فخري البارودي من دمشق إلى العالم
صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الحديثة كتاب “الرحلة الأوروبية 1911 – 1912” للزعيم والشاعر العربي فخري البارودي، الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات للعام 2021، وتكتسب هذه اليوميات التي حققها وقدّم لها الكاتب السوري إبراهيم الجبين، قيمة استثنائية، حسب الناشر، لكونها تعبّر عن جوانب منها أحلام وتطلعات وأفكار شخصية نهضوية سورية ذات تطلع ليبرالي مبكر.
الرحلة المبكرة إلى أوروبا كانت فرصة للبارودي ليمتحن أفكاره المدنية، ويجد لتطلعاته النهضوية نموذجًا. ففي كل سطر من سطور هذه اليوميات ثمّة نفحة من أمل وهبة وتطلع، وطرفة تعكس روحًا توّاقة إلى الجديد المبتكر في حياة الأمم المتقدمة، لعله يكون مصباحًا هاديًا إلى زمن عربي جديد، عبّرت عنه هذه الشخصية، التي خاضت فور عودتها من أوروبا غمار نضال مجتمعي متعدد الأوجه: ثقافي، وفكري، وفني، وسياسي. فقد جعل البارودي من بيته في دمشق ملتقى للأدباء والمفكرين والفنانين والزعماء السياسيين على مدار أكثر من نصف قرن من الحراك اليومي لأجل المستقبل، وحوّله إلى قلعة مقاتلة في مواجهة الاستعمار الفرنسي والقوى الرجعية معًا، فأصبح البارودي بذلك أشهر زعيم دمشقي طوال النصف الأول من القرن العشرين، وبعض النصف الثاني منه.
”الجديد“ تنشر فصلاً مختاراً من الكتاب الذي يقع في 440 صفحة من القطع الكبير، والذي استعرض إضافة إلى رحلة البارودي إلى أوروبا، محطات حياته قبل الرحلة وبعدها، وآثار تلك الرحلة عليه وعلى المشاريع التنموية والفكرية والثقافية التي طرحها وحارب من أجلها في ميادين مختلفة.
السفر من دمشق
في عام 1911حصل لوالدي أشغال خاصة في الأستانة فسافر إليها في أوائل كانون الثاني، وكان بعض رفقائي في المدرسة وأكثر أبناء الصفوف الذين تخرّجوا بعدي سافروا إلى إسطنبول (الأستانة)، وكان والدي مصرّاً على التهرّب من الموافقة على سفري خشية أن أتعرّض للأذى هناك، فبقيت مُبَلبَلَ الفكر أضرب أخماساً في أسداس للخروج من هذه الورطة الوبيلة، وكنت أفكّر في أكثر أوقاتي بالحالة التي وصلت إليها وقد خطر لي خاطر كان شغلي الشاغل بعد سفر والدي، وكانت نفسي تحدثني بلزوم أن أسافر إلى أوروبا لتحصيل الزراعة في إحدى مدارسها طالما منعني والدي عن السفر إلى الأستانة. راجعتُ الأستاذ محمد بك كرد علي بهذه الفكرة فاستصوبَها وشجّعني عليها وما زلتُ أفكّر بها حتى تجسّمت برأسي.
وصرتُ كالمأخوذ إن قمتُ أو قعدت، إن نمت أو صحوتُ لا أفكّر إلا بالسفر، وجعلت الخيالات تمرُّ في مخيلتي مرور مناظر السينما، فبينما كنت أفكر في أيام المدرسة الماضية ينتصب أمامي المستقبل، فمرة أرى نفسي في مدرسة زراعية في فرنسا وأخرى أرى نفسي في دمشق، ثم تمرّ أمامي مناظر حياة عائلية فيها أولادي. يطلبون مني ”خرجيّة“ وأنا فقير، ومرة أرى السعادة في يدي وهي شهادة المدرسة الزراعية، ثم يمرّ في مخيلتي المجد والعلاء ومراتب العلم والأدب، وأخيراً تمكّنت الفكرة مني وعزمتُ على السفر إلى فرنسا والدخول في مدرسة زراعية فيها، لأني رأيتُ بعد شدة التفكير أنني لا يمكنني سحب فلس واحد من كدّ يميني في هذه البلدة، لأن الناس كانوا يعيّرون أبناء ”الذوات“ إذا اشتغلوا، فكيف أشتغل وأنا فخري بن محمود البارودي ووحيدُه؟ أيّ عملٍ يليق بي القيام به دون أن يعيّرني الناس فيه؟ أيّ صنعة أقوم بها دون أن ينقدني المجتمع فيها؟ ها هم أبناء الذوات أكثرهم عائشون في دور أهلهم يتناولون رواتبهم من آبائهم وهم في جهلهم يسبحون، أكبرُ شاب منهم لا يحسن قراءة رسالة أو كتابة مكتوب، فهل أبقى مثلهم أمدّ يدي لوالدي أشحذ منه راتبي الشهري بدلاً من أن تكون بيدي صنعة أساعد والدي من نتاجها؟
هذا بعض ما تشخّص لي، فوطّدتُ العزم على السفر وجمعتُ ما قدرت جمعه من المال فبلغ مائة وثلاثين ليرة فرنسية ذهبية، فدفعتُ ديوني منها، واشتريت أدوات طبخ وضعتها في صندوق خشبي صغير، ونقلت ملابسي التي اصطحبتها معي من ”الجوّاني“ دائرة الحرم إلى ”البرّاني“ ووضعتها في الحقيبة التي اشتريتها خصيصاً لهذه السفرة.
حضّرت الأشياء ويوم الجمعة الواقع في 15 شباط سنة 1911 وصلتني برقية من والدي من إسكندرونة يشعرني فيها بأنه سيصل إلى دمشق الأحد مساء، وخوفاً من أن يصل والدي إلى دمشق قبل مغادرتي إياها أسرعت بإتمام جميع ما يلزمني، وقطعت علائقي ودفعت ديوني التي لا تزيد عن بضع ليرات وأخذت البرقية إلى خال والدي عطا باشا البكري وعدت إلى الدار وأطلعت سيدتي الجدة لوالدي ووالدتي على البرقية، وقلت لهما إني سأذهب إلى دوما لأرى الأعمال وأعود غداً لأخبر والدي بعد وصوله بحسن سيرها، وأمرتُ الحوذيّ بإحضار العجلة (العربة) ونقلت الأمتعة إليها دون أن يشعر بي أحد، وبعد أن خرجنا من المحلّة إلى الشارع قلت له: اذهب إلى فندق ”أوتيل فيكتوريا“. وكان مكانه مقابل البنك السوري اليوم على ضفة بردى الثانية، ووضعت الحقيبة والصندوق في الفندق، وقلت للحوذيّ: اذهبْ إلى الدار وأخبرْهم أني بقيتُ في الضّيعة لأشغال ضرورية، وغداً صباحاً تعال إلى الفندق. وذهب الحوذيّ بالعربة وبقيت في الفندق.
صحوتُ في الساعة الرابعة وارتديتُ ملابسي بسرعة. وطرق النادل ”الكرسون“ الباب ليوقظني حسب طلبي في المساء، فوجدني جاهزاً، فأحضر لي ”عربة“ أجرة ونقل أمتعتي إليها، وكان الثلج يتساقط والبرد شديداً والشوارع مظلمة وليس فيها مصباح مضاء. وكان النور الكهربائي مقطوعاً من التكية كما فهمت من شرطي المحطة بعد وصولي. وكانت شوارع دمشق في تلك الأيام لا تفرق عن شوارع القرى، ولم تكن البلدة تعتني إلا بالشوارع التي تحطي بدائرة الحكومة، أما بقية المحلات، خصوصاً النائية كمحلة الميدان وقبر عاتكة وأمثالهما، فإنها كانت مهملة يخجل الإنسان أن يمر فيها من الوحول.
وبعد ساعة من خروجنا وصلنا إلى محطة القدم، ويعلم الله ماذا لقيت والحوذيّ من البرد في هذه المدّة القليلة، وكان وصولنا قبل وقت حركة القطار بمدة، فوجدت الكثيرين من الركاب ينتظرون القطار. وبقينا في المحطة والمظلات في أيدينا تحمينا من الثلوج. وفي الساعة السادسة تماماً تحرك القطار إلى حيفا وسبب سفري إلى حيفا أن طريق بيروت كان مسدوداً من الثلوج وبقي أربعين يوماً مسدوداً بين بيروت ودمشق.
سار القطار بنا، وكدنا نموت من البرد لأن أحد ألواح الزجاج مكسور وليس في العربات مدافئ عامة ”شوفاج سنترال“ وكانت عربات الركوب قليلة والركاب كثيرين، ولم أتمكن من إيجاد محل، وقد تحايلنا على النافذة المكسورة وسددناها ببعض الأمتعة. وكانت مناظر الثلوج المتساقطة على الحقول والجبال رائعة جداً، ولما وصلنا إلى جسر المقارن انقطع الثلج. وفي المساء وصلنا إلى مدينة حيفا.
الوصول إلى حيفا
لم أجد في حيفا فندقاً إلا فندق ”يعقوب ليفي“، ولم تكن الحالة بيننا وبين اليهود متوترة. وبعد أن استرحتُ قليلاً خرجتُ إلى السوق، وتناولتُ طعامي في دكان ”شوّا“، دكان قذرة على ”طاولة“ من الخشب ”مزّفّتة“ من الدهن الذي عليها، جعلت أدور في البلدة لقضاء السهرة فلم أجد مقهى لائقاً بالمسافرين، ووجدت مسرحاً يضربون على بابه بآلات موسيقية عسكرية ”كارينيت وبوكلي وطبل ترامبت“ فدخلت مع الداخلين، وكانت الأجرة نصف بشلك.
كان اللاعبون جوقة موسيقية تمثيلية مصرية. ولكن الجميع كانوا من الرجال وبعد أن أسمعونا شيئاً من الغناء خرجت راقصة ممشوقة القوام وأجادت الرقص وأحسنته أيما إحسان. مما استلفت نظر الجميع وبعد نزول الستارة خرجت تلم الإكرامية ”البالصة“ فصار الناس يداعبونها، وإذا بها شاب صوته عريض يقلد النساء بالرقص وعلى رأسه شعر مستعار، وقد فهمت أن ظهور الراقصات على المسرح لا يجوز، وهو ممنوع بأمر القائم مقام ومسموح للرجال تقليد النساء وكان هذا في البلاد العثمانية معروفاً مشهوراً، والأتراك يسمون الرجل الذي يمثل دور البنات ”زينة“.
في الصباح الباكر ذهبتُ أولاً إلى الميناء وسألت عن البواخر التي تسافر ذلك اليوم إلى الإسكندرية فأخبروني أن إحدى بواخر الشركة الخديوية المسماة ”قُصير“ ستصل العصر إلى حيفا وتقلع منها في الساعة الرابعة عربية ليلاً، أي في الساعة العاشرة زوالية مساءً.
وخرجتُ أفتّش عن محل ”عبدالله أفندي مخلص“ وهو من أصدقاء محمد بك كرد علي الذين يعتمد عليهم كل الاعتماد، وكنت أحمل إليه كتاباً من صديقه كرد علي يوصيه بي خيراً، فأرشدوني إليه في الميناء وكان مديراً لـ”عنبر“ مستودع السكّة الحجازية، فلما قرأ الكتاب رحّب بي ترحيباً قلبياً وأجلسني إلى جانبه وأحضر لي القهوة، وأخبرته خبري، فجعل يؤانسني ويشجّعني على المضي في طريق العلم، واستعلم عن قدوم الباخرة ”القصير“ وعرف أنها ستصل العصر، فأرسل بصحبتي أحد الكتاب المدعو رضا أفندي. وسِرنا إلى ”الآجنته الخديوية“ مركز فرع الشركة في حيفا لقطع تذكرة سفر، فتمنّع الموظف الإنكليزي عن إعطائي التذكرة لأني من دمشق، وكانت الحكومة المصرية لا تقبل دخول أحد الشاميين إلى القطر المصري خوفاً من أن يكون الشامي آتياً من الحجاز، وكانت بلاد الحجاز موبوءة في ذلك العام، وكان الخوف من دخول ”جراثيم الكوليرا“ إلى القُطْر. وعدتُ إلى عبدالله أفندي مخلص فقام وغاب مدة قليلة وعاد ومعه أوراق رسمية تثبت أني من موظفي الخط الحجازي ومن الذين لم يذهبوا إلى الحجاز في هذه السنة. وبناء على هذه الأوراق أخذتُ تذكرة سفر مع خصم 40 بالمئة لأني من مستخدمي سكة الحجاز.
وبينما أنا في الميناء بين ”العنبر“ و“الآجنته“ وإذ بسامي باشا مردم بك وهو من وجوه دمشق مع ابن عمه راشد باشا وبعض الدمشقيين مثل صادق أفندي جبري والدكتور سليم أفندي صبري وغيرهم من التجار الذين فاتتني أسماؤهم عرفوا بسفري إلى أوروبا ولا أدري من أين فهموا أني ذاهب دون إذن والدي، فتجمهروا عليّ وجعلوا ينصحونني بالعودة لأخذ إذن والدي وبعدها أسافر وأصرّوا عليّ، ولكني لم ”أَخزِ“ الشيطان على رأيهم، وبقيت مُصرّاً على السفر.
وعلى الرغم من أني لم أركب البحر في عمري، لم أخف ولم يُصبني الدوار، وكنت أشجّع الملاحين وأحدّثهم وهم يضحكون كأنهم ذاهبون إلى منتزه، وقد بحّ صوتي من شدة الصياح لأن هدير الأمواج كان يذهب بالصوت أدراج الرياح ودخلت العتمة وكثر الضباب وبعدنا عن البلدة ولم يعد يظهر لنا إلا نور مصابيحها.
أقلعت بنا الباخرة من حيفا، وما كدنا نبحر حتى اشتد البحر وهاج وجعل يلعب بالباخرة كما تلعب الريح بالريشة، وقد تحمّل الركاب، حتى بعض البحارة منهم، آلاماً شديدة من الدوار، وذهب كلُّ راكب إلى فراشه، وذهبتُ إلى ”قمرتي“ ونمتُ إلى الصباح نوماً متقطعاً حتى صحوتُ في الساعة السابعة من يوم الاثنين 20 شباط 1911 وصعدتُ إلى الظهر فوجدتُ الباخرة متجهة إلى يافا، والمدينة قريبة منا.
الوصول إلى يافا
صعد الباعة المتجولون من القوارب إلى الباخرة يحملون بضائع مختلفة أكثرها من مصنوعات القدس وضواحيها، وهي من خشبٍ محفور وأصداف مرصوفة ومسابح وصلبان وغير ذلك من المصنوعات التي يعدّها متدينو المسيحيين من الآثار المقدسة وركب في الباخرة كثيرون من زوار القدس من الأوروبيين الذين كانوا منقطعين في القدس منذ عشرين يوماً للنوء الشديد الذي حصل في ذلك العام، وفي الساعة التاسعة زوالية أقلعت بنا الباخرة من يافا. وفي الساعة التاسعة من صباح الثلاثاء الواقع في 21 شباط 1911 ظهرت لنا مدينة بورسعيد المصرية.
الوصول إلى بورسعيد
في الساعة الواحدة بعد الظهر ربطت الباخرة في الميناء ونزل أكثر الركاب رأساً إلى الرصيف دون استعمال القوارب، ونزلت مع رفيق تعرّفتُ عليه في الباخرة يدعى ”كرياكو بك“ وهو أحد موظفي وزارة الزراعة في الأستانة، أردنا التفرج على البلدة فحصلنا على رخصة من موظف جالس خلف منضدة من خشب وأمامه حاجز من الخشب ”كالدرابزين“ أخذنا إليه حمّالٌ في صدره قطعة نحاس محفور فيها رقمه. وكفلنا عند هذا الموظف بأننا سنعود بعد الفرجة على البلدة، وبعد أن تثبّت الموظف من أننا لم نكن في الحجاز، سمح لنا بالخروج، فخرجنا من باب يحرسه رجل يسمونه ”عسكري“ أعطيته ورقة ”العتاقة“ التي أخذناها فسمح لنا بالمرور، فخرجنا ودرنا في هذه البلدة اللطيفة التي أثّرت مناظرها بي تأثيراً كبيراً، لأني لم أكن قد خرجتُ قبلاً من دمشق.
واصلنا في سيرنا إلى دائرة البريد وكانت تسمى ”دائرة البوسطة“ فكتبتُ تحارير إلى والدي وأصدقائي، ووضعتها في صندوق البريد، وأتممنا الفسحة وتفرّجنا على الحدائق والشوارع.
ثم جلسنا في أحد المقاهي نتناول كأساً من الشاي، وإذ بجوقة موسيقية مؤلفة من نساء ورجال دخلت المقهى وجعلت تعزف القطع الموسيقية الإفرنجية مما لم يكن لي عهد به، ودارت إحدى النساء وبيدها صينية على الجالسين تستجدي منهم الأجرة، ويسمونها ”البلصة“ أو ”البالصة“.
وصلنا الباخرة وجاءنا الكفيل يطلب أجرته، وأقلعتِ الباخرة في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين، وسارت ببطء وانتشر الركاب أفراداً وجماعات في المماشي وعلى السطح.
الوصول إلى الإسكندرية
في الساعة السادسة من صباح الأربعاء في 24 شباط 1911 أيقظني ”الكرسون“ معلناً وصولنا إلى الإسكندرية، فأسرعت بجمع حوائجي ووضعها في الحقائب، وأفطرت ثم وقفت على سطح الباخرة أتمتع بمناظر المرفأ والسفن والحركة في هذا المرفأ الجميل، ورست الباخرة جانب الرصيف وفي الساعة التاسعة ونزل الركاب.
ولما صرنا على البر سألتُ عن البواخر المسافرة إلى مرسيليا وأوقاتها، فأعلموني أن باخرة ألمانية ستقوم مساء اليوم إلى مرسيليا اسمها ”البرنس هنري“.
الإبحار في المتوسّط
تحرّكت بنا باخرة البرنس هنري Prinz Heinrich وهي من بواخر شركة ”نورددوتشر لويد بريمن” Norddeutscher Lloyd Bremen وفيها 343 قمرة لعموم الدرجات؛ ”بريمو“ أولى، و”سيكوندو“ ثانية، وجميع القمرات فيها مغاسل تامة، وكلها نظيفة. وغير هذه الدرجات، يوجد السطح ويسمونه ظهر الباخرة، والسفر عليه في الصيف لطيفٌ جداً، أما في الشتاء فهو مزعجٌ لما يصيب الراكب من تبدّل الأنواء من الدوار.
كان البحر في غاية الهدوء والهواء عليلاً والركاب يمرحون في المماشي وعلى ظهر الباخرة يسيرون أزواجاً وفرادى. تقدّم مني شابان يتكلمان اللغة العربية جيداً باللهجة المصرية، أحدهما يُدعى المسيو باروخ بنطاطا، والثاني يدعى باصيل بصالتي، وكلاهما يهودي، وجلسنا في الممشى نتمتع بمناظر البحر والتموجات الخفيفة ونتحدث أحاديث مختلفة. وبدأ التعارف بين الركاب وكان بينهم رجل ألماني بدين يدعى ”الهر بريك“ خفيف الروح جداً لم يترك فرصة إلا اقتنصها للتفريج عن المسافرين وتسليتهم.
وبعدها انتحى كل جماعة من الركاب ناحية وجعلوا يلعبون الورق والشطرنج والنرد ودار باروخ ورفيقه باصيل على الحاضرين يسعون لتشكيل لعبة ”بوكر“، فتوقفوا لإيجاد بعض اللاعبين وسألوني: هل تلعب البوكر؟ قلت: لا. قالوا: تعال نعلمك إياها. قلت: لا أريد. قالوا: لماذا؟ قلت: لأنها في البدء لعبة بوكر، ولكنها في النهاية ”بوق بير“ ومعناها باللغة التركية ”أكل هوا..“. وكان جانبي رجلان يسمعان الحديث، فضحكا وكلماني باللغة التركية وهما روميّان، وكان هذا الحديث ورفضي اللعب سبباً لعقد أواصر الصداقة بيننا، أحدهما يدعى قسطاكي أفندي والثاني جورجي أفندي، وقد قضيت أكثر أوقات السفر من الإسكندرية إلى مرسيليا بصحبتهما.
ثم تقدّم مني شاب إيطالي وعرّفني بنفسه، ويدعى المسيو ميشيل سبيرناك، يتكلّم اللغة الإفرنسية بصعوبة، هذا الشاب جاءني يوماً إلى غرفتي، وجلس عندي يحدثني بلغة إفرنسية مكسّرة، ومع الأسف كانت إفرنسيتي مكسّرة أكثر منه، وبعد فترة من الزمن أخرج من جيبه رسومَ بنات عاريات بأوضاع مختلفة، ورسوماً أخرى فيها مناظر فحش، وأفهمني أن الباخرة سوف تقف في نابولي وأنه يعرف نابولي وله فيها صديقات من هؤلاء النسوة وقدّم نفسه لي كدليل خير يحب خدمة الإنسانية مقابل أجر طفيف لا يزيد عن الخمسين فرنكاً مقابل تعريفي بإحدى الفتيات الجميلات، فصرفته بالحُسنى وتجنّبته بعد ذلك، وعندما نزلنا في نابولي ”فركتُها“ منه.
جلست أطالع في كتاب ”تاريخ العباسيين“ وغرقت بالمطالعة ومرت أمامي تلك العصور الزاهية ثم أدوار الانحطاط، فتركت الكتاب وجعلت أفكّر بأمّتي العربية وهل يعود لها عزّها فترجع أمّة حية بين الأمم أم نبقى عالة على البشرية نأكل ونشرب وننام كالحيوانات؟
بقيتُ سابحاً بهذه الأفكار إلى أن نبهني إعلان الندل بضرب جرس الطعام. فنزل الركاب جميعهم إلى الموائد، ومن نعم الله عليّ أنني كنت ممن اعتاد أن يأكل على الطريقة الغربية.
هياج البحر
في اليوم الثاني من ركوبنا البحر اشتدّت الأنواء وكبر البحر وجعلت الأمواج تلعب بالباخرة لعب القط بالفأر، وداخ أكثر الركاب، وفي اليوم التالي هدأ البحر قليلاً وبقينا إلى المساء لا نرى إلا الماء والسماء.
وفي الساعة الخامسة ظهرت لنا أراضي صقلية، ثم بدأت تظهر لنا أراضي قالابريا عن بُعد. وبعد صقلية دخلنا ”بوغاز مسينا“ وهو مضيق بين أراضي صقلية وقالابريا. وبقيت الباخرة في المضيق أكثر من ساعتين ونصف والنوء شديد، حتى أن الموج كان عند ميل الباخرة على أحد جانبيها يضرب من فوق السطح، وعندما تستوي الباخرة تسيل المياه من الجانب الآخر.
وفي العاشرة من صباح السبت الواقع في 25 شباط 1911 قرع جرس الطعام فنزلنا إلى الغرفة متسائلين عن سبب تقديم الوقت، فقالوا إن الباخرة ستصل إلى ثغر نابولي.
الوصول إلى نابولي
في الساعة الحادية عشرة بانت لنا نابولي، وكلما تقدّمت الباخرة كانت تظهر لنا اليابسة، ونابولي ثغرٌ من أبدع ثغور البحر المتوسط، وهي في غاية الجمال بمناظرها الطبيعية فكأنّها عروسٌ قائمة على ساحل البحر المتوسط، فيها أشجار باسقة وبساتين بديعة.
وقرب الظهر وقفت الباخرة في الميناء وتقرّب مني المسيو سبيرناك الإيطالي متحكّكاً يريد أن ننزل معاً فيكون دليلي في نابولي، فرفضتُ بصراحة واستأجرت عربة.
الفن والفقر في إيطاليا
كان من أجمل ما رأيته في نابولي سوق الملك، وهو بناية على هيئة الصليب مبنية على شكل خطين متقاطعين مسقوفة بالزجاج، ويحسّ السائح من النظرة الأولى أن أكثر أهل إيطاليا من الفقراء. ومن يدقّق في وجوه الطبقة العاملة يرى فيها الشحوب ظاهراً، واستجداء الإيطاليين السكاير من السياح مباحٌ ولا يجد الإيطاليون أيّ عار بطلب السكاير من الغرباء. والدليل على كثرة الفقراء في ذلك الزمن وقوف عشرات النساء على رصيف الميناء ينتظرن الشبان الأغراب للاجتماع إليهن وكسب بعض الدراهم من بيع أنفسهن في سوق اللذة.
تمشيت إلى مطعم قريب وقلت ما دمت الآن في إيطاليا فلأجرّب أكلتها الوطنية، فقلت لرجل واقف ”مسير منجرية معكرونة“، فضحك ودلني على مطعم قريب وهناك طلبت بالإشارة صحناً من المعكرونة، فأحضروه لي بعد ربع ساعة مع صحن من الجبن المبروش وبالحقيقة وجدت بهذا النوع لذة فائقة لا نعرفها في المعكرونة التي نأكلها في بلدنا. وللطليان اعتناء تام بهذا الطعام ولهم في طبخه عدة طرق. وإني أقول: كما أن ”الكُبَّة“ هي الطعام الوطني للسوريين، ”فالمعكرونة” هي الطعام الوطني للإيطاليين والبطاطا للإفرنسيين.
وبينما أنا أتنقل في الميناء مرّ بي عدد من الشبان يحملون هياكل ”جبصين“ أو من الرخام الأبيض والملون المركبة مع المعادن، إنْ من أواني الزينة أو من أواني الاستعمال، وهي غاية في الإبداع والجمال، وهي من أشهر الصنعات في إيطاليا. كما أن أهلها مشهورون أيضاً بالموسيقى وصُنع أوائلها على اختلاف أنواعها. أما أهل نابولي فكانوا أسرق من الفار وأحرق من النار، وإيطاليا عموماً كانت مشهورة بتصدير اللصوص إلى العالم. وإذا لم يكن الغريب واعياً لا شك أنه يكون عرضة حتى لسرقة قبعته، ومما وقع لي أنه كان في رجلي عندما نزلت إلى نابولي ”كندرة صب“ خوفاً من الطين، ولما جلستُ في ”القهوة ـ المقهى“ ناديت ماسح أحذية ”بويه جي“، وبعد أن مسح حذائي أعطيته كندرة الصبّ ليمسحها، فمسحها ووضعها في جانبي وذهب، وما كاد يتوارى عن عيني حتى التفتُّ فلم أجدها وعبثاً حاولت البحث عنها، وقد راجعتُ البوليس الواقف فلم أقدر أن أفهمه مقصدي ولا فهمت منه ما قاله، وطلبتُ عوضي من الله.