتبارها قصصا بوليسية.
وهي رواية تأخذ المتلقي إلى عالم الجريمة والفساد، وهو عالم مليء بالطرق المتشعبة والمنحدرة، وغالبا ما تتحقق فيها العدالة، وهو الأمر الذي يثير القارئ ويحقق مراميه.
إن هذا النوع من الكتابة حقق النجاح، وهو لا يقل أهمية عن الأنواع الأخرى من الروايات، فله قيمته الأدبية وله التصاقه في التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها المجتمعات.
إن الإنسان بطبعه يعشق المخاطر ويميل إلى المغامرة وهو مغرم بالأسرار والأشياء التي تخفي تحتها الغامض والمربك، لذا انتقل هذا الفن ليتجسد في السينما وحقق إنجازات ضخمة.
وكتب كبار الأدباء في الغرب الرواية البوليسية والقصص التي تتناول الجرائم وطرق كشفها، فهناك إدجار ألان بو (1809 – 1849م) في قصة “جرائم شارع مورج” وكذلك تشارلز ديكنز (1812 – 1870م) في روايته “البيت المنعزل”، سنة 1853م، وحديثا حققت رواية “شيفرة دافينتشي” للكاتب الأميركي دان براون ورواية “اسم الوردة” للإيطالي أمبيرتو إيكو نجاحا كبيرا في الانتشار نظرا لقيمتهما الفنية حتى أنهما أصبحتا مرجعا للكتّاب الذين يبحثون عن الصياغة الفخمة للرواية البوليسية.
ترتكز الرواية البوليسية على حدث معقد يرتبط بمجموعة من الأحداث التي تتخللها المطاردات والتحقيقات لكشف ملابسات الجريمة بأسلوب متخم بالتشويق والإثارة، وهذا يحقق الدرامية الملتهبة في النص مما يمنحه الحيوية، والمتلقي ينجذب بقوة لهذه الدراما ويجد نفسه فاعلا ومشاركا في النص ويبحث عن حلحلة لغز الجريمة مما يحقق له المتعة واللذة من القراءة.
لم يهتم الأدباء العرب بكتابة الرواية البوليسية، بعكس كتاب الغرب الذين أبدعوا في هذا المجال، ولا شك أن أسباب انتشار هذا النوع من الروايات في الغرب نابع من تكوينات المدنية الغربية التي تضجّ بالحياة والمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان لانتشار الجريمة والعنف أن مهّد لهذه الروايات.
أما في العالم العربي ورغم أننا نملك مادة زخمة تصلح للكتابة، كوننا نرزح تحت حكم أنظمة بوليسية إلا أن الكتّاب العرب أهملوا الكتابة في هذا النوع من الرواية، وقد يكون السبب انشغالهم بالألم الذي تتركه الأجهزة القمعية أكثر من الاهتمام بأساليبها.
وقمت بالحديث مع الروائية العربية الفلسطينية حنان باكير المقيمة في النرويج وسألتها حول الموضوع، فقالت “إن همومنا الوطنية والاجتماعية أخذتنا بعيدا عن الأدب البوليسي، وهنا أتساءل إن كان هذا النوع من الأدب أكثر ما يزدهر عند الشعوب المرفهة والتي تتمتع بهامش من الحرية والراحة وغير المنهمكة في قضايا يومية شخصية ووطنية واجتماعية”.
وأضافت إنها شخصيا انغمست في موضوع الذاكرة الذي سلباها الكثير…”ربما هي تجربة تعلّقي بوالدي ثم فقدانه، فخشيت خسارة ذاكرته”.
أما الناقد والروائي وليد أبوبكر فقد عزا عدم الكتابة بسبب ظروف انشغاله بالعمل الصحفي، فيقول “رغم قراءتي للرواية البوليسية بكثرة لم أشعر بدافع لكتابتها لأن معظمها مجرّد تسلية أو إراحة دماغ، وغالبيتها لا تحمل أهدافا غير ذلك. لكن الشكل البوليسي في الرواية معترف به فنيا ومجرب، وقد اعتمدته روايات عالمية مشهورة، مثل رواية ‘العطر’. وقد أنسب روايتي ‘الوجوه’ إلى مثل هذا الشكل”.
ويضيف “فالرواية البوليسية تحتاج إلى الاسترخاء، وفن التلاعب بالأحداث بحثا عن غموض لا يتفكك إلا في النهاية، ولا أظن أن كاتبا عربيا يملك مثل هذه الرفاهية”.
فالمجتمع العربي ما زال بعيدا عن أن يفرز حبكة بوليسية، فالدراما غائبة عن الساحة الأدبية، و”لأن مثل هذه الحبكة لا تخرج إلا من مجتمعات تجاوزت القبلية وحملت من التعقيد ما لا تعرفه مجتمعاتنا التي يحسب الكاتب حسابا لما يحتمل أن يمسّ طواطمها الكثيرة”.
ونستنتج أن غياب الرواية البوليسية عن الساحة الأدبية العربية ناتج من انشغال الكتّاب بالهمّ الوطني وتركيزهم على آفات المجتمعات العربية من فقر وأميّة وقهر وظلم واستبداد، كما أنه من الصعب أن تسمح الأجهزة الشرطية في الدول العربية بنشر القضايا الجنائية التي تتفشى في مجتمعاتنا بحجة خطورة ذلك على المجتمع، ومحاولة إخفاء كمية الجرائم البشعة من قتل وزنا المحارم والتهريب والاغتصاب كنوع من المحافظة على القيم الدينية والأخلاقية!
هذا فضلا عن أنها تحتاج إلى مهارات خاصة قد لا يملكها الكتّاب، ولا ريب أن الخشية من تناول قضايا قد تكون حساسة تلعب دورها في هذا الموضوع.
الرواية البوليسية من أصعب أنواع الكتابة لأنها تتميز ببعد درامي عميق، وتحتاج إلى خيال مجنح وخلاق، دون إهمال العمق الثقافي الذي يرفع النص الروائي عاليا، ويضمن له الظفر.
وكي نشجع الروائيين على كتابتها لا بد من وجود الحوافز، ويمكن استثمار أجواء الجوائز واستحداث جائزة خاصة بالرواية البوليسية.