غيبوبة العقل
غياب الخطاب العقلاني يعني حضور الخطاب العصابي، خطاب الجماعة والأيديولوجيا، وغياب خطاب الحرية يعني تغويل خطاب الهوية. هذه المفارقات ظلت تثير جدلا واسعاً حول مرجعيات الخطاب والهوية، وحول علاقة الهوية بالسلطة والفكر والتكفير، إذ تلبّست هذا الجدل كلُّ تعقيدات العلاقة مع الماضي والتاريخ، وكلُّ أنماطِ الصراع التي تورطت بها الجماعات العصابية.
هذه المعطيات المتشظية تُعبّر- اليوم- عن ساسيات وثقافات ومضامين أفكارٍ يُراد تسويقها وفرضها على الجمهور، والتأسيس على حمولاتها السجالية كصورة لسسيولوجيا التغالب، تلك التي تكشفُ في جوهرها عن هشاشة الثقافي والمعرفي، وغياب النقدي مقابل حضور قهري لـ(الفكرة المتعالية) التي يطرحها الحاكم والفقيه والزعيم الحزبي بوصفها أنموذجا لوهم الفكرة التامة..
فصل هذا الخطاب عن مرجعياته الثقافية الإنسانية يعني تعويمه أولا، وخلطه مع أفكار الجماعات المهيمنة ثانيا، وبما يجعل فكرة الثقافة وفكرة الحرية وفكرة الحق خاضعة للتأطير النسقي الذي تصنعه الجماعة، حدّ تحميل هذه الأفكار باستيهامات (ظاهر الإيمان) وبمايجعلها بعيدة عن رسالتها الإنسانية والحقوقية..
لكن الظاهرة الأخطر في هذا الفصل تكمن في التواطؤ مابين السلطة وتلك الجماعات، والذي يعني إخضاع الهويات الصغيرة لصالح الحاكمية، مثلما يعنى فرض نمط معين للهوية (القاهرة) تلك التي قد تَلْبسُ لبوسات طائفية أو قومية أوحتى فقهية وبمرجعيات محددة، حيث تمارس تكفيرها العلني لهذه الجماعة أو تلك..
شكل الحكم/ السلطة هو الأكثر تعبيرا عن المحنة، لأن هذا الشكل يتمرس بجماعات الرعب، وبمرجعيات المقدّس، وأنّ اشتباك مفهوم الحكم مع مفاهيم الدولة والحرية والهوية سيكون نوعا من التكريس الاستبدادي لذلك الحكم والجماعة، وحتى صعود ما يُسمى بالتيارات الأصولية والجهادية لايخرج عن هذا الفهم، لأن مفهوم الجهاد بمعناه التاريخي والشرعي يتطلب وجود (العدو الكافر) النابذ للإيمان، وهو شرط غير مستوفٍ لظروفه، لذا يأتي فرض الجهاد، وعلى وفق ماتطرحه الجماعات الأصولية لتأكيد فكرة الحكم/ ولاية الأمر، ولممارسة نوع من الطرد الشرعي للجماعات المنافسة..
منهجية الفرض الأصولي تثير الكثير من الأسئلة حول مفاهيم أخرى تتعلق بالانتماء والتعايش وقبول الآخر، بما فيه الآخر الديني والعرقي والطائفي، فضلا عن التفاعل مع الغرب المسيحي، والذي باتت الجماعات الجهادية تمثل تهديدا وجوديا له، لاسيما بعد الأحداث الإرهابية التي حدثت في باريس وبروكسل والمانيا..
العقلانية والنقد..
السؤال الاشكالي هنا: مَنْ يملك الحق في الافصاح عن مشروع العقلانية؟ ومَنْ له الأهلية لممارسة النقد؟
هذا السؤال المُركّب يفتح الشهية لمواجهة سلسلة من التعقيدات التي يضطرب فيها العقل العربي هذا العقل أونظام الفكر كما يسميه البعض يتطلب وجودا وفعلا وتمكينا، وبخلاف ذلك ستظل العقلانية ممارسة عائمة، أو ضيقة الاستعمال، وفاقدة لشروط التأثير والقبول، وربما ستصطدم كثيرا مع التيارات الجهادية المؤمنة بهيمنة (النقل) في صياغة القدر الانساني وخضوعه، كما أن النقد، وهو ضرورة مهمة في اليات المراجعة والفحص، سيكون بعيدا عن الحرية، وبعيدا عن تلازمات التجديد والتجاوز التي تفرضها أطروحات الحداثة والعولمة والنظريات والمناهج الثقافية، وهي بالضرورة جزء من المشغل الغربي، وجزء من أنساقه التي وضعتنا أمام مجال اشتغالية فاعلة لحقول معرفية واسعة آخرها النقد الثقافي، إذ يمارس هذا النقد وظائفه النسقية من خلال الاشتباك مع المعارف الأخرى، ومن خلال استعادة الانسان الى الفعل الثقافي بعد أنْ اقترحت موته النظريات البنيوية واغلب المرجعيات الشكلانية..
الانخراط في الحداثة يحتاج الى الحرية، ويحتاج أيضا الى المؤسسة، والى النقد، بدءا من مؤسسات التعليم والتنمية والعمران، وانتهاء بنقد التاريخ والنص والمقموع والمسكوت عنه.. كما أن الحداثة تحتاج ايضا الى (الدولة القوية) اي الى النظام الحمائي المؤسسي الصياني، فالدولة الضعيفة كما يقول فتحي المسكيني (لاتنخرط تحت لواء العولمة لأنّها ضعيفة فقط، بل أيضا لأنّها لا تملك برنامج حريّة تكون قادرة على تنفيذه. والسيادة لا تمثّل ركيزة إلاّ بالنسبة إلى الدولة -الأمة الحديثة)
عدم الانخراط في العولمة والحداثة، وحتى رفض العلمانية بوصفها نقدا للثيوقراطية وفصلا للسلطات يؤشر الهشاشة التي تعيشها الدولة العربية الضعيفة، تلك التي تبدو وكأنها فاقدة لشروط صيروتها، ولضعف جماعتها الحاكمة في ممارسة فعل المراجعة والنقد، وفي القبول بوجود المؤسسات الخارجة عن منظومتها، بدءا من الجماعة المدنية، وصولا الى القبول باستقلالية القضاء والمؤسسة الجامعة، وضمان حق المواطنة والحرية..
الرفض الاسلامي للمغايرة يكشف عن غيبوبة العقل أمام صحوة النقل، وعن وهم استعادة مايسمى الآن بـ(الدولة الاسلامية) بوصفها الحل، والتعويض، رغم أنّها لاتعدو أنُ تكون نوعاً من إعادة انتاج الاستبداد الشرقي وفق النظرة الماركسية، أوتماهيا مع الاستبداد العربي/ الشرعي الذي ارتهنت اليه الأمبراطوريات الاسلامية المعروفة، تلك التي شرعنت وجود الآخر داخل منظومتها بوصفه طائعا أوذميّا دافعا للجزية، وأنّ حق النقد والرفض سيكون مروقا وزندقة وخروجا عن الجماعة والملّة..
غيبوبة العقل تعبير عن غياب النقد، وعن رفض الحداثة ومنجزاتها، وعن التعاطي مع أفكار التحديث من منطلق ماتمثله من ضدية للنمط، وللسلطة، وللجماعة، لاسيما الجماعة الطائفية التي بات تشظيها هو الخطر الماحق الذي يهدد بعض ما تحقق من منجزات خلال مرحلة نشوء الدولة العربية الحديثة في بدايات القرن الماضي..
أزمة الدولة ..أزمة العقل
قد يبدو صعبا ربط هذه الأزمات بعضها مع البعض الآخر، لكنها موجودة في حقيقة الأمر، لأن مايحدث من صراعات ومن عنف، ومن تصعيد للرعب الجماعاتي يكشف عن تدهور في استعمال العقل بوصفه تعبيرا عن الفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، مثلما يكشف عن رثاثة الدولة وضعف قدرتها في تأصيل مفاهيم السيادة، والحقوق والحريات، وهو مايعني الضعف في انتاج (المجتمع) مقابل الانكفاء للعصاب القرابي الذي تنتجه الجماعة، ومن هنا يكون التلازم مابين أزمة العقل وأزمة الدولة قارّا وواقعيا، لأنه يفترض الحماية ومنع احتكار السلطة/ الحكم، مثلما يفترض تأمين الحرية، وتامين حق استعمالها العمومي والخاص..
نحن منذ زمن نعيش هذه الأزمات، والتي تحولت- طوال عقود- الى مصدر مهم وخطير لإنتاج رعب السلطة، ومؤسسة لتكريس القمع الفقهي، فضلا عن فوبيا وإرهاب الجماعات وتكفيرها، والأخطر مافي الامر إنها صنعت لمريديها أطرا لسلطة بديلة، تلك التي تملك المريدين/ الأتباع، وتملك الثروة والقسوة وحق التصرّف بالقانون عبر سياقاته النقلية/ الشرعية..وهذا ما إنعكس على صورة الدولة العربية/ الاسلامية وأنموذجها الثيوقراطي، فضلا عن انعكاساته على ملفات تخص عمل المؤسسات الدينية، وهيمنتها وحسبتها، والكيفيات التي يمكن بها ممارسة الطقوس الدينية، أي أنها فرضت نوعا من المنطق التاريخي المغلق على تداول الخطاب الديني، وقطع الطريق على الإصلاح والتأويل والجدل والمشاكلة، وهو ما أكده أيضا الباحث فتحي المسكيني بقوله: إن أكبر عمليّة توثين للإسلام قد قام بها أهله، أكانوا علماء أو دعاة. الإسلام السياسي إسلام أداتيّ بحت. وليس فقط أداة سياسية. بل حتى الإسلام الفقهي أو الصوفي أو الوعظي أو الرسمي هو إسلام أداتي. يتمّ استدعاء نصوص أو كتب أو مصنّفات أو أقوال اندثر عالم الحياة الذي أنتجها، وباتت مثل تماثيل لا تكلّمنا.
إدارة ملفات الاقتصاد والأمن الاجتماعي والأمن التعليمي والأمن التنموي وغيرها.. مقابل إنتاج قوى جديدة تتسم بالتعالي والوهم والتوحش..